التاريخ الكوني للضجر .

لم أتعرف على الضجر في سنّ مبكرة، في الحقيقة أستطيع تحديد الفترة التي اكتشفت فيها معنى كلمة ضجربكل معانيها واشكالها العامية وبكل اللغات. كان الزمان الصيف والمكان بيت جدتي والمزرعة الممتدة. ما إن تبدأ العطلة الصيفية حتى تبدأ فعاليات لا تنتهي من اللعب والمغامرات الغير متوقعة! في عمر التاسعة تقريباً تنبهت، كنا عدة عائلات في مكان واحد، تجمعنا مواعيد الوجبات، ويفرقنا ميلان الشمس في السماء لتعلن موعد الخروج والركض في كلّ اتجاه. ولكن ، كانت هناك عائلة مميزة، مميزة لأن كلّ افرادها كانوا يعانون من ضجر، علمت اليوم بأنه ما يسمى بالضجر المزمنويختلف عن النوع البسيط من الضجر لأنه مزمن وخطير، ومزعج . مهما كانت الاجواء ممتعة ستجدهم منكفئين على انفسهم وينتظرون، يحسبون الوقت لغياب الشمس، الوقت لتناول الطعام، الوقت لانتهاء العطلة والعودة. وخلال كلّ ذلك أمرّ بالتعذيب الصريح الذي يكمن في ترديد كلمات مثل زهق، طفش” . كخلفية صوتية لجلوسنا أمام التلفاز، بينما يعرض مسلسل كرتوني مثير ومحفز، وهم في زاوية المكان يستدرجون حالة من الحزن تبدأ بترديد الكلمات وتنتهي ببكاء طويل وعقاب من الوالدة التي ضجرتبدورها منهمفي كتابه الضجر، تاريخ حيّيشرح بيتر توهي أنواع الضجر ببساطة ويقول أن النوع الأول منها البسيط الذي يحدث لنا مع المواقف المتوقعة مسبقاً والتي لا يمكن الهروب أو الفكاك منها، مثل المناسبات الاجتماعية الطويلة، حفلات الزفاف، الاعياد، هذا النوع بسيط لأنه مربوط بفترة زمنية ستنتهي سريعاً. وجه آخر أيضاً من هذا الضجر البسيط هو تكرار تجربة معينة حتى الاشباع، وهنا يولد الضجر منها. مثل أكل صنف معين من الطعام، أو الاستماع لمقطوعة موسيقية مرات ومرات، ينتقل فيها الانسان من شعور الضجر حتى الغثيانأما النوع الثاني – الأكثر تعقيداًما يمكن تسميته بالضجر المزمن أو الوجودي، وهو الذي أولته الدراسات الاهمية، وكتب عنه الادباء وقيده الرسامون في لوحاتهم، ربما لأنه كان وما زال أشد أثراً على من يعانون منه ولأن النوع الثاني والابسط شعور انساني يأتي ويغادر سريعاًوفقاً لدراسة بريطانية أجريت في العام ٢٠٠٩م من خلال الانترنت، يعاني البريطانيون حوالي ستة ساعات اسبوعياً من الضجر، ولشخص يعيش حتى عامه الستين سيكون قد عانى من سنتين تقريباً من الضجرأيضاً كشفت الاحصائية أن البريطانيين هم رابع شعوب اوروبا – من ٢٢ دولة – في معاناتهم مع الضجر. ولو كان الوقت والمال يسمح لهم بترفيه أنفسهم بشكل أفضل لاختلفت الاحصائية بالتأكيد.


الضجر في الأدب

تناول الكثير من الادباء هذا العارض المعقد، وربطوه بقضايا أبطال قصصهم وأفعالهم الغير متوقعة أحياناً. من بين هؤلاء انتون تشيخوف الذي يرى بيتر توهي بأنه من أكثر الكتاب ذكراً للضجر ويربط ذلك بعمله كطبيب لأنه كان أكثر حماساً من غيره في تحليل ما يحدث داخل جسم الإنسان. في عمله العم فانيا١٩٠٠م تعلن يلينا أنا أموت من الضجر .. لا أعرف ماذا أفعليلينا تتصرف كالاطفال الذين لا يجدون حرجاً في التعبير عن ذلك، بينما يحبّ الكبار تجميل الأمر والالتفاف حوله، وكأن الشعور بالضجر جريمة لا تغتفرفي أماكن أخرى تناولت بعض الاعمال الأدبية الضجر الوجودي مثل مدام بوفاريفلوبير ، والغثيانلسارتر، والغريبلألبير كامو و”كتاب اللاطمأنينة” لبيسوا، “اسطنبول” لأورهان باموق. والالتماعلستيفن كينج، التي حولت لفيلم شهير من اخراج ستانلي كوبرك وربما بشكل شخصي أستطيع التأكيد على رعب تحول الضجر إلى هلع وعنف في هذه القصة، ففي فندق أوفر لوك يقضي جاك تورنس جاك نيكلسون في الفيلموقته في محاولة العمل على كتابته، بعد أن فصل من عمله كمدرس بسبب نوبة غضب، وانتقل مع اسرته إلي فندق معزول تماماً في فصل الشتاء، على الرغم من تحذيرات الادارة بإصابته وأسرته بحالة تسمى “Cabin Fever” التي تصيب الافراد عندما يبقون في مكان مغلق معزول لوقت طويل، وما يمكن أن تتحول إليه نفسياتهم وانفعالاتهم بسبب هذا الحبس وحدثه المدير عن جريمة القتل التي حصلت من قبل، سخر منه تورنس وعلق بأنّ الذين لا يجدون ما يفعلونه سوى مشاهدة التلفزيون والشرب والسكر حتى النوم سيتحولون لهذه النهاية بالتأكيد. ولمن يعرف نهاية القصة سنتأكد بأن سخرية تورنس بالتأكيد لم تكن في محلها.

كيف يهرب الناس من الضجر؟

في إحدى فصول الكتاب يناقش بيتر توهي المشاعر المصاحبة للضجر، وكيف يقضي الناس عليها كلها. لكن قبل ذلك وضح أنّ الاعمال الادبية والدراسات القديمة نسبياً لم تكن تتعرض للحالة باسمها، هناك مصطلحات أخرى بتحليلها وجد الباحثون أنها تعود للضجر وتقترب منه، من بينها الميلانخوليا Melancholia ، والاكتئاب Depression و الغثيان Nausea والحنين Nostalgia. ومع الضجر المزمن لا يمكنك إلا البحث عن محفزات للمتعة، للمرح، وكيف يحدث ذلك إذا كان كلّ شيء تقوم به مملّ وباهت؟ تغازل الممنوع إذاً، وتقترب من أذية نفسك لترفع معدلات الدوبامين – المنخفضةفي دمك، وهذه حالة صحية شائعة يعاني منها على سبيل المثال الاطفال المصابين بفرط الحركة أو تشتت الانتباه، لاحظوا كيف لا يستطيعون التحكم بأنفسهم والبقاء لمدة طويلة في عمل شيء واحد، هم يفعلون ذلك بسبب انخفاض معدل الدوبامين في دمهمهذا التحليل ينقلني لكل الامثلة التي ترتبط بتحول الافراد لممارسات ضارة بسبب ضجرهم، وبعد أن كنت أرفض واسخر من القاء اللوم كلّ اللوم على الضجر، تراجعت بسبب قراءتي لهذا الكتاب. إذا مدمني المخدرات، والمشروبات الكحولية، والمفحطين وهواة المخاطرة، كل هؤلاء يعانون من ضجر مزمن ومشكلات أخرى، وهم بهذا يخففون من نقص الدوبامين بصورة مستمرة قد تودي بهم لحتفهمفي الكتاب يعرض بيتر توهي نموذج اختبار شهير لقياس مدى التعرض للضجر – أو الملل – ” Boredom Proneness Scale ” الذي وضعه نورمان سندبرغ في العام ١٩٨٦م وينصح من سيقوم بإجراء هذا الاختبار بالتأكد من مشاعره في تلك اللحظة، ألا تكون متطرفة في الاتجاهين لكي تكون النتائج الظاهرة أقرب للحقيقة. من خلال الدرجة التي سيحصل عليها سيتمكن من تحديد ما إذا كان يعاني من ضجر مزمن أم لا. ويبدأ بالتفكير الجدي لعلاج المشكلة والتخلص منها بطريقة صحية .

هل تصاب الحيوانات بالضجر ؟

الحيوانات لا تستطيع الكلام وهنا المشكلة، والبداية التي تسمح للذين يشككون في شعور الحيوانات بالضجر المدخل لنفي الحالةأولاً وقبل التطرق لما أضافه بيتر توهي حول الموضوع في الكتاب، أستطيع التأكد من أنّ الحيوانات تشعر بالضجر، يكفي النظر لهرتنا الصغيرة في يوم منعتها من الخروج فيه للحديقة، أو منعتها من الدخول لغرفة ما في المنزل، أو القفز فوق الاثاث، إنّها تظهر أول علامات الضجر الجسدية – سأتحدث عن بعضها لاحقاًتفرش نفسها على السجاد وترمي اطرافها في جهات متفرقة بلا اهتمام، وتراقب المارين بعينيها ببطء شديد، لا تبدي أي تجاوب لنداءاتنا، وتفعل ذلك بالقرب من الباب أو المكان الذي منعت من دخوله لتذكرنا بأنها ضجرة جداً-. عودة للسيد توهي الذي يقول بأن ذلك ممكن، بمجرد ملاحظة الحيوانات البرية وتلك التي استأنسها الانسان، أو وضعها في الحبس سندرك أن علامات الضجر واضحة جداً. في البرية يعيش الحيوان حياة مليئة بالاحداث – الغير متوقعة – بينما في المنزل، وحول الاشخاص الذين يغرقونه في روتينهم الشخصي يتحول لكائن بصور نمطية متعددة لا يحيد عنها. والكثير منهم يستسلم لهذا الروتين والنمط المتكرر، ويغرق في الاكتئاب الذي يقتله في النهاية .. للأسف.

الضجر في عصر التنوير

لم يجد المؤلف أثراً لكلمة “Boredom” في القاموس الانجليزي لأكسفورد قبل منتصف القرن الثامن عشر – ١٧٥٠م – ولكنه وجد أنّ المؤرخين حددوا عدة تحولات في مجتمع عصر التنوير الاوروبي، ربما كانت السبب في ظهور الضجر! أولّها التوجّه الانساني للترفيه، واحقية الانسان في السعادة والحصول عليها بكل الطرق. وثانيها انحسار التدين المسيحي وانتشار العلمانية، وثالثها صعود النزعة الفردية، ورابعها انتشار البيروقراطيةالتحول في المجتمع ونمط حياته قاده للضجر؟ ، قد تبدو هذه الفكرة قابلة للتشكيك، على الاقل إذا نظرنا إليها من ناحية أن عصر التنوير قريب نسبياً من عصرنا، وماذا حصل للبشرية قبل ذلك؟ ألم تشعر بالضجر أيضاً؟ في دراسة يدرجها الكاتب حول سكان استراليا الاصليين، وضعتها المتخصصة في علم الانسان ياسمين مشربش عن المجتمعات الأقل ضجراً، وجدت فيها الباحثة أنّ سكان استراليا الاصليين البعيدين عن الحضارة وسيطرة المستعمر لم يعانوا من الضجر. بل ذهبت لاكتشاف أنّ الكلمة لم يكن لها وجود في قاموسهم الخاصّ. كانت الشعوب الاصلية تعيش اللحظة، وما الذي يتطلبه عيش هذه اللحظة؟ التركيز على العيش وضمان النجاة من الظروف الجوية السيئة، هجوم الحيوانات الضارية، والجوع بالتأكيد، الانشغال في أحداث غير متوقعة عزز مناعتهم ضد الوحش الضاري الجديد. وتغير كلّ ذلك كلما اقتربوا وتحولوا للعيش في المجتمع الحديثإذاً هنا نتفق مع المؤلف ومع الدراسات النفسية التي تربط الضجر بالحياة العصرية، انعزال البشر، اساليب الترفيه لديهم، الروتين العملي اليومي والابتعاد عن الدين والروحانية بشكل عام.

كيف يظهر الضجر مرسوماً؟

في هذه الفقرة سأدرج بعض اللوحات التي عرضها المؤلف في إطار حديثه، ولكن قبل ذلك سأعدد العلامات التي يصفها بأنها المؤشرات الرئيسية لشعور الانسان بالضجر : وضع اليدّ على الوجه، التمطي ووضع اليدين على الوركين، التثاؤب، المرفقين مسنوده على الطاولة، العنق متهدلاً، ووضعية اللاوضعية على الاطلاق.

Women Ironing
1886
by Edgar Degas
Mariana in the Moated Grange
John Everett Millais
1851
Edgar Degas
La Coiffure
1896
Edward Hopper
Rooms by the Sea
1911
Walter Sickert
Ennui
1914

هل للضجر لون؟

التساؤل أورده المؤلف في معرض حديثه عن لوحة إدوارد هوبر – غلاف الكتابشعور الدوار الذي تخلقه، والغثيان والالوان التي اختارها الرسام تحديداً لصنع هذا الشعور. يقول توهي بأنّ الضجر لو اتخذ لوناً سيكون بألوان الغثيان والمرض. اللون الاخضر، البرتقالي المائل للبني، وأيّ ألوان أخرى يربطها الافراد بالمرض والتقيؤ. طرحت السؤال قبل عدة أيام وكانت الاجابات مقاربة لما تحدث عن بيتر هوني، أو بصورة أدقّ مقاربة لشعور كلّ شخص تجاه اللون والمرض وربطه بالضجر.

خاتمة

العائلة التي تحدثت عنها في بداية حكايتي مع الضجر، تزورنا بين فترة وأخرى، وأقسم بأنني أغالب النعاس، ومشاعر سيئة أخرى تزورني في محاولة عبور الوقت الذي يثقل بيننا كذرات غبار. ما زلت أجهل السرّ في استمرار ضجرهم حتى اليوم! مع تغير نمط حياتهم ونضجهم، ومحاولاتنا المستمرة في خلق الترفيه المناسب لمزاجهم. الكتاب الرائع الذي اقتطفت منه بعض الحكايات لا تفيه تدوينتي هذه حقه، وربما تعمدت الاختصار قدر استطاعتي كي تقتنوه بدوركم وتقرؤونه .

أيضاً هنا روابط حول الكتاب، وبعض أشهر المقالات التي كتبت في موضوع الضجر.

New York Times

The Guardian

Yale Press

دراسة ياسمين مشربش حول سكان استراليا الاصليين.

Boredom: The Literary History of a State of Mind by Patricia Meyer Spacks

14 تعليقا على “التاريخ الكوني للضجر .”

  1. جميل كل شيء هنا. فكرة الكتاب، اللوحات، وحديثك عن العائلة المصابة بلعنة الضجر. فكرة أن ضجرنا في هذا العصر يتفاقم كل ما غرقنا في وسائل الترفيه تبدو مقلقة بشكلٍ يستوجب التوقف لديه. السؤال الذي سيتبادر إلى ذهني على الأرجح عند قراءة كتاب كهذا هو مدى تأثيره على كاتبه، أتخيل كم سيكون غريباً أن يصاب هو نفسه بالضجر أثناء كتابته وجمعه للمصادر لكتاب عن الضجر.
    الموضوع متشعب بالتأكيد ومحرض للاستغراق فيه من خلال كتاب كهذا. شكراً لجهدك الجميل هيفاء.

    1. أهلا عبدالعزيز،

      نفس الفكرة التي زارتني ، وامتدت إلى التفكير في نفسي، متخوفة من كثرة ترديد الكلمة بين فقرة وأخرى أن اتوقف عن القراءة في مرحلة معينة . لكن يبدو أن الكاتب عمل بحذر ودقة شديدة لكي لا ينقل لنا هذا الشعور ، وربما لنفسه .

      حياك الله

  2. هل عليّ القول بأن الضجر بدأ يكتسح حياتنا اكتساحًا ؟ ، انه لامر مذهل أن يأخذ موضوع كهذا
    كتابًا بأكمله ، لكن حقيقةً يستحق ذلك ..
    لربما بالنظر الى الكتاب سيساعد من لديهم احتكاك مباشر بالمراهقين و المراهقات ، فمععاناتهم من هذا الامر
    واضحة ، شكرًا هيفاء !

    1. أهلا روان ،

      بالحديث عن المراهقين والمراهقات، لديّ الآن أخت بعمر الحادية عشرة، وهي مدعاة للتأمل بالنسبة لي، في جزء كبير من الوقت تشتكي من الضجر، لا يمكنها تكرار التجارب أكثر من مرة، هي بحاجة كل يوم للعبة جديدة، كتاب جديد ، غرفة جديدة ! حتى أنها تواجه صعوبات في النوم والتكيف مع الاماكن حولها، عصر عجيب .

