روما: مدينة محضونة بالخضرة والحبّ

بدأت كتابة هذه التدوينة في صالة مكتظة بالمسافرين. ودّعت والدتي قبل نص ساعة وانطلقت للحاق برحلتي إلى باريس. حرارة المكان وتململ الجالسين ووقوفي لوقتٍ طويل قبل إيجاد كرسيّ خالي كل هذا سبب لي الانزعاج وبعض الدوار. اعتدلت في مكاني منتصرة – حصلت على كرسي. تركت اغراضي بعد ايماءة من رأسي للجالس قربي: أرجوك راقبها من فضلك. لم أقل شيئا فقط إشارات بيدي ورأسي ورفع لي ابهامه موافقًا. اشتريت قبل أيام كتاب تذكاري يصوّر أشهر إشارات اليدّ الإيطالية وما تعنيه اللغة غير المنطوقة.

اخترت شرب فنجان كابوتشينو أخير في العاصمة “الحلم”! وجلست لالتقاط أنفاسي وتدوين كل ما أود تذكره عن الأسبوع الماضي. اعتمد طريقة تدوين مختلفة هذه المرة مبنية على الذاكرة المصوّرة في جهازي -وقلبي. امسك مذكرتي الورقية وابدأ ببناء مخطط مقسّم على الأيام والتجارب. مبدئيًا قسمت المحتوى لعدة تدوينات وهذا ممتع!

سيكون لديّ فرصة أكبر للحديث عن المتاحف والمعارض والأعمال الفنية التي وقفت أمامها وإعادة التفكير فيها بالكتابة يحقق لي التجربة الغامرة والأثر الممتد. أحببت في زيارتي لروما سقف التوقعات المنخفض الذي منحته لها. خطط مرنة قابلة للتغيير، البطء والتعرف تدريجيًا على المكان. مقارنة برحلاتي الأولى لمدنٍ أخرى، كنت املأ جدولي بالكثير من التجارب والأماكن وأشعر بالإرهاق والغضب لاضطراري أحيانًا لتأجيل تجربة أو إلغائها بعد الدفع!

 

لم أضع الكثير من الفعاليات على الأجندة، لكنني فكرت جيدًا في اختياري للفندق. أردت أن نحظى أنا ووالدتي بعطلة منعشة والبداية تكون في الفندق الذي سنقضي فيه ساعات الاستجمام الأطول. اخترت فندق لوكارنو البوتيكيّ الذي يعود تاريخه للعشرينيات ميلادية من القرن الماضي. بني المبنى الرئيسي على طراز الآرت-نوفو المعماري الذي كان الطراز الأحدث آنذاك. أما المبنى المجاور الذي ضمّ إلى الفندق لاحقًا فيعود تاريخه إلى ١٩٠٥ للميلاد، فقد كان منزلًا لعائلة عريقة من فينيسا.

حافظ المكان على تاريخه مع إضافة لمسة حداثة لكلّ شيء. تقنيات وأثاث عملي وإنارة متميزة. لكن الزوايا القديمة تظهر فيه بوضوح. وفي ركن خفيّ بعيد عن قاعة الاستقبال الدافئة خزائن زجاجية تحتضن صور وسجلات وقصاصات من السنوات التي مرّت على المكان. ساكنيه الأشهر، وتفاصيل مثل الأواني والتذكارات. 

الغرف ليست واسعة بشكل كبير، لكنها مثالية في التصميم. بمجرد وصولنا أنا ووالدتي افرغنا حقائبنا في الخزائن. وأصبحت الحركة والحياة أسهل! أعلم أن هناك أجنحة أكبر في المكان وغرف عائلية مبهرة لكنها بطبيعة الحال أغلى سعرًا.

بالإضافة للتصميم والهدوء والخصوصية العالية في الفندق، أحببت أنّ المشي منه لأبرز المعالم حوله سهل جدًا. فهو على بعد دقائق من ساحة الشعب الصاخبة خلال النهار، والمحاطة بالمتاجر، والمقاهي، والمطاعم. بالإضافة إلى قربه من منطقة السلالم الإسبانية.

وبالنسبة للخدمات فالمطعم الرئيسي للفندق يقدم وجبة إفطار رائعة -وفعلت شيئا مختلفًا هذه المرة فقد حجزت الغرفة مع الإفطار. نستيقظ أنا ووالدتي ونهبط للطابق الأرضي وكأننا في منزل ضيوف حميم. نفكر في شهيتنا هذا الصباح؟ حلو أم مالح؟ ما هي القهوة التي نودّ تجربتها؟ وكلّ اشتراطات طعامنا مجابة والموظفون مرحّبون. وننطلق في يومنا بعد ساعة أو تزيد من الاستمتاع بتناول الوجبة إما في صالون الطعام الداخلي، أو في الباحة الوسطى مع العصافير التي تلتقط من أطباقنا فتات الخبز وقطع الجبن.

 

استحضر وأنا أكتب التدوينة الآن نعمة تجربة السفر مع شخص يختلف عنك في الكثير من الأشياء. والدتي تحب الهدوء والبطء وتبحث دائمًا عن فرصة للراحة والانعزال في الإجازة. تذكرت عبارة حفظتها في ملاحظاتي كتبتها مدونة في نشرتها البريدية:

“لقد كان لديّ الكثير من الوقت غير المحدود للقيام بالأشياء التي أحبّها، وشعرت بقدر كبير من الإلهام والامتنان الذي كان مفقودًا في حياتي مؤخرًا.”

 

تفرّغت تمامًا لتذوق الخضروات والفواكه الشهيّة بعد حصاد سبتمبر، وذهلت من لذة زيت الزيتون وحاولت تتبع عناصره ذات مرة لأجد معلومة عن المزرعة التي جاء منها: زرعت أشجار الزيتون بين كروم العنب لتعطيها هذا المذاق المختلف. قطع خبز ساخنة وقليل من الزيت ورشة من الفلفل الأسود كانت بداية وجبتي الأولى في روما. وصخب الشارع يتسلل عبر الباحة الخلفية للفندق. لسيارات الإسعاف هنا نغمة مختلفة عن أي مكان آخر. مزعجة لكنها ستبقى في ذاكرتي بعد مغادرة المدينة.

الوصول لمكان جديد يشعرك بالتحدّي والتوتر. مثل قطة متحفزة أحاول تذكر الشوارع ومداخل الأحياء وكأنّي لا أملك خريطة استشيرها لاحقًا. للوهلة الأولى تخيّلت أن روما معركة ينبغي الانتصار فيها. ولكن مع مرور الوقت تهذّبت مشاعري وقررت أن اكتشفها بهدوء وعلى مهل.

في كل مرة أخرج من الفندق اقرأ الشوارع الصغيرة بعمق واتأمل المارة والعاملين. وفي اليوم الأخير خلال ساعات الركض وتسوق الهدايا. وجدت الشعور اللطيف الذي كنت ارجوه: شعور العودة إلى المنزل! حيث الفندق ومطعم البيتزا الدافئ وصاحبته التي أصبحت صديقتي ووالدتي وأهدتني في ميلادي احتفالية إيطالية وفناجين مدموغة باسم المطعم: أصبحتِ الآن عميل ذهبي مهمّ جدًا.

في روما تتبعت خطوط الزمن على واجهات المباني، والأرض، ووجوه الشيوخ والعجائز. رأيت أثر الزمن على أشجار الصنوبر التي زرعت على التلال العالية. تلوّن الرخام في الفاتيكان، ومياه النافورة العذبة التي عاشت هنا مئات السنين. عندما أخبرتني موظفة الفندق في اليوم الأول أن النوافير وأماكن التزود بالماء البارد العذب في المدينة وفيرة. كل ما عليك فعله هو حمل مطارتك أو عبوة الماء في كل مكان واملأها واستمتع.

جمعت في هاتفي عشرات الصور لكل ما يشدّ انتباهي من تفاصيل بناء تذكرني بشيء أو مشهد أو شخص. تعبت وفي إحدى المرات ضحكت من نفسي قبل أن ألقي بهاتفي في الحقيبة معلنة الاستسلام: هذه المدينة أكبر من صورك يا هيفا!

