موراكامي وإصابات أقدامي

يمكنني عدّ الأشياء التي كانت تخيفني في طفولتي، ليست بالكثيرة لكن آثارها واضحة معنويا وجسديًا.

إحدى تلك المخاوف: التأخر عن المدرسة.

نعم، فكرة الوصول إلى الصف بعد انتهاء الطابور كابوسية. فكرة الوصول للطابور بعد الإذاعة أكثر رعبًا. ولم يحدث ذلك إلا في مرات قليلة تحت تأثير المرض الشديد، أو بسبب حالة وفاة في العائلة.

كانت هناك مؤشرات للتأخر عن المدرسة، منها الفطور السريع، مكعبات الثلج التي تتركها والدتي في كوب الحليب حتى ننتهي منه سريعًا، أو فوات الباص والذهاب مع والدي. وفي مراحل متفرقة من أيام الدراسة كان الراديو مؤشر التأخر الأهمّ، نركب في أماكننا ويدير والدي المؤشر لإذاعة الكويت.

إذا كانت برامج الأطفال وأغانيهم السعيدة خلفية المشوار فنحنُ بخير. وإذا كانت الموسيقى الحماسية التي تسبق نشرة السابعة هي أول ما نستمع إليه، تبدأ فراشات بطني بالشجار والطيران العشوائي. لقد تأخرنا!

هذه الأيام وفي الطريق للمكتب انتبهت أنا وموضي لموظف مغسلة الملابس الذي يمشي إلى عمله كل يوم، يرتدي زي العمل الذي يشبه زي ممرض، ويتريض. ننظر لساعاتنا ونجدها تشير للتاسعة، وإذا كنا حينها عند الإشارة التي يقطعها للمغسلة نعلم بأننا تأخرنا كثيرًا عن موعدنا اليومي.

* * *

ما زالت أقدامي مصابة تحت السطح.

خلال شهر اكتوبر الماضي ذهبت لحضور لقاء مع موراكامي على هامش مهرجان النيويوركر، كنت مستعجلة حتى لا يفوتني الجلوس في مكان جيد. ومتأنقة لأن الموضوع نفسي أكثر من أي شيء آخر وكأن موراكامي سيستضيفني في بيته. ارتديت حذاء جلدي وجوارب ناعمة، تركيبة سحرية للكوارث.

واخترت قطار المحطة الأقرب على الرغم من أنه سيقف على بعد عشرة شوارع! وخرجت وركضت. كانت أقدامي كائن منفصل عني، وستكون كذلك لعدة أيام أخرى. وصلت لمكان اللقاء وعرفت بعد الوقوف قليلا بأن الفقاقيع بدأت بالتكون، تجاهلت الألم لأنه كان تفصيل ثانوي في تلك الساعات – ليس ثانويا أبدا بما أني ما زلت أعاني حتى اليوم وأنا على مشارف رحلة جديدة.

لماذا تذكرت هذه القصة؟

هناك نقطة مهمة لم أذكرها، هذه الصفة الغريبة التي أحاول جاهدة التخلص منها ولا أنجح.

قبل خروجي ذلك اليوم فكرت بارتداء حذاء رياضي، لكنّ منى أختي اقترحت أن ارتدي حذاء جلدي مناسب للفستان الذي ارتديته. لم تكن تعلم بخطتي للركض والقفز بين المحطات. لكنها اقترحت شيء وفورًا شعرت بأنّ اقتراحها أنسب من فكرتي. ليست هذه المرة الأولى التي اتراجع فيها عن قرار بسيط (أو كبير) بسبب رأي شخص أثق به وأحبه، وليست المرة الأولى التي أغير فيها رأيي، وأندم!

لقد حاولت تدريب نفسي على اتخاذ القرارت والحسم فيها بلا تأثر أو تردد، فعلتها أكثر من مرة، ونسبة النجاح والفشل متساوية ٥٠٪. لكن ذلك لم يكن كافيًا.

إنني في الحقيقة استسلم لرأي خارجي حتى لو كان معاكس لما فكرت فيه، حتى اتحرر من مسؤولية الاخفاق. سأقول لنفسي هذا القرار لم يكن قراري، لكن فكّر فيه شخص آخر غيري.