  3. ما أعرفه يقينا أن الضجر يتلاشى حين أقرأ لك 🙂 تدوينة مدهشة أحببتها
    حين سألت في التويتر عن لون الضجر كنت سأجيبك بإحدى درجات البني لم أستطع تحديده بدقة لأن هناك درجات أخرى للبني تعد جميلة وقد وضحته أنت ببساطة: البرتقالي المائل للبني
    ..غريب كامو هو الضجر متجسدا حتى أنه يولد لديك إحساسا بالضجر من الرواية نفسها
    لا شك أن عصرنا عصر العولمة والانعزال يضخم هذا الشعور بالضجر
    🙂

    1. أهلا رشيدة ،

      يا سعادتي بك والله (F)
      وانا اكتب التدوينة تذكرت رواية الغريب وقراءتي لها قبل عدة سنوات، كنت أشعر طول الوقت بأن اشعة الشمس مركزة على رأسي ولا أعلم ما السبب، أعتقد أنها انتقلت لي الأجواء التي أدّت لجريمة القتل والتحولات في القصة .

  4. قراءة سريعة أدهشتني هيفاء .. احتاج مزيداً من الوقت مع مدونتك .. لديك أسلوب لا استطيع وصفه إلا بعد أن أقرء لكِ أكثر .. هناك شيء مثير و مغرٍ بشأنه 🙂
    دمتِ

  5. بعد أن شاهدت يا هيفاء قبل فترة مقطعًا لد.علي أبو الحسن تحدث فيه أيضًا عن الضجر اكتشفت أنّ لأنيس منصور كتابًا عنه اسمه (وداعًا أيها الملل) لذا ربما يكون هو العربيّ الوحيد الذي أفرد كتابًا كاملًا فيما يخصّ هذا الموضوع. حتى أنه يقول: “الطوفان الجديد لهذا العصر هو الملل”.
    كنت قد بدأت من أشهر أكتب بحثًا شخصيًا بدأ من نقطة وتشعب كثيرًا ومرّ على حالة الضجر التي يمرّ بها من تحدثتِ عنهم وكذلك يا هيفاء أعرف من يمرُّ بها حدّ أن اللاضجر هو الإستثناء في حياته، المهم أنني وصلتُ أن الضجر هو أحد عوارض الحياة بلا معنى، بحيث يتيه الإنسان في الخط الزمني بين اللحظة والماضي والمستقبل وهذا كما ذكرتِ في حديثك عن الكتاب مالم يمر به سكان أستراليا الأصليين. حتى الآن ألاحظ أن إنسان اليوم غائب عن الوعي، بمعنى أنه لا يعيش اللحظة لأسباب كثيرة هو فقط يعبر اللحظات والساعات والسنوات بشكل ممل ويتشابه فيه مع الآخرين. وأعجبني في نقطة الوعي أفكار إيكارت تول حيث نقل عنه الدكتور في ذات المقطع أن الإنسان يجب أن يكون في حالة وعي بحيث يميّز أنه ليس ذاته هو الملل بل هو شيء وملله شيء آخر. ربما على إنسان اليوم أن يختلي بنفسه ويوُجد معنى يعيش لأجله ومن ثمّ يعيش حالة الوعي بحيث يعيش كل لحظة بذاتها دون أن يقلق بشأن المستقبل لأنه أصلا يُعدّ له في تلك اللحظة.

    وبمالناسبة أمرُ الوعي أوصلني لإجابة سؤال كان حيّرني لفترة طويلة، حيث سألتُ نفسي ذات مرّة لماذا يغلبُ على الأدب العربي الحديث الإنصراف التامّ للحبّ بمعناه الضيّق، ولماذا نرى حالة الإنغماس الشديد بالحزن، هل لأنّ التعبير عنه أسهل من الفرح؟. وصلتُ لإجابة بأنّ الإنسان العربيّ الحديث بما يحيط به من ظروف يغلبُ عليه الحزن فهو يداهمه فيسهل عليه أن يعيش حالة الوعي تجاهه ويعبّر عنه، بينما هو يعتبر الفرح والأحداث السعيدة أشياء عابرة فأصبح الحزن لديه هو الأصل، في مرحلةٍ ما من الأدب العربي وكذلك الحضارات الأخرى عاش الأدباء -مثل الأدباء الذين تفضلتِ بذكرهم أعلاه في المقال- حالة الوعي والملاحظة تجاه الضجر والفرح وسائر الحالات التي يمرّ بها الإنسان في حياته، فنعود للنقطة التي ذكرتها مسبقًا بأنّ إنسان اليوم ينقصه الوعي تجاه اللحظة وحسّ الفضول والمعنى. وبالمناسبة لو أحببتِ هناك كتاب لفيكتور فرانكل -لم اقرأه بعد- صاحب نظرية العلاج بالمعنى اسمه “الإنسان يبحث عن معنى” .

    الحقيقة يا هيفاء أنني أشعر دائمًا بالإمتنان تجاهكِ لأنّك تعودين في كل مرّة بكتب مذهلة وتدوينات لا تُضاهى، وأجزم أنّ أي شخص آخر لو قرأ الكتاب وكتب عنه لن يمتلك حسّك الكتابيّ 🙂 كل التقدير وآسف على الإطالة.

    بالمناسبة هذا هو المقطع الذي تحدثت عنه http://www.youtube.com/watch?v=3AWrGaTLhwo&list=UUDI2HUKEyGri11PPdVJYcpQ&index=3&feature=plpp_video

    1. أهلا رحاب،

      لازم كلّ مرة أعلن عن ابتهاجي إذا اتسعت خانة التعليق بعدة مقاطع، أدرك أنّ تدوينتي استدعت المزيد من الكلام ، أنا ممتنة لاضافتك هذه، التي لا تقل أهمية عن التدوينة والكتاب.
      بعد الاقبال وعدد القراءات لهذه التدوينة أعتقد بأنني سأعيد النظر في طريقة كتابتي للقراءات التي انتهي منها، الاختصار أحيانا لأنني لا أود افساد متعة القراءة على الاخرين والاكتشاف كذلك، ومن جهة أخرى أجد أن اختصاري للحديث قد يحرم الفضوليين من التقاط شيء يعجبهم.

      شكرا لكِ (F)

  6. .
    .
    شكرا هيفاء على تدوينة كهذه
    أنا شخص يعاني من الضجر وخاصة في النهار من 11 وحتى 5 أشعر بأن كل شيء يعيد ذاته .. لذلك أحاول القراءة فيه أو مشاهدة فيلم وأحيانا أفشل في الهروب من الضجر

    مساؤك عطر

  7. مرحبا هيفاء…
    تدوينة جميلة..خاصة أنني أعيش ليالي الصيف الطويلة المضجرة..
    بالمناسبة، اليوم أكمل أسبوع فقط على بدء إجازتي التي كنت أنتظرها بشدة وقد شعرت بالضجر منذ اليوم الثالث..
    هل يرتبط الضجر بحيازتنا لكل شيء؟
    لدي صديقة لديها كل ما يفكر فيه أحد،سافرت إلى نصف بلدان الكرة الأرضية، لديها من الإمكانيات ما يجعلها تتمنى الشيء فيحدث حالاً، لكنها أكثر من رأيته مللاً..
    من الأشياء التي تصيبني بالضجر الشديد ” الانتظار” ..الإنتظار حتى ينتهي بيتي الجديد لأنتقل إليه، الإنتظار في أن ترد علي المجلة لنشر بحثي بعد تحكيمه، الإنتظار لأن تنهي الرسامة رسم كتابي الجديد..الانتظار ل..و…و…
    كل عام وأنتم بعيدون عن الضجر..:-)

  8. أملك من العمر ما يكفي ولا أذكر آخر مرة شعرت بالملل
    كيف يشعر المرء بالملل وهو يملك كتب, انترنت, أفلام, أهل وأصدقاء, طعام .. وقائمة متع الحياة تطول
    هناك بدائل كثيرة لكل متعة لا تحبها, فمن لا يحب القراءة يجد الأفلام, ومن لا يحب مخالطة الناس يجد الكتب ومن لا يحب أي شيء فقد خلق الله له العقل للتخيل والتأمل والتفكير
    المشكلة ليست في الحياة بل فينا, نحن خُلّاق الملل حقاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.