لا أعلم متى كانت اللحظة الحاسمة التي أدركت معها أن مساحة حياتي العملية والشخصية اختلطت تمامًا بلا عودة! ربما كانت مجموعة من المواقف، أو الوقفات؟ أو اللحظات التي سألت فيها نفسي: لمَ أترك العمل ولا يتركني؟ أغلق الجهاز وأعود للمنزل وتبقى إشارات وتنبيهات البريد تلكزني لتربك سلامي. أذكر قبل سبع سنوات تقريبًا مررت بلحظة قررت بعدها ترك وظيفة والبقاء في المنزل بلا خطة حتى أعيد ترتيب كلّ شيء. كنت محظوظة بأني امتلكت خطة توفير مسبقة ومبلغ مالي يساعدني في اتخاذ قرارات الوظيفة التالية من منطلق قوّة. لم أكن أبحث عن توازن مثالي وتامّ لكن فاصل صحي، يجعلني أعمل بذهن صافٍ وأعطي كلّ ما لديّ، وفي الوقت نفسه مزاج طيّب ومساحة استرخاء دافئة.
لم أكن دائمًا الشخص الذي يبني هويته الكاملة حول حياته المهنية، لكني وقعت في الفخ لفترات قصيرة وأنقذت نفسي بأعجوبة. الانغماس الكامل في العمل لم يترك أثرًا جيدًا عليّ. صحتي وحياتي الاجتماعية وعلاقتي بهواياتي ومفهوم الراحة والإنجاز بشكل عامّ تأثرت.
هذه التدوينة لا تدّعي إيجاد الحلول لكل من يعاني من هذه المشكلة، لكن فيها خلاصة تجربة شخصية، وبحث، وأفكار مساعدة. لكل منّا تجربته الشخصية التي قد نتشابه في بعض تفاصيلها ونختلف في أخرى. كانت مشكلتي مع الجانب المهني من شخصيتي ليس انمساخ تامّ ليصبح يوم العمل كل ما اتحدث عنه أو أفعله، بل غياب الحدود بين تلك المساحة ومساحتي الشخصية. إذا لم تكن هذه مشكلة تعاني منها فهذا عظيم! وإذا كانت هذه مشكلتك تابع القراءة وقد اقترح عليك شيئًا ملهمًا.
خلال بحثي عن الموضوع وجدت مصطلحًا يستخدمه علماء النفس “التورّط – Enmeshment” وهذا وصف لحالة تتلاشى فيها الحدود بين الأشخاص وتفقد الهوية أهميّتها. لكن في حالة حديثنا هذا يصبح التورّط مع حياتك المهنية. وكان هناك مجموعة من الأسئلة لتساعدك على اكتشاف تورط حياتك الشخصية وهويتك مع حياتك المهنية:
- ما مدى تفكيرك في وظيفتك خارج المكتب؟ هل عقلك منشغل بشكل متكرر بأفكار العمل؟ هل يصعب عليك المشاركة في حوارات مع الآخرين لا تتعلق بعملك؟
- كيف تصف نفسك؟ ما مدى ارتباط هذا الوصف بوظيفتك أو منصبك أو شركتك؟ هل هناك أي طرق أخرى تصف بها نفسك؟ ما مدى سرعة إبلاغك للأشخاص الذين التقيتهم للتو عن وظيفتك؟
- أين تقضي معظم وقتك؟ هل اشتكى لك أحد من قبل أنك تقضي وقتًا طويلاً في العمل أو أداء مهامّه؟
- هل تملك هوايات خارج العمل لا تتضمن بشكل مباشر مهاراتك وقدراتك المتعلقة بالعمل؟ هل أنت قادر على قضاء وقتك باستمرار في تمرين أجزاء أخرى من دماغك؟
- ما شعورك لو لم تتمكن من الاستمرار في مهنتك؟ هل الفكرة مزعجة لك؟
هذه الأسئلة مناسبة للتأمل كبداية! هل أثارت قلقك؟ أو شعرت بأنها مبالغة وغير منطقية؟ قد تكون المرحلة الأولى لتقييم الوضع من قراءة الأسئلة والاجابة عليها بصراحة – ولا مشكلة من استشارة شخص تثق به فأحبتنا دائمًا يصدقوننا القول في هذه الحالات. كيف يمكننا إذًا مقاومة هذا التورّط وتعلم كيفية الفصل الصحي بين حياتنا المهنية والشخصية – كضرورة لرفاهية العيش؟
هذه خطّة مبسطة (مقترحة) لتفكيك المشكلة وحلّها.
المرحلة الأولى: الوعي والتقييم.
- ما الذي تمر به الآن؟ وما الذي تأمل في الحصول عليه؟ (هل تبحث عن الاسترخاء؟ ممارسة الهوايات؟ قضاء وقت أطول مع العائلة والأصدقاء؟ أو مساحة للنمو الشخصي والتعلّم؟) معرفة الدوافع يساعدك على البقاء في المسار الصحيح.
- راجع وقتك الحالي، تابع أسبوع من حياتك وكيف تقضي وقتك فيه خارج ساعات العمل. هل تفضل كتابة الملاحظات في مذكرة أو حتى مذكرة الهاتف الرقمية. كلما كنت صريحًا وصادقًا مع نفسك كلما توصلت على لبّ المشكلة بشكل أسرع.
- أين تتسرّب حياتك المهنية لوقتك الشخصي؟ مثلا: التحقق من رسائل البريد الإلكتروني بشكل مستمر وبعد ساعات العمل، تلقي المكالمات والرسائل والردّ عليها، أو التفكير في العمل بشكل مستمر بحيث يطغى على يومك.
- كيف شكل مساحتك الشخصية المثالية؟ هذا النشاط ممتع حقيقة ومبهج، يذكّرني بورشة عمل قدمتها قبل سنوات وتدوينة هنا عن صناعة يومك المثالي. نفس الفكرة إنما على نطاق أوسع لتشمل كافة جوانب حياتك. قد تكون مساحتك المثالية هي عدة ساعات من القراءة بعد ساعات العمل، أو طبخ طبق شهيّ لعائلتك، أو لقاء صديق مساءً بلا مشتتات رقمية أو مهامّ عمل.
المرحلة الثانية: وضع الحدود
تضمّ الحدود عدة أشكال ويمكن تصنيفها باختصار إلى:
- حدود مادية: كمنطقة العمل المحددة وهي مقر العمل الذي تذهب إليه، وقد يكون العمل في المنزل فيشمل منطقة عمل محددة كالمكتب.
- حدود رقمية: مثل إيقاف إشعارات الهاتف والبريد الإلكتروني، أو اقتناء جهاز هاتف شخصي غير جهاز تستخدمه خلال ساعات العمل.
- حدود الوقت: ساعات العمل وتحديدها بوضوح (متى يبدأ يوم عملك ومتى ينتهي؟ بلغ الجميع بهذا وكن ملتزمًا تجاه نفسك). يندرج ضمنها أيضًا تحديد وقت شخصي غير قابل للتفاوض أو التأجيل كالزيارات العائلية أو ممارسة الهوايات والأنشطة.
- حدود التواصل: يمكننا تلقي الرسائل في أي وقت لكننا نحدد متى نتجاوب معها. رسائل العمل يمكنها الانتظار لليوم التالي، ومثلها رسائل الهاتف. حدود التواصل تتطلب قول “لا” كثيرًا وللأسف كانت عادة صعبة تدربت عليها لسنوات حتى تمكنت منها.
المرحلة الثالثة: تنمية المساحة الشخصية
قد تكون هذه المرحلة هي الأصعب في نظري لأنها تتطلب العمل والانتباه والحرص على قضاء أوقات طيّبة ما استطعت كي لا أنزلق لنمطي السابق. قبل فترة قررت قرارًا لطيفًا: أريد صيفًا يشبه صيفيات الطفولة. الكثير من الراحة والقراءة واللعب والبوظة! وهذا ما يمكننا أن نفعله في مساحتنا الشخصية عندما نستعيد السيطرة عليها.
- أعد التواصل مع هواياتك القديمة وأي أنشطة تشعرك بالسعادة مثل القراءة، اللعب في الخارج، أو الطهي والفنون الإبداعية.
- استثمر في مساحتك الشخصية. مثل إعادة تأثيث أركان في المنزل، أو شراء عدة فنون، أو الاشتراك في موقع تعليمي ممتع.
- تمرن على الحضور الكامل في وقتك الشخصي وتخلص من تشتت المهامّ والعمل على أكثر من جبهة.
- أعط أولوية للوقت مع الأصدقاء والعائلة وأي دوائر اجتماعية يمكنك التواجد فيها بمعزل عن حياتك المهنية.
يتبع هذه المراحل بالتأكيد المراجعة والتعديل المنتظم بحسب ما تقتضيه الحياة وتحوّلاتها. والبدء بالتدريج طبعًا فكلّ خطة فشلت فيها كانت بسبب حماسي والاندفاع الذي يولد مع الانطلاق ويخبو تدريجيًا كون الهدف أكبر وأصعب من معطيات واقعي. يساعدني أيضا بالإضافة لكلّ ما سبق الاحتفال بالتغيرات الصغيرة وأثرها على أيّامي، حتى لو كانت فسحة في نهاية الأسبوع أو نصف ساعة يومية أسرقها لقراءة مقالات المفضلة. طالمًا أوجد الوقت لنفسي ونموّي الشخصي أولًا سأكون سعيدة وراضية. أضيفوا إليها الصبر! الكثير من الصبر والحلم مع أنفسكم.
لم أنسَ أيضًا توقّع المشكلات التي قد تواجهكم وجمعتها وأعراضها والحلول المقترحة في الجدول التالي لسهولة الاطلاع:

استعدت مع كتابة هذه التدوينة لحظات كثيرة في حياتي المهنية التي امتدت حتى اليوم لأكثر من عشرين سنة. كنت استمد قوّتي من معرفتي الأكيدة بهويتي وما أحبه وما أفضّله ومعرفتي أيضًا باللحظة التي تستدعي تدخلي لإصلاح حياتي الشخصية وضبطها أو مغادرة وظيفة إلى أخرى تسمح لي بذلك.
أمرٌ ظريف حدث خلال ساعات كتابة التدوينة. فقد تلقيت بريدًا من صديقتي تطلب مني الاطلاع على ملفّ للعمل. نظرت للساعة وعدت للكتابة في شاشة الكمبيوتر ثمّ قررت الرد على رسالة بعثتها في هاتفي: “أرجو منك الاطلاع على الملف إذا كان الوقت مناسب.” ثم تبعتها بـ”إذا لم يكن لديك المزاج، اتركيه للغدّ”. أخبرتها أني سأتركها للغدّ بالتأكيد فليس لدي الوقت. ثم أخبرتها أيضًا أني أعدّ تدوينة عن الفصل بين الحياة المهنية والشخصية. ضحكنا من الموقف وقررت إضافته هنا كقفلة للموضوع!
تسعدني قراءتكم ويسعدني أيضًا معرفة رأيكم في هذه المشكلة -إذا كانت مشكلة لديكم- كيف تمكنتم من الفصل بين الشخصيتين؟ وكيف تحافظون على مساحتكم المقدسة.
.
.
.
* Collage by Stephen Sheffield
.
.