آخر أسبوع في الرّبيع

قضيت الأيام الماضية في العمل من المنزل، يتيح لي نظام العمل في الجهة اختيار خمس أيام شهريًا والعمل فيها عن بعد. لم يكن هناك الكثير من المهام للإنجاز، فقط متابعة واتصالات خلال اليوم. لذلك كان من أجمل الأسابيع الماضية، يشبه عطلة لكنه ليس تمامًا. قضيت الصباح الباكر في القراءة عدة ساعات، وكتبت قليلا وترجمت في مشروع جانبي. أعددت الإفطار وبدأت العمل بعد أن شعرت بالامتلاء الحقيقي وهذه الفكرة التي تزورني دائمًا وأجد الكثير يشجعون عليها: افعل شيئًا تحبّه في بداية اليوم. قبل أن تذهب للعمل، وقبل أن تفتح جهاز الكمبيوتر ويمطرك بالمهامّ والرسائل.

هذا الوقت الفائض في الأسبوع ساعدني في ترتيب غرفتي بعد عطلة طويلة وتنظيف سطحي. أعدت تنظيم مهامّ الفترة القادمة من الحياة، وتلصصت على الكتب الجديدة التي تنتظر القراءة. رتبت قائمة سألتزم بها قبل القفز لغيرها. وهذا التأهب وحده كفيل بمنحي البهجة والاستعداد لعطلة الحج الطويلة (أسبوعين من القراءة والنوم العميق).

بدأ الأسبوع بلحظة درامية أجلتها في كل مرة تأتي سلة الغسيل النظيفة لغرفتي. أسبوع بعد الآخر وأنا أرتدي قطعة ملابس عمرها عشرة أعوام. مثقوبة في كلّ اتجاه ولكنه هذا الارتباط السحري الوثيق. هذه آخر قطعة ملابس من بداية العقد الأجمل والأصعب في حياتي. اشتريتها من محل أُقفل اليوم وأقفل المجمع الذي يضمه. حملتها معي في كل رحلة خارج المنزل. لبستها في التجول، في التمارين، في اكتشاف أماكن جديدة، وفي العمل من المنزل بعد أن فقدت شكلها ومعالمها. كل مرة أوشك على التخلص منها اتردد وأضعها عوضا عن ذلك في سلة الغسيل. سأعطيك وأعطي نفسي أسبوع آخر من المغامرات! ما الذي يدفعنا للاحتفاظ بقطعة ملابس باهتة لا تصلح لشيء أو ربما تحويلها لقصاصات أصغر واستخدامها كممسحة أرضيات؟ أو أربطة قطنية؟ أو أي شيء آخر غير الارتداء.

هل هذه الملابس تحلّ محل بطانية الرضيع التي لا يغفو بدونها؟ تسمى بالإنجليزية comfort blanket والتي توصف بأنها أي شيء مألوف يشعرك بالأمان والثقة. بحثت عن معنى عربي للعبارة حتى توقفت عن المحاولة: هل هي بطانية الطمأنينة، أو ملاءة الطمأنة؟ لحاف الحنان؟ (إذا وجدتموها شاركوني) الأكيد أنني ودعت هذه البطانية للأبد.

وهكذا تخلصت من آخر قطعة ملابس قديمة ومتهالكة. كانت اللحظة بلا مشاعر، لكن الحقيقة داهمتني في اليوم التالي: هل كان ما فعلته صائبًا؟ الأمر ينطبق على الكثير من الحاجيات التي تخلصت منها تباعًا خلال السنوات القليلة الماضية. إما بسبب المساحة التي تضيق وتتسع في المسكن، أو لأن النظر إليها يطلق سلسلة من الذكريات التي طويتها وأخفيتها بحرص.

ما زلت استعيد ذكريات الرحلة القريبة إلى لندن، وبينما اتصفح الصور القليلة التي التقطتها وجدت صورة للوحة أحبها للرسام الانطباعي إدغار ديغا مهزوزة ومظلمة. لم يكن التقاط الصورة عملية سهلة وتذكرت السبب. في هذه الرحلة وفي كلّ متحف أو معرض فنّي زرناه وحتى عندما خرجنا بعيدًا عن المدينة والصخب إلى قصر هامبتون كورت، سبقتنا الرحلات المدرسية! في نصل باكرًا مع فتح الأبواب ويصطف إلى جوارنا طوابير لا نهائية من الصغار.

يركضون في كل اتجاه وتصرخ بهم المدرّسة: لا تلمسوا شيئا. يتحداها أحد المشاكسين ويضع يده على تمثال عمره مئات السنين أو يقترب ليقف بيني وبين لوحة اقتربت بحذر لرؤيتها. كنا ننتقل من غرفة لأخرى ونحذر بعضنا: هيا قبل أن يهجموا. وفي اللحظة الانتقالية للعبور، يمكننا سماع الأحذية الصغيرة تتدافع.  هذه المرة الأولى التي أشهد فيها هذا العدد من الرحلات المدرسية. ربما لأنني أسافر صيفا أو في وقت الأعياد حيث يمضي الصغار لعطلاتهم الخاصة.

لقد التهمني وجودهم بالكامل! وفكرت في هذه الفرصة العظيمة التي تتاح لهم في هذا العمر، أن تخرج من مدرستك صباحًا لتتأمل ديغا وبيكاسو وفان غوخ. لست بحاجة للسفر آلاف الأميال والتعرض للمشقة. تنادي المعلمة مجددًا: تأملوا هذه اللوحات جيدًا لديكم مهمة للكتابة عنها. وفي زاوية من هامبتون كورت تمدّ معلمة أخرى أوراق لأسئلة اختيار من متعدد عن زوجات هنري الثامن الستة. أليس مبكرًا الحديث عن المقصلة في هذا العمر؟ لا أعرف شيئًا غير الغبطة في هذه اللحظة.

قرأت خلال الأسبوع عن عملية الـ unlearning ودخلت من جديد عن بحث عن أفضل ترجمة لها: نبذ الطباع؟ نبذ المعرفة؟ اللاتعلم؟ المقصود بها هو التخلص من معرفة أو معلومة عن شيء أو سلوك التصق بك طويلًا وترغب في استبعاده. والوصف الحرفي يقول: تجاهل (شيء تم تعلمه خاصة العادات السيئة أو المعلومات الخاطئة أو القديمة) واستبعاده من ذاكرة المرء.

أقول إن هذه السنة بالنسبة لي سنة الـunlearning، لكن هذه العملية غير سهلة! تبدأ بالوعي، ثم اكتشاف البديل وتبنيه. في مقال نشرته مجلة Breathe حول الموضوع، يقترح ريتشارد آيفري أستاذ علم النفس والأعصاب بجامعة كاليفورنيا- بيركلي  الخطوات التالية لعملية استبعاد ناجحة:

  • حدد ما تودّ تغييره. إذا كنت تعرف أن ادائك في مكانٍ ما لا يتفق مع ما تريده راجع أسلوبك ومهاراتك وأهدافك واسأل نفسك ما هي الجوانب التي يمكنني تغييرها؟
  • حدد حجم التحدّي. هل ستحاول تضمين إصلاحات بسيطة أو ستذهب إلى حلول جذرية؟
  • قيّم تجربتك. راجع التغييرات التي أجريتها على حياتك، هل أدت إلى النتائج المرجوة؟ إن تتبع هذا التغيير واختباره يضمن ثبات الجيّد منه.
  • تحمّل المطبات. ستشهد تذبذب في الأداء حتى تصل للمستوى المطلوب. والأهم هنا أن تكون صبورًا لتجني الفوائد على المدى البعيد.

لم أطلع على اقتراحات ريتشارد من قبل ولكنها ذكرتني بمساري العفوي الذي لم اختر له أي خطة. يمكن أن يكون نبذ المعرفة أو اللاتعلم الخاص بك في مجال شخصي، أو مهني، أو حتى في علاقتك مع الناس حولك، وعلاقتك بالمال مثلًا. إذا كنت سأقترح شيء ما من تجربتي: لا تحاول فرض التغيير دفعة كاملة. تدرج مع نفسك وعاملها برفق حتى لا تفقد شهية التغيير بالكامل.

أتمنى لكم نهاية أسبوع سعيدة!

يوم السبت بإذن الله سأشارك معكم تدوينة منوّعة عن مفضلات الفترة الماضية.

.

.

.

Painting by Henri Matisse – Interior with a Young Girl (Girl Reading)

,

,

,

3 تعليقات على “آخر أسبوع في الرّبيع”

  1. إن أمكن أن نطلق على شيء غير مادي بـ ‘comfort blanket’، فهي تدويناتكِ بكلّ تأكيد
    ايضًا، لازلت سعيدة بعودتك جدًا جدًا 💗

  2. في وقتها…
    أما عن ارتباطنا بقطعة ملابس او شيء معين
    مهما جرى عليه الدهر.. ربما لذكرى معينة أو لشعورنا الدافئ بوجوده.. تحصل أحيانا

    ننتظر جميلك الدائم هيفا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.