الخلاصة من هذه القصة الغرائبية، أنني تعلمت الدرس وإصابة قدمي التي دامت آثارها مع العناية المستمرة كانت رسالة اليقظة.

* * *

خلال السنوات الماضية وجدت نفسي في أكثر من موقف مع أقارب وصديقات وخلال مقابلات شخصيةأدافع عن مسيرتي العملية وتنقلي، وتجربة مختلف مجالات العمل.

التعليق الذي سمعته: لماذا لم يدم عملك في جهة ما أكثر من سنة؟ أو لماذا تنقلتي من العمل الأكاديمي للدراسة للكتابة للترجمة؟ ما السبب في كل هذا التشتت والفوضى. وفي نفس الوقت لم يفكر أحد بالإشادة برغبتي الشديدة في إيجاد وظيفة ومصدر رزق بكل السبل الممكنة.

كنت أتجاوز هذا السؤال بابتسامة أو تعليق ساخر. وأحيانا أسرد مبررات متنوعة. حتى تنبهت أنّ هناك ضرورة للتعبير عن موقفي من مسيرة عمل تشبه شبكة العنكبوت.

فتاة في مثل عمري، ومهما وصل دلال والديها ودعمهم لها، سيكون الدعم المالي محصورًا برقم، وموقف، وأسباب.

لقد علمت في عمر مبكر جدًا أن الاستقلال المادي سيكون طوق النجاة، مهما كان العائد الذي سأجده من عملي، سيكون مفيدًا. سيكون مهم لبهجة روحي ونموي الشخصي. لذلك كنت ابتكر طرق للعمل.

لأنني لم أحبّ اللحظات التي احتجت فيها لطلب المزيد، لطلب ما هو فوق طاقة والديّ الذين يجتهدون دائما بتوفير كل شيء لكن السقف لم يكن مرتفع كفاية.

في كلّ مرة كان أحد الأشخاص يعلق على تنقلي بين الوظائف لم يسأل نفسه: هل كانت هذه الوظيفة متاحة لأكثر من الوقت الذي قضيته فيها؟ لماذا الفكرة الأولى هي أنني مدللة ولم احتمل الضغط والمهام؟ لماذا لا تكون هذه الجهات فعلا سيئة وليس لديّ الوقت لأضيعه في محاولة إصلاحها.

لقد عملت لأكثر من ١٥ سنة بشكل مستقل تخللها وظائف لا تدوم طويلًا، جربت حتى الدروس الخصوصية وترجمة قوائم المطاعم الجديدة ووصف أطباقها، كتبت الأبحاث والأوراق العلمية للطلبة المبتعثين، ودرست العربية لمن لا يتحدث بها.

استعيد هذه الأيام بالكثير من الفخر فقد وصلت للمرحلة التي انتظرتها، ألا أشعر بالخوف أو الخجل من شبكة العنكبوت التي صنعتها خطواتي. وأصبحت شجاعة بالردّ على مثل هذه الاسئلة التي تحاول التقليل من جهودي أو هز ثقتي بنفسي.

نعم لم اتمسك بوظيفة محبطة وروتينية لأكثر من عشر سنوات، ربما لأن لدي الكثير لفعله، ربما لأن قدري أن أعبر سريعًا، أغيّر وأحاول تحريك الحواجز الجامدة وإن لم انتصر، انتقل لمعركة أخرى. وإذا لم تمتلك شجاعتي، لا تسخر مني.

* * *

أعود هذه الأيام لقراءة يوميات وملاحظات دونتها خلال السنوات الماضية. هذا النشاط يساعدني في ترتيب حياتي، كيف استعيد الهدوء الذي نعمت به قبل عاصفة الانتقال إلى مدينة صاخبة. قبل أن يصبح كل وقتي وجهدي للعمل، والكسب، والانتقال بين الأيام على وضعية الطيران.

كيف كنت أقضي وقتي قبل خمس سنوات مثلا؟ هل كنت سعيدة؟ هل كنت خائفة؟ كيف كنت مكتفية على راتب قليل أجمعه من العمل المستقل؟ اسئلة كثير إجاباتها متفرقة بين الأيام.

