نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الخامسة)

bhny

سكن جدّي لفترة من حياته في بناية مكونة من شقق. خلف تلك البناية كانت مساحة من المبنى حولها لمتاجر صغيرة وتمّ تأجيرها. أحد المتاجر أصبح قرطاسية وصاحبها والدي. كانت الرحلة اليومية لشراء شيء -أي شيء- من القرطاسية متعتي في العطل. وعندما انتهت كل أدوات القرطاسية الممكنة اقتنيت لعبة كاميرا ترش الماء من عدستها. قرب القرطاسية من البيت وتشاركها مع جدرانه كان خطرا على محفظتي الصغيرة.

في رحلتي الأخيرة لنيويورك تكررت الحكاية مع مكتبة 192 المذهلة! بيني وبينها ناصية واحدة، بضعة خطوات من الفندق إليها، وبطاقتي الائتمانية التي توقفت عن العمل في عدة متاجر لم تفعل ذلك هناك.

في المرة الأولى ذهبت لاستكشاف المكان. وما أحببته في المكتبة هو رفوفها المرتبّة أبجدياً، روايات وسير، وكتب فنية وكتب تصوير وقسمين أحدها للأطفال والآخر للناشئة. من كل كتاب نسخة واحدة -أو اثنتين على الأكثر- لكن في المكتبة مخزن خاصّ بالكتب. اذا انتهت النسخ على الرفّ تستبدل بجديدة، وهكذا تحتفظ المكتبة بترتيب حميم بأقل نسبة من الفوضى.

photo 4
192 books in Chelsea.

في زيارتي الأولى حملت عدة كتب وسألت عن كتاب “پاريس نيويورك” لصور فريد ستين وللأسف لم يكن متوفراً. أثرت حماسة البائع عندما أخبرته بأنني سأحضر اطلاق الكتاب خلال أيام وأردت الحصول عليه للاستعداد للتوقيع. طلبه من أمازون لكن المدة قصيرة جداً للانتظار.

واكتشفت بعد زيارة عدة مكتبات حول المدينة أن الكتاب لم يتوفر في أيّ منها، وكانت أول مرة شاهدته فيها يوم إطلاقه، ربّما أرادت المكتبة المستضيفة للمناسبة احتكاره لديها حتى انتهاء الحفل.

استمرت زياراتي للمكتبة الصغيرة قرب فندقي، مرة واثنتين، ومرة ثالثة مع أخواتي، ورابعة قبل عودتي للسعودية. وفي كل منها اكتشف كنزاً جديداً. اشتريت حكايات غريم لحصة أختي الصغرى، ورواية جديدة للفتيات ومجموعة قصص خيالية قصيرة. تحبّ قراءة روايات الخيال والرعب أكثر من الروايات الواقعية ولا أحاول تحديد مسار قراءتها ما دامت الكتب مناسبة لفئتها العمرية.

تغيرت طريقتي في شراء الكتب، وكلما قلت ذلك لأحد المقربين أجاب: لأنك وصلت لمرحلة اكتفاء ربما؟ ولكنني لا اكتفي، وهذا الولع والاهتمام يكلّفني كثيراً على ما يبدو.

المكتبة الثانية مكتبة پوسمان اكتشفتها في سوق تشيلسي، سوق ضخم بمتاجر الأغذية واللحوم، بعض المقاهي والمطاعم، ومحلات للانتيك والمجوهرات والملابس. مكان مثالي لقضاء نهار أو نهارات، وحتى في المساءات الممطرة وجدت نفسي أتجول بداخله. لديهم في هذه المكتبة تشكيلة أسميتها تشكيلة مناسبة للسياح، كتب جديدة أكثر مبيعاً، كتب قديمة، تذكارات نيويوركية ودفاتر ملونة وورق تغليف هدايا، صحيح مساحة المكتبة أكبر من تلك القريبة من الفندق لكنّ العناوين المثيرة للاهتمام قليلة جداً. أخذت منها كتاب پروست عن أيام القراءة، كتاب مقالات صغير ومميز. وأخذت مذكرة للعام ٢٠١٥م بلوحات فنية تصوّر نساء قارئات.