لفت انتباهي أيضًا استعدادات المدينة لاستقبال أكثر من ٣٥ مليون حاجّ كاثوليكي احتفالًا بسنة اليوبيل ٢٠٢٥. الكثير من أعمال الإصلاحات والبناء والتي رافقها بعض الاقفال لنواحٍ من المدينة أو معالمها التاريخية. وصلتني رسائل تستوضح مدى سوء الأمر، ولكن في حالتي لم أواجه أي صعوبات في الجهات التي زرتها فقد حظيت بتجربة سلسة ومتكاملة.

رحلتي إلى روما كانت لعدة أسباب: زيارة مكان جديد، الاحتفال بعام والدتي الستين، ويوم ميلادي الثاني والأربعين في منتصف كلّ هذا. الكثير من المصادفات السعيدة واللحظات المنتظرة وبعض الازمات والتعقيدات طبعًا فهذا هو وجه الحياة الذي أعرفه.

هذه هي التدوينة الأولى في سلسلة قصيرة سأحكي فيها عن روما.

شكرًا لكم على متابعتكم وحضوركم الدائم.

ما الذي يمكن حدوثه في عشر سنوات؟

 

هذه التدوينة ولدت في المسودة قبل عدة أسابيع، وكلما مرّ أسبوع جديد غيرت عنوانها بتاريخ الأسبوع التالي وهكذا. صراع طويل مع الوقت ومع التركيز ومع رغبتي بالكلام وانعدامها. الفرصة سانحة هذا الأسبوع لأنه الأخير قبل عطلة قصيرة. شحنت حماسي هذا الصباح لأنتهي من كتابتها ونشرها. في رأسي تدوينات مستقبلية ستولد في العطلة بإذن الله، ولأفسح لها المجال ينبغي أولًا الانتهاء من هذه.

أحببت وصفًا سمعته لمدونة تتحدث عن الخريف وما يعني لها، هنا لا نرى تبدل الفصول كثيرًا لكننا نشعر بها. في الرياض مثلا تصبح ساعات منتصف اليوم أكثر احتمالا في الظل. وأفكر في الصباح هل حلّ وقت سخان الماء بعد؟ أو يمكنني احتمال لسعة البرودة في الماء؟ الأطعمة تتغير في السوبرماركت وفواكه الصيف اللذيذة تودعنا تدريجيًا.

“الخريف هو بداية السنة” قالت بحماس! وفكرت في وصفها. يرتبط الخريف بعودتها للمدرسة وشراء القرطاسية والملابس والأحذية الجديدة ورؤية الأصدقاء. وبالنسبة لي هو كذلك. بالإضافة إلى اقتراب شهر ميلادي والشهر الذي قررت فيه قبل عقد من اليوم الانتقال إلى مدينة جديدة.

قبل عشر سنوات بالضبط كنت في الجبيل، بعد رحلة طويلة إلى نيويورك بصحبة موضي أختي. كانت هناك لحضور أسبوع الموضة وكنت رفيقتها في الاكتشاف والتجول. عدت وبدأت فورًا تحديث سيرتي الذاتية، وانطلقت للبحث عن وظيفة في الرياض. العروض الوظيفية لم تكن مغرية في البدء، وقضيت شهري أكتوبر ونوفمبر في التردد بين المدينتين لإجراء المقابلات والاستعداد.

في مرة ذهبت لمقابلة وظيفية وقدمي مصابة. الليلة السابقة للمقابلة وقفت على زجاج مهشم ونزفت قليلا لكن الوقت لم يسمح بزيارة الطبيب. لففتها وذهبت بخطوة مائلة. وحصلت على الوظيفة.

لم أفاجأ بسرعة القرار، هذه هي طريقتي في كثير من المواقف: الهروب إلى الأمام!

٢٠١٤ كانت سنة جميلة وممتعة ومفصلية. نُشرت في بدايتها ترجمتي الأولى. ولاحقًا كتاب ساهمت في ترجمته برفقة مجموعة من المترجمين العرب.

قرأت كثيرًا.

شعرت بالفوضى والقنوط.

وتبدّلت كما تبدّلت الفصول.

في اللحظة التي أغلقت حقائبي ومضيت عرفت يقينًا أن الحياة لن تعود إلى ما اعتدته. واليوم من هذا المكان أكتب وابتسم لكلّ الذكريات العجيبة والمحزنة والمبهجة التي غمرتني في مسكني الجديد.

كلما حاولت تذكر الأيام التي سبقت انتقالي للرياض أفشل في ذلك. الأمر المؤكد الوحيد هو الكلمات التي دوّنتها. أذكر فقط ما كتبته. كلّ شيء تبخر وتخففت تدريجيًا من كل الأشياء التي ارتبطت بتلك الحقبة. آخرها مفتاح غرفتي الذي حملته بين الصناديق وأظنّ الباب نفسه لم يعد موجودًا.

أغمض عينيّ أحيانًا واتذكر يومي من الصباح للمساء، كيف مشيت في الممرات وحيدة، كيف كانت وجبة الإفطار؟ ما الكتاب الذي قرأته؟ تساعدني كتاباتي القديمة ويومياتي، وذكريات انستقرام في النظر لتلك الأيام وتذكرها بحبّ. اتجاهل الألم والفوضى وانعدام الاستقرار الداخلي.

إننا نحقق أماننا عندما نستقر.

عندما نشعر بوجودنا بكثافتنا وبثقلنا على الأرض.

وهذا كله كان مفقود في الشهور الأخيرة قبل انتقالي للرياض. صديقات الطفولة تبدّلن في لحظة وحملت نفسي مسؤولية الانغلاق على الذات والاكتفاء بصديقتين لأكثر من عشرين عامًا!

ما إن انتقلت للرياض حتى فتحت المدينة ذراعيها. ولا أقصد مجازيًا فأهلها وكرمهم وحبّهم احتضنوني في أصعب مراحل الانتقال: الانفصال التامّ عن حياتي السابقة والانخراط في المجهول.

عندما يسألني أحد اليوم ما هي أفضل علاقاتك الاجتماعية؟ أو ما هي أجمل أيامك؟ عدا سنوات الطفولة الأولى. أجزم أنها العشرة الأخيرة منذ انتقالي للرياض.

تنتابني الكثير من المشاعر هذه الأيام وأنا أتذكر أيامي الماضية، وما حققته، وهذا الحلم الطويل الذي انتظرته ومع الركض أنسى أحيانًا أن أقف واتأمل. الحمد لله على ما مضى وما سيأتي.

تغيّرت أشياء كثيرة فيّ. حتى طريقة تفكيري وتفاعلي مع الأمور-للأفضل طبعًا. ومع تغير أماكن العمل والأشخاص الذين مررت بهم ومرّوا بي اكتسبت الكثير وخسرت الكثير بالمقابل. ولكن، لم يتغير الكثير. هواياتي الأصيلة ما زالت منتعشة وصامدة، وفضولي، وحبّي للتعلم، والتحسين.

لا شيء قاطع ونهائي أبدًا!

هذه الحقيقة تبهجني.

انتظر بحماس السنوات القادمة، ميلادي الثاني والأربعين، عطلتي القصيرة المنتظرة، واستعادة الذكريات وتسجيل أخرى.

.

 

 

is it over now?

في متجر سيزان الفرنسي في حيّ مارليبون اللندني وقفت بانتظار خلو غرف القياس. احتضنت بين ذراعي علبتيّ حذاء وجدتها بعد بحث طويل، لكن القصة ليست هنا. في طابور الانتظار القصير وقفت سيدة سبعينية مع ابنتها (عرفت من الشبه العظيم) والتفتت لأنظر لكنزتها القطنية: I love your sweatshirt.

 كانت الكنزة المميزة جزء من قطع الملابس الكثيرة التي غرقت بها المدينة والدولة (إذا تذكرت أدنبرة كذلك). حملت صور منوعة للمغنية الأمريكية تايلر سويفت. أثنيت على كنزتها وعلقت بسرور: شكرًا اقتنيتها ليلة البارحة! وقلت لها إذا كنّا في الحفل سويّة. انطلقنا بالحديث عن الحفلة الممتعة وعن مشهد دخول ترافيس كيلسي. “لقد ظننت أنه سيجثو على ركبته ويتقدم لخطبتها أمام ٨٩ ألف متفرج” ضحكنا من اشتراكنا في الفكرة الرومانسية أنا والسيدة السبعينية، واستدركنا: لا نعتقد أنها ستقبل بمشاركة هذه اللحظة الحميمة أمام المتفرجين. كيف وصلتم هنا؟ لقد انتصرنا في الحرب العظيمة – وهذا المصطلح الذي أطلقه جمهور تايلر سويفت على حرب التذاكر، إذا حصلت على تذكرة هذا يعني أنك انتصرت في الحرب. أخبرتها أن قصتي بدأت عندما أبلغتني أختي الصغرى بحصولها على تذكرتين للحفلة قبل سنة وعدة أشهر. والآن لنخطط للرحلة. لم أكن أكيدة من سهولة الترتيبات لكنني قررت تركها للحظة الأخيرة. ومع مرور الأيام بدأت الصورة تتضح أكثر: سنبني رحلة الصيف بين لندن واسكتلندا وحفلة تايلر سويفت.

لم تكن هذه هي الرحلة الأولى التي أحضرها في حياتي، لكن في كل المرات السابقة كانت الفرق الموسيقية أقلّ جماهيرية بشكل ملحوظ. أحبّ هذا الاختصاص الذي لا يزاحمني فيه الآلاف. أحضر بحماس وأغني الكلمات وأذكرها.

ما لم أتوقعه أو استعد له هو هذه الجولة التاريخية لتايلر سويفت والتي بدأت نسختها الأولى العام الماضي وجالت العالم. كانت الحفلة في نقطة عمياء من تفكيري. حتى قررت حصة أختي ضخّ الحماس بداخلي وبدأت أولًا بإعداد قائمة أغنيات تتكرر في كلّ حفلة: خذي اسمعيها واحفظي الكلمات!

بدأت الاستماع لتايلر سويفت في بداية ظهورها عندما كانت طابع الأغاني الشعبية الأمريكية Country music يغلب عليها (وما زلت أحبّ هذا النوع من الأغاني حتى في انتاجها الحديث).

وأخبرتني لاحقًا بأنّها جهزت قائمة بالأغنيات التي تعتقد أني سأحبها، وفي كلّ مرة كنت اشاركها واحدة كانت تضع علامة بجوارها. لا أعرف ما أسمي هذا الارتباط الذي بدأ بالنموّ. شعرت أن علاقتنا دخلت مرحلة مختلفة، مرحلة اهتمام مشترك وفراشات صغيرة تملؤنا بالتساوي. صندوق الرسائل بيننا في انستقرام امتلأ بمقاطع من حفلات سابقة وأغنيات وتوقعات لقائمة الأغنيات المفاجئة التي ستؤديها سويفت في كلّ حفلة.

كل ما جاء لاحقًا لم يكن متوقع.

قبل سفرنا بعدة أسابيع بدأت نشرات الأخبار البريطانية تذيع التقرير تلو الآخر عن شكل المدن التي ستعبرها الحفلات وفرص العمل والوظائف التي أوجدتها الحفلة. يمكنكم معرفة المزيد بالبحث عن هذا الموضوع تحديدًا ورؤية الأرقام والنتائج المدهشة التي حققتها في أمريكا والعالم. لكن مشاهدة التقارير التلفزيونية شيء ورؤية الحياة في المدينة بانتظار الحفل شيء آخر.

لم يكن حضور الحفلة هذه اعتيادي لأنّها جاءت بمتطلبات مثيرة للاهتمام، هناك اختيار الزي من الحقبة المفضلة لك: Taylor Swift, Fearless,Speak Now, Red, 1989, Reputation, Lover, Folklore, Evermore, Midnights, The Tortured Poets Department.

والمحصلة كانت أني اخترت Folk-more  ودمجت حقبتين سوية. فستان كحلي مورّد وزينت وجهي بكريستالات صغيرة حول عينيّ!

بالإضافة لاختيار الملابس كانت مهمة تجهيز العديد من أساور الخرز الملون لتبادلها مع الحضور أو الاحتفاظ بها كما فعلت (لم أرد تبديل أساوري مع أحد فقط صنعتها أختي لأغنياتي المحببة: (Cruel Summer, Lover, Anti-Hero

كان الحماس لحضور الحفلة في كفّة ودخول ملعب ويمبلي في كفة أخرى. هذا المكان الحلم الذي وددت زيارته منذ تسعينات القرن الماضي عندما كنت متابعة مهووسة للدوري الإنجليزي. تحتفظ أختي بتصوير فيديو مليء بالمشاعر لي عندما عبرت البوابة الصغيرة باتجاه المدرّجات. ومع أن أرضية العشب الأخضر مغطاة بالكامل بتجهيزات المسرح والحفلة إلا أنني إذا أغلقت عيني بالشكل الكافي يمكنني تخيل المباريات التي أقيمت هنا.

هذا الاستطراد مربك.

لنعد قليلًا إلى الوراء، عندما وصلنا للمدينة المكتظة وهذا وضعها الطبيعي كلّ صيف. وكل صيف هو “موسم لندن”. جموع البشر، واجهات المحلات، أغنيات المتاجر بطوابقها المتعددة. تايلر تغنّي في كل مكان. وفي بعض المتاجر ستجد مجموعات أساور ملونة، أو أحذية رعاة بقر، أو سترات جينز مطعمة بالكريستالات. هذه الاحتفالية الرائعة مهدت لأسبوع من الانتظار والترقب. دون مبالغة في كلّ مكان ندخله، مطعم أو متجر كان، أو خلال جولة بالسيارة ستسمع شخصًا ما في الواقع أو على الراديو يتحدث عن تايلر سويفت وحفلاتها المتسلسلة.

قبل الرحلة بعدة أسابيع فكرت في ليلة الحفلة وازدحام المترو وصعوبة واخترت حجز غرفة فندق قرب الملعب، والنتيجة الصادمة أن أسعار الفنادق في محيط الملعب تضاعفت لعشر و١١ مرة! فكرت أن هذا جنون غير مبرر، وبحثت أكثر حتى حصلت على عرض جيد وتضاعف سعر الليلة المعتاد لثلاث مرات فقط وهذا أفضل بكثير من عشر مرات. ضمنت على الأقل تخفيف القلق الناتج من ترتيبات المواصلات وضمنت أيضًا الذهاب باكرًا بعد الظهر لترك متعلقاتنا الشخصية في غرفة الفندق والاستعداد للحفلة بهدوء والتوجه للمكان في الوقت المناسب.

كنت أهدئ من توتري بقولي: إذا كانت هذه الحفلة مناسبة لطفلة في الرابعة من العمر ستكون مناسبة لي بالتأكيد. وهذا ما حدث! تنظيم المكان والدخول والمرافق كانت أكثر من رائعة. لم أشعر بالانزعاج أو التعب خلال ساعات الحفل. ربما بسبب اختيار المقاعد فلا يمكنني تخيل نفسي مع الجمهور الوقوف في ساحة الملعب والذين اضطروا للحضور للمكان قبل ساعات طويلة ليضمنوا زاوية جيدة. لم تغب الشمس باكرًا وهذه من محاسن موعد حضور هذه النسخة ففي الصيف يمتد النهار حتى قبيل العاشرة مساء.

في خزانة الذكريات في غرفتي احتفظ بأساور الخرز الملونة، والسوار المضيء الذي تحققت من بطاريته ليعيش طويلًا. هذا السوار المضيء جزء من تجربة الحضور، ترتديه في يدك ويومض بألوان متنوعة تتبع الفقرة التي تؤديها المغنية على المسرح. السوار جزء من الاندماج الكامل الذي شهدته لآلاف البشر في مكانٍ واحد. الكلّ يغني الكلمات حتى لم تعد تسمع نفسك! وكلما اشتد الصراخ والحماس كنت أجلس على كرسيي واتأمل المشهد. لا أتقن الكلمات، ولا أعرف سر الصراخ، لكنني مغمورة بهذا الحبّ العظيم. والفرح الذي رأيته في قفزات أختي ومتعتها. ماذا لو وضعته في علبة واستعدته كلما احتجت له؟

في بداية الحفلة تقول تايلر أننا من الآن وصاعدًا كلما سمعنا أغنياتها سنتذكر اجتماعنا هنا، سيكون للذكريات شكل آخر.

شكلنا معًا.

أنا وأختي.

أنا وأختي في طريق العودة وهي تحمل حذائها في يدها من التعب.

أنا والسيدة السبعينية في انتظار غرف القياس.

أنا ونادلة المقهى في أدنبره وهي تشتكي من آلام ظهرها بعد حفل الأسبوع السابق.

أنا والفتيات الصغيرات وهنّ يغنين ملء رئاتهن.

أنا والطفلة المتعبة عند مصعد الفندق وأمها تحملها.

أنا وكل من عبر الطريق باتجاه بوابات ويمبلي.

أنا وهيفا الصغيرة المبتهجة الآن، جدًا.

 

بين المواجهة والتخلّي

مع كلّ بداية أسبوع جديد أجلس لكتابة المهام التي يجب إتمامها سواء كانت شخصية أو مرتبطة بالعمل. أفكّر في الصراع الذي أخوضه وأنا أدون هذه المهام وابدأ بالتسويف وهي في رأسي قبل أن أضعها على الورق. التأرجح بين التخلي عن الأمر تمامًا أو التأجيل أو إجبار نفسي على إتمامها على مضض مع كثير من الثقل والتردد. المصادفة الطريفة أني مررت بتدوينة لـ ليو باباوتا تتحدث عن نفس الفكرة، وتعطي بارقة أمل باقتراح ما يمكن فعله في هذه الأحوال. هذه التدوينة نسخة مترجمة عن الموضوع -مع الكثير من الاختصارات. ليو يقترح علينا التفكير في خيارات أخرى غير التأجيل الكامل والإجبار على العمل.

ومن بين هذه الخيارات:

  • اختيار الراحة والابتعاد عن المهمّة ومن ثمّ العودة إليها عندما نكون أكثر انتعاشًا.
  • إيجاد الأسباب التي تلهمنا للعمل على المهمة والتمسك بها حتى عندما نشعر بالتعب أو الضجر. مثل تذكّر الهدف الأكبر والرؤية العامة لنا. أو البحث عن الأثر الذي يتركه هذا العمل على حياتنا وحياة الآخرين. باختصار إيجاد قيمة أصيلة نضعها نصب أعيينا كلما شعرنا بالتراخي.
  • طلب الدعم والمساعدة من الآخرين. لا تخجل من طلب المساعدة بكل أشكالها. كيف يمكن للآخرين مساعدتنا في هذه المهمة؟ أو حتى تشجيعنا وجعلها أكثر متعة.
  • ابتكار منهج إبداعي يساعدك في تنفيذ المهامّ ويشجعك على احترام جهودك.

وهكذا يوجز لنا ليو الموضوع ويشجعنا على التفكير في الأمر من زاوية مختلفة وكلما اتسعت الخيارات كلما أظهرنا لأنفسنا الاهتمام والرعاية اللازمة.

ويتحدث أيضًا عن نزعتنا الفطرية لاختيار أحد الخيارين الأولى: الامتناع والتجاهل التامّ أو العمل بإجبار. ونحنُ في هذه الحالة لا نتخذ قرارًا خاطئًا باختيار أحدهما، لكن التصرف بنفس الطريقة كلّ مرة سيمنحنا نفس دائمًا نفس النتائج: فالتجنب يجعلك عالقًا ويوقظ بداخلك الأحكام الذاتية القاسية، وإجبار نفسك على العمل يجعل تشعر بالعبء، والإرهاق، والتعب، والهمود. إن معرفتنا الذاتية بهذه النزعة تهيئنا للتفكير في تجربة أمرٍ مختلف. وستشجعنا في اختيار رعاية الذات عبر التأكد من العمل دون إرهاق، وإنعاش أيامنا بطريقة نحبّها. وبدلًا من إجبار نفسك للعمل على مهمّة للانتهاء منها وتجاوزها جرّب واحدة من الخيارات أعلاه.

وأنا اقرأ التدوينة وأنقلها هنا تذكرت مهمة أجلتها ثلاثة أشهر! وبعد أن انتهيت منها خلال ساعة أو أقل بقليل ضحكت كثيرًا من نفسي. هذا الانزعاج والتأجيل والتجاهل كان سينتهي بشكل مختلف لو أني قررت يومًا ربطها بنشاط ممتع مثل مشاهدة فيديو على يوتوب أو الاستماع لكتاب صوتي أو التحدث مع صديقة على الهاتف. بالضبط الأمر بهذه البساطة، وشعوري بعد الإنجاز مذهل.

كانت لدي خزانة بأربعة أرفف كبيرة ملأتها بأنواع متعددة من القرطاسية والأقلام والألوان وبدأت بحشر كل شيء صغير من هدايا ولُعب وتذكارات، وزجاجة ماء منذ ديسمبر الماضي! كل يوم أدخل الغرفة التي أصبحت مكتبة ونادي رياضي لتستقبلني الرفوف وفوضاها وزجاجة الماء. أسافر وأعود لأكدس المزيد وأؤجل ويزداد غضبي من نفسي وكسلي.

نهار السبت الماضي بدأت بالعمل بالإضافة لإعادة تنظيم أرشيف يومياتي للسنوات الماضية وتخزين الدفاتر في مكان جيد. أفرغت الرفوف وتركتها شبه فارغة في مواضع، بينما ملأت الجزء الآخر منها بالكتب التي أقرؤها حاليًا، وأدوات الرسم، وبعض الأغراض اليومية والأقلام.

وأقيس على هذه المهمة غيرها من القائمة التي أسميتها «أبدية» على أمل العودة إليها قريبًا. سيكون منتصف نهار السبت لأشهر قادمة موعدي. أختار نشاط ممتع، وأحاصر مهمة مؤجلة وهكذا. حتى تنتهي كلها بسلام.

كيف يبدو شكل عنايتك بذاتك؟

سألتني المرشدة خلال جلسة اليوم.

رُشحت في أكتوبر الماضي للانضمام لبرنامج تدريبي يركز على القيادة بالذكاء العاطفي. هذا البرنامج التدريبي المعدّ خصيصًا لي ولفريق ممتد في جهة عملي ينوّع بين جلسات الإرشاد الشخصية والجماعية. وفي كلّ مرة نجتمع لورشة جديدة أخرج بحصيلة معلومات وأفكار قد لا تكون جديدة بالضرورة لكنها مختلفة والنظر إليها من زاوية جديدة أمر بالغ الأهمية.

سألتني ولم أتردد لحظة في الإجابة، ربما لأن الموضوع يشغلني دائمًا. كيف اعتني بنفسي؟ بروحي على وجه التحديد. لن أتحدث عن العناية بالذات المرتبطة بالعناية بالجسد كزيارة صالون الأظافر، أو صبغ الشعر، أو التمرين اليومي. ولا تلك المرتبطة برحلات التسوق في الواقع وفي العالم الافتراضي.

أجبتها بأنني استمتع بوقتي وحدي، والتخطيط لنهاية أسبوع كاملة أكون فيها مع نفسي في عزلة اختيارية يحيط بها الصمت. ويصاحبها البدء بمشاهدة مسلسل جديد أو فيلم أحبه ولا يجد اهتمامًا من صحبتي. قد أكتب قليلا أو ارسم، أو أسدّد مديونية النوم بعد أسابيع الأرق.

في العادة أقضي الوقت مع اخوتي أو صديقاتي وحتى خيارات الفعاليات أو الترفيه نختارها بشكل جماعي. هذا الوقت الذي أخصصه لنفسي ويتضمن إلغاء الخطط، والتوقف عن عمل أي شيء. هذا الأمر يأتي بالتوازي مع التوقف عن التوقع أو الانضمام للجماعة ويعطيني شعور بالطزاجة – إذا أمكنني استخدام هذا الوصف. يشبه تصفير عداد الركض. أريد التفكير والنظر للأشياء بشكل متفرد. أن يكون تفاعلي لجزء مع الوقت مع العالم الخارجي بلا شائبة أو تأثر بمن هم حولي.

كانت الفكرة في رأسي ممتدة وذات أوجه عدّه، لكن عندما كتبتها هنا تقلصت! لديّ رغبة دائمة في الاختصار وأرى أنها تحققت هنا.

وأنتم كيف يبدو شكل عنايتكم بذاتكم؟