كفّ هرّة في قلبي

 

بعمر التاسعة سكنت عائلتي منزل جديد. ما زال هذا المنزل مكان أحلامي، وما زلت ما وجدت حلّ لهذا اللغز. ٨٠٪ ربما أو أكثر من أحلامي وكوابيسي اليوم تبدأ في ممرات ذلك المنزل الذي أحبّه كثيرًا. وحتى سنة انتقالنا من الجبيل كنت استغل مروري في المنطقة لعبور الشارع وتفقدّه ما استطعت. بنى صاحبه دور ثاني فوق الدور الأرضي وشوّهت مزيد من الغرف العشوائية حديقته الرائعة.

كانت أمي تقف على قطعة اسمنتيه لترتفع قليلًا فوق السور وتتفقدنا ونحن ننتظر الباص على الناصية. تعلو رأسها شجرة عظيمة – ربما لو وقفت بجانبها اليوم ستكون أصغر –. تلتقي أعيننا ونشعر بالأمان في الشمس والمطر والبرد الشديد. هذا الطقس وغيره حقق خلّد هذا البيت في ذاكرتي.

جدران غرفة المعيشة والمطبخ والمخازن لها لون كريمي فاتح، أما غرف النوم فجدرانها مغطّاه بورق حائط منقط. نقط متفاوتة الحجم كأنها لطخات حبر.

لم يعلم المصمّم الذي صنع هذا الورق بأنّه كتب أجمل حكاية قبل النوم لطفلة في التاسعة، نعم لقد فعل ذلك دون أن يعلم أو تراه فعلها عامدًا متخيلًا آلاف القصص والاكتشافات التي سيخرج بها أصحاب البيوت من حواراتهم مع الجدار؟

بين آلاف النقط تظهر لطخة صغيرة تشبه كفّ هرّة، أربع نقط صغيرة حول نقطة أكبر. تتكرر اللطخة هذه على امتداد الجدار. وكنت كلّ ليلة قبل النوم أحصيها. امرر يدي على الجدار الملاصق لسريري وأعد الكفوف، واحدة اثنتان ثلاثة تنتهي في المساحة القريبة منّي واتحرك ببطء لنهاية السرير لكنني لا ابتعد كثيرًا حتى لا أوقظ أخواتي الغافيات.

كيف واصلت العمل ليلة بعد ليلة حتى تجاوزت العاشرة وأصبحت أغفو من إعياء الدراسة أو القراءة أو اللعب.

لو عرفت اسم لهذا الورق، أو مصممّه سأكتب له رسالة مطوّلة. لقد صنع من الجدار منصة ترفيهية حقيقة. تعلمت منها التفكير والتركيز والبحث والصبر، والصمت الطويل.

أبحث اليوم عن لعبة تشبه لعبتي تلك، واشتري الكتب المليئة بالأحجيات، وأحلّ الكلمات المتقاطعة وأبحث عن الكلمة المفقودة واكتشف الفروق السبعة والعشرة.

لا شيء يشبه طبعة كفّ الهرّة ولا شيء ينجح في امتلاك انتباهي بالكامل، حتى القراءة، حتى الكتابة، حتى مشاهدة مسلسل عميق وصادق.

.

.

.

6 تعليقات على “كفّ هرّة في قلبي”

  1. تدوينتك أعادت لي الكثير من الذكريات التي لم تخطر ببالي منذ زمن، حين كنت أيضاً احصي اشكالاً معينة في سيراميك المطبخ أو بلاط الأرض، حين كنت اختار شكلاً ما يتكرر على السجادة وابتكر لعبة بالقفز عليه دون سواه
    شكراً لجمال حرفك :’)

  2. لا أعلم اذا كان ذلك يظهرني غريبه ولكنني الى الوقت الحاضر ارى وجوهاً تصرخ وكائنات فضائيه وحسناوات مرسومه بدقه في التعرقات الرخاميه على الجدران والارضيات اينما ذهبت كلها تنظر الي الى ان اعيرها اهتمامي 😁

  3. صباح الخير..
    استمتعت بالتدوينة و لفتني جزء الأحلام في مكان معين..أنا أيضا عجزت عن إيجاد سبب لكون أحلامي وكوابيسي مرتبطة بمكان معين و أشخاص محددين في فترة من حياتي ربما تكون قريبة مابين التاسعة والثانية عشر من العمر.
    لدي الآن بيت جميل امتلكته بجهد و لدي أبناء يمثلون معنى الحياة والحب حرفيا لكني رغم ذلك لم أرى أي شيء من هذه الأشياء الحديثة في أحلامي أبدا، وتسائلت قبل فترة هل لامست الأماكن القديمة والأشخاص في تلك الفترة عمقا في الروح لم يلمس فيما بعد ؟!

  4. سكنا في بيت عندما كنت في الرابعة تقريباً من عمري وانتقلنا منه بعد سنة انتقلنا من المدينة كلها وأصبحنا نزوره في الإجازات أحيانا حتى بعناه لاحقاً ومازال مسرح لأحلامي! كنت دائما أجده أمرا غريبا ونسيته حتى قرأتك هنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.