الشيء المهمّ الذي يلفت الانتباه في مكتبات نيويورك وربما في أغلب دول العالم: ثبات الأسعار. تذهب لأكثر من مكتبة وتجد الكتاب نفسه بنفس السعر المطبوع على الغلاف. لا زيادة وأحيانا نقصان في بعض المكتبات التي تعدّ عروضاً أسبوعية أو شهرية على ثيمة معينة.

photo 1
Strand Bookstore
Strand Bookstore
Strand Bookstore

في ليلة أخرى ذهبت لسهرة مع نفسي بين رفوف مكتبة ستراند -١٨ ميلاً من الكتب- . قلت بأنني في كل مرة أزورها أصاب بحالة هلع. كل هذه الكتب سأبحث بينها؟ سأشتري؟ أريدها كلها! بعد دراستي السابقة للممرات قررت الذهاب فوراً للدور الأرضي الموازي لخط سير المترو، هناك تباع الكتب المخفضة والمستعملة. وجدت كنوز في المرة الماضية وبحثت عن المزيد في هذه المرة، أخذت كتباً عن الكتابة الإبداعية، وفنّ كتابة المذكرات والسير الذاتية. أنا أكتب حالياً من الذاكرة لأنّ ما نسبته ٨٠٪ من الكتب التي اقتنيتها تنتظر خلف المحيط موعد شحنها للسعودية. لم يكن الوزن العائق الوحيد بيني وبين شراء المزيد. هناك انتباه من نوع خاص: هل سأقرأ هذا الكتاب الآن؟ بعد شهر؟ ثلاثة؟ وكلما زادت المدة التي أخمّنها كلما زادت المسافة بين يدي وبين الكتاب ومضيت مبتعدة بأسرع وقت قبل أن اضعف مجدداً.

من جديد لم يكن كتاب “باريس نيويورك” متوفراً على الرغم من سعة قسم كتب الصور والتصوير ورفوفه المهيبة.

Processed with VSCOcam with a3 preset

ثمّ جاء أحد أيامي المفضلة خلال السنة: زيارة جديدة لمكتبة مايكل السرية. هذه المرة لم اقتني الكثير من الكتب. كتابان في الفنّ أحدهما عن إدغار ديغا، والآخر عن روح الفنّ. الكتب مستعملة بطبعة قديمة نسبياً ولها رائحة عجائبية. أمضيت بقية الزيارة في تأمل الرفوف بلا هدف، والتحدث لساعات مع مايكل وضيوفه. حدثنا مايكل عن رأيه في تجمعات الـ AA المخصصة لمدمني الكحول المتعافين وما يحدث فيها من دراما وكثير من السخرية. يقول بعبارات بسيطة بأن مدمن الكحول يجد في زيارة هذه الاجتماعات إدمانا جديداً يشغله عن الأول. تفاصيل كثيرة قادته للحديث عن تجربته الشخصية وكيف قررّ الشفاء ذاتياً من مشكلته مع الكحول دون الحاجة لزيارة هذه الاجتماعات.

تحدث مع ضيوفه عن عالم جميل وددت لو انتقلت من أجله لنيويورك وبقيت هناك! اجتماعات قراءة شعر، توقيع كتاب صديق، وتعارف شباب الكتّاب في فصول دراسية للكتابة الإبداعية. كلّ هذا سيحدث خلال سبتمبر وفي الشهر الذي يليه وتستمر حياة الكتب في مدينة تحبّ الكتب كنيويورك.

تحدثنا عن الكاتب جوناثان ليثم الذي زرت توقيع كتابه العام الماضي ضمن مهرجان النيويوركر، وهو صديق قديم ومساعد لمايكل، كان يبيع الكتب في صغره في مكتبته ببروكلين قبل تحولها لمكانها السرّي. لجوناثان كتاب جميل لم انته منه بعد “The Ecstasy of Influence: Nonfictions, Etc.” مجموعة مقالات للكاتب تناولت عدة مواضيع عن حياته، حياته مع الكتابة، وغيرها. لديه أيضا كتاب مقالات آخر “The Disappointment Artist ” عن بدايته مع الكتابة وكل العناصر المؤثرة فيها. انتهت الزيارة بكثير من الأفكار، وكتابين فقط يا للدهشة!

photo 3
Three Lives and Company

في المنطقة الغربية من منهاتن، قرية غرينتش تحديداً. مكتبة الحيوات الثلاثة، “Three Lives & Company” أريد أن أقول لهم بأنني أحبّ اسم المكتبة كثيراً وكان داخلها أجمل! انتظرت لنصف ساعة في الخارج تحت الشمس لأنني لم أحمل مظلة، ولأنني وصلت باكراً. في المكتبة رفوف مزدحمة وكتب من دور نشر كبيرة وصغيرة، أحببت توفر المزيد من الروايات العالمية التي لا نجدها عادة في المكتبات التجارية أو التي تتبع خط استهلاك القرّاء. فيها تشكيلة جيدة من كتب NYRB ، و Penguin. كتب الشعر أيضاً كثيرة. هناك اقتنيت الكتاب الذي يشاركني آخر الليل مؤخراً، وأحمله في كلّ مكان.

كتاب “البحث عن فلسطين” لنجلاء سعيد ابنة إدوارد سعيد. قرأت فيه على عجل في الليلة الأولى وشغلتني عنه المدينة.

photo 1

في مطار جون كينيدي عدت لمواصلة القراءة وكان الكتاب رفيقي الجيّد خلال ساعات الصحو. في انتظار الرحلة جلس إلى جواري مجموعة من اليهود الارثودكس وكانت عين شيخ كبير منهم على الغلاف، ضحكت داخلي لمصادفة حملي للكتاب في هذا اليوم، في هذا المكان. تجاوزت منتصف الكتاب بالقراءة المتأنية، وفيه سيرة مرحة لفتاة تبحث عن هويتها الحقيقية. ذكرتني تساؤلاتها وصراعها الشخصي بكتاب والدها “خارج المكان” لكنّها ذكرتني أكثر بكتاب آميلي نوثومب “بيوغرافيا الجوع” أحد أقرب السير الذاتية إلى قلبي. ولا أمانع في قراءته مرة واثنتين وثلاث.

photo 3

في العاشر من سبتمبر الماضي توجهت لمكتبة PowerHouse Arena في بروكلين لحضور إطلاق كتاب المصور الشهير فريد ستين “پاريس نيويورك”. المصور توفي منذ سنوات لكنّ اطلاق الكتاب جاء على يدّ ابنه پيتر ستين المصور السينمائي وحفيدته كاثرين فريير. كان حديث عائلي بامتياز، تبادل الابن وابنته الحديث عن المصور، رحلته من ألمانيا مرورا بباريس وصولاً إلى نيويورك. مع التركيز على الأسباب التاريخية التي دفعته للهجرة القسرية ومن بينها الحكم النازي لألمانيا وتهديده لليهود. الفكرة من الكتاب جمع صور الحياة اليومية التي التقطها فريد ستين بين باريس ونيويورك، مع تفاصيل سيرته وصور لأشهر البورتريهات التي التقطها. بعضها نعرفها بالنظر لكننا لا ندري حقيقة من هو مصورها. كنت هناك لاكتشاف فريد ستين بعد رؤية أعماله خلال السنتين الماضيتين وهو الوقت الذي بدأت فيه الاهتمام بفوتوغرافيا الشارع وأهمّ مصوريها. لفريد ستين نمط معين فهو يمسك بالكاميرا قرب جذعه وينظر في شاشتها الصغيرة ليحدد مساحة التصوير، لم يكن يستخدم الكاميرا التقليدية التي يحتاج إلى النظر من خلال عدستها، هناك لقاء مباشر بينه وبين موضوع التصوير، يشعر الناس بالراحة فتكون صورهم كذلك. هناك قصة مهمّة عن تحول فريد ستين من تصوير الشارع لتصوير البورتريه ويوجزه ابنه بيتر في متاعب الظهر التي بدأ يعاني منها وعدم قدرته على المشي لمسافات طويلة حول نيويورك. هكذا، دبر له الأصدقاء فرصة اللقاء بشخصيات مهمة لتصويرها من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: البرت آينشتاين، هرمان هسه، توماس مان، حنة آرنت وجورجيا أوكيف.

بيتر ستين وكاثرين فريير يقومان بعمل جبار للحفاظ على أرشيف فريد ستين. يجوبون العالم بحثاً عن ما يمكنهم إيجاده من الصور المفقودة، ويقيمون المعارض وخلال اطلاق الكتاب تحدثا عن وثائقي ضخم يعده الابن عن والده وشاهدنا جزء مقتبس محفز منه. حصلت على نسختي الموقعة واستمتعت كثيراً برؤية الصور وسماع الحكايات عن قرب. خلال كتابة هذه التدوينة وجدت في يوتوب وفي موقع المصور فريد ستين تسجيل فيديو عن مشروع بيتر وابنته وعن المصور بشكل عام يمكنكم مشاهدته هنا والتعرف عليه أكثر.


.
.

Fred Stein Fine Cut from Kate Freer on Vimeo.

photo 2

لم اقرأ الكتاب بعد، فقط تصفحته سريعاً ونظرت للصور مثل الأطفال. فكرة حصولي عليه أشعرتني بالأمان حتى أعود لاكتشافه.

 * * *

في كل رحلة لي خارج البلاد، أبحث عن الكتب كبحثي عن كنز وأكثر. في مدينتي فرع لمكتبة جرير وتحولت تدريجياً على مر السنوات إلى قرطاسية ضخمة لا أجد فيها ما احتاجه من الكتب. أعيش على رحلاتي السريعة لمكتبات تبعد عن مدينتي عشرات ومئات الأميال. وانتظر كل عام سفري وسفر الأصدقاء للحصول على الكتب. ما عادت الكتب الإلكترونية تمتعني كالسابق. أصبحت احتاج الورق لأقرأ وأحاول جهدي لتحمل الشاشات في حالة الكتب الممتعة. أحلم بمكتبة عظيمة توفر لي كلّ ما أبحث عنه، وإذا لم توجد، قد أكون أنا من يؤسسها بإذن الله : )

8 تعليقات على “نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الخامسة)”

  1. السلام عليكم،،
    أستاذة هيفاء أستمتع بكتاباتك ،، و أنا أشاركك حلم المكتبة،،

    و أتمنى أن أراكِ يوماً ،، و أعرفك عن قرب،،

    إيمان

  2. وقعت مدونتك بين يديّ صدفة، سعيدة جدا بالقراءة هنا.
    منذ الصباح وانا احاول ايجاد طريقة استطيع بها اقناع صاحب مال ونفوذ بدعمي في فتح مكتبة راقية وحميمة، ثم اقرأ امنياتك هنا!

    سندس

  3. أهلا هيفاء..
    متابع عتيق “لقصاصاتك الملونة”.. طبعا لم تتسنى لي الفرصة لكتابة تعليق أو حتى تسجيل إعجاب

    عموما.. لفت نظري كتاب نجلاء سعيد “Looking For Palestine” ليس بسبب عنوانه أو لونه, بل لأنني وجدته في مكتبة جرير البارحة في ركن الـ “Autobiography” الصغير والهزيل والمخيب للآمال, ولأنيي من عشاق السير الذاتيه فلم أجد شيئا يحرضني للشراء..
    ماهو أنطباعك الأولي عن الكتاب؟ أقصد كتاب نجلاء, وهل كتب بالعربية ثم ترجم؟ أم انه كتب بالإنجليزية أساساً؟

    طلب آخير.. أسماء أو “لسته صغيرة” لـ “سير ذاتية” أو “Memoier” تستحق القراءة أو حتى المحاولة!

    1. مرحبا فتى الظل،

      اعتذر عن تأخري بالرد، أنا في انشغال كبير مؤخراً وأحاول ألا أنسى المكان.
      أتمنى أن تقتني الكتاب وتسمتع به، لغته بسيطة وممتعة حتى لمن لا يتقن الانجليزية بشكل كبير. كتبته بلغة انجليزية وليست لدي فكرة اذا ترجم للعربية حتى الآن، فهو جديد نسبياً.
      القراءة لها ذكرني بسيرة والدها “خارج المكان” أحببتها كثيراً وأثرت بي حين قرأتها في وقت احتجت فيه للنظر إلى آخرين يعانون في دوامة الهويّة! أحببت قراءة سيرة مالكولم اكس، وبيوغرافيا الجوع لآميلي نوثومب، سيرة جبرا ابراهيم جبرا بجزئيها “البئر الأولى” و”شارع الأميرات”. هناك أيضا “عشت لأروي” لغابرييل غارسيا ماركيز، و”بلدي المخترع” لإيزابيل آييندي، وكتابيها “باولا” و”حصيلة الأيام” أيضا هناك كتاب جلال أمين “ماذا علمتني الحياة؟” في ذاكرتي الكثير من السير الممتعة لكن هذا ما وصلته سريعا في ردّي. لستُ اعرف اهتماماتك لكن اتوقع هذه ستغطي كثير من الاهتمامات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.