بوصلتي مصابة بالدوار، منذ مايو الماضي تقريبًا. وتساءلت في جدوى كلّ شيء أقوم به.

لديّ حماس مؤقت، والكثير من الاحباط والحيرة.

أعمل بجدّ وانتهي من المشاريع وبين عينيّ إجازتي التالية، استمتع حقًا لكني أعرف أن كل هذا تخدير مؤقت لمشكلة حقيقية لم أضع يدي عليها.

اللطيف في الموضوع أنني لا اقرأ يومياتي فقط، بل أعود للحديث مع أشخاص عاصروا تلك الأيام، واستمع لحلقات البودكاست التي سجلتها حينها لمساعدة الآخرين في تنظيم حياتهم، وإيجاد شغفهم، والقيام بالأمور بأقل جرعة ممكنة.

ما أحبّه في الانهيارات الصغيرة التي أمرّ بها من وقت لآخر، أنها تسبق تغيير عظيم في حياتي، أو تحفزني لإيجاد مخرج.

ما لا أحبّه في الانهيارات الصغيرة هذه، أنها تأتي في وقت غير مناسب أبدًا. وأنا على وشك تسليم مشروع، أو خلال أيام ضغط عالي، أو قبل إجازة يفترض أن أجد فيها الراحة والاستجمام، فتصبح مهرب ولا أذكر منها إلا مشاهد سريعة مثل حلم.

* * *

كتبت في ديسمبر قبل ثمان سنوات:

في محاولة للاختصار

قبل ست سنوات:

بيت الدرج

قبل ثلاث سنوات:

بيت صغير بمنهاتن

* * *

أشياء أحببتها بين أكتوبر وديسمبر:

نظم حياتك بنظام القطاعات أو الـ Blocks.

ماذا لو أعدت تصميم حياتي؟ هذا الفيديو تعريف الفكرة، وهنا محاضرة إلكترونية، وهذا كتاب سأعمل به خلال الربع الأول من العام.

اكتب كتابك المنتظر.

مقشر للوجه، رائع ولطيف ومكوناته مميزة وسعره مذهل.

أنهيت ثلاثة مواسم من Vikings وأنا أعمل خلال الأيام الماضية، الكثير من الدماء والغضب وضرب السيوف.

الموسم الثاني من Marvelous Mrs. Maisel

قائمة موسيقى محببة Time in a Bottle

نقطة ضعفي الوحيدة في ممر الحلويات والبسكويت.

موقع ترجمة مفردات جميل تعرفت عليه.

اعتقد بأنني وجدت أجندة ٢٠١٩ المفضلة، وتبقى الآن شراؤها.

.

.

.

تعليقان (2) على “موراكامي وإصابات أقدامي”

  1. أمس على التحديد راسلت فيليب جابرييل، بروفسور الدراسات الشرقية الذي يترجم روايات موراكامي من اليابانية إلى الإنجليزية، حيث أني عثرت على قصة نشرها في العصر السحيق في مجلة فظيعة، وأنهيتُ ترجمتها إلى العربية واستأذنته حتى أنشرها، رد عليَّ بعد خمس دقائق وهو يقول: لقد مررت رسالتك إلى وكيلة موراكامي وأنا متأكد أنها ستكون على اتصال بنا. من هنا أفهم شعور انفصال أقدامك وأنت تركضين إلى موراكامي، حتى أنا شعرت أمس بانفصال أصابعي وأنا أكتب الرسالة الطافحة بالشكر إلى جابرييل على سرعة استجابته لي وأنا أتصور وجود موراكامي على بعد شخصين عني!

    كل التوفيق أستاذة، استمري بالإلهام وبالادهاش، كل التوفيق بكل تأكيد.

  2. من أجمل المدونات
    أحب اسلوبك جداً هيفاء ,وأحرص بشدة على المرور هنا بين الفينة والأخرى
    كتاباتك تلامس الصخب الذي أعيشه في داخلي وتجعلني في حالة من الانتشاء اللطيف

    الشجرة المثمرة تُلقى بالحجارة وأنتِ مثمرة هيفاء
    اصنعي من حجارتهم أعلى للصعود أكثر

    كل الود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.