١٢| محطة تبديل

تنتظر عائلتي هذا المساء وجبة شهيّة وعدتهم بتحضيرها ليلة البارحة. تذكّرت الأمر الذي أنساه دومًا: لا تقدم أيّ وعود وأنت في حالة سعادة غامرة! وهذا ما كان يوم أمس. قدّمت أولى ورش السنة في مجال الكتابة الإبداعية بالتعاون مع بيت كلمات. كانت ورشة ممتعة تعلّمت منها الكثير والتقيت بمجموعة منعشة من الحضور. أتطلع لتقديم مزيد من الورش خلال هذه السنة وسيكون منها نسخ متنقلة بين مدن المملكة وأخرى أقدّمها رقمية.

بدأت كتابة مسودة هذه التدوينة قبل أسبوعين تقريبًا، يومها أغلقت جهاز سخّان الماء وهذا التقليد السنوي يعلن انتهاء الشتاء رسميًا، واستعدادي لصيفٍ طويل على ما يبدو. تخففت من فكرة التدوينات الأسبوعية أيضًا، اثقلت نفسي بوعد قطعته في لحظة سعيدة بكتابة تدوينة كلّ خميس. لكنّ القفز بين مهام الكتابة في العمل، وإتمام فصول كتابي ليظهر هذا العام أرهقني! لديّ هدف كبير واحد، وسأزور المدونة لأتنفس من حين لآخر ولأشارككم تحديثات أحبّها.

أبريل ومايو ذابت على بعضها مع ارتفاع درجات الحرارة وهكذا تفاعلت مع كلّ الأحداث التي أحاطت بي. ذهبت في رحلة ممتعة وغريبة خططت لها منذ بداية السنة. كانت زيارتي الأولى لمدريد الإسبانية محفوفة بالمغامرات. ولذلك أقول لكلّ من سألني عن رأيي وتجربتي: احتاج إعادة لهذا المشهد! خلال عدة أيام جربت تبدل الفصول وزرت حدائق ومشيت في الشوارع التهم العمران الرائع بعينيّ. وكلّ هذا بلا خطة مسبقة. لم أفعلها من قبل في أيّ رحلة. هذه المرة فقط تحققت من حجز رحلة يومٍ واحد لغرناطة وقصر الحمراء، وحجزت كلّ تفاصيلها قبل شراء تذكرة السفر إلى مدريد.

كنّا أن ومنى أختي نقضي النهار في التجول الهادئ والتسوق واكتشاف المنطقة ونقرر خطوتنا القادمة حسب طاقتنا واهتمامنا. فاجأتنا ماراثونات متتالية، وإضراب عمّال النظافة، ويوم كامل بلا كهرباء في حادثة غير مسبوقة. فقدت السيطرة على خطة مدريد بالكامل، وغرقت في الضحك ومررت بكلّ الفصول. لو لم تكن خطتي الابتدائية هي المرونة والتحرك مع التغييرات لشعرت بالقنوط فورًا.

خلال عطلتي الربيعية تنقلت بين المشاعر والاهتمامات واكتشفت الكثير عن نفسي. أقول لمرشدتي بأن الأشهر الماضية كانت بمثابة الوصول للقاع، أردت السقوط العشوائي حتى تلمس قدماي نهاية هذه الحفرة. وسأحمل نفسي حينها وأعود. أهملت كلّ شيء وتوقفت عن الانتظار والاكتشاف. طال الوقت وتأملت نفسي لأجد أن الجلوس في هذه الحفرة كان ممتعًا ولا يبدو أنّي أعارضه أو أعمل على إصلاحه. كان قاعًا مفتعلًا. حفرة حفرتها لنفسي وتسللت إليها.

عامل الحركة والتغيير بدأ منذ حصلت على رخصة القيادة، هذا مشروع ميّت استيقظ وأتممته بأجمل صورة، لماذا لا ينجح الأمر مع كلّ شيء؟ بدأت بنفض حياتي بالمعنى المجازي والحقيقي. ما الذي كنت انتظره قبل هذه اللحظة؟ العودة لتقديم ورش العمل في الكتابة؟ بدء برنامج رياضي صارم استعيد معه لياقتي؟ محاربة الأرق؟ إنعاش علاقات؟ إنهاء أخرى؟ وهكذا وضعت قائمة مطوّلة تنتظر العلاج والانتباه.

شعار المرحلة هو تغيير المنظور، وبدأ الأمر مع شهر رمضان الماضي وامتدّ لعطلة العيد وعطلة الربيع والأمر مستمرّ. ما الذي يحدث عندما أغير المنظور؟ مع تغييره اكتشف أنّ ما أظنّه نهاية الطريق هو منعطف أو بداية ممرّ. أو كما اخترت عنوانًا للتدوينة «محطّة تبديل». محطة التبديل هي منشأة تستخدم لتغيير الجهد الكهربائي وتحويله من مستوى إلى آخر، بالإضافة إلى توفير الحماية والتحكم في تدفق الكهرباء في الشبكة الكهربائية (يبدو أني ما زلت متأثرة من انقطاع الكهرباء في مدريد).

 لقد عبرت هذه المحطة خلال الأسابيع الماضية، وتعلمت أن الراحة لا تأتي من الانتهاء كما خمّنت بل أحيانًا بمجرد البدء! كانت الخطوة الأولى التخفف والجرد والتفكير العميق في أولوياتي -من جديد. واعترفت لنفسي أن التعطل المربك كما رأيته لم يكن سوى هدوء ما قبل الحركة. تغير المنظور وآمنت أن البطء فرصة تستحق الاقتناص.

تعلّمت أن الراحة لا تأتي دائمًا من الانتهاء، بل تبدأ من الخطوة الأولى، من الاعتراف أنّ ما كنت أظنه “تعطّل” هو فقط “هدوء ما قبل الحركة”. تغيّر المنظور يعني أن أنظر للبطء كفرصة، وليس كفشل. أن أرى الفوضى كمساحة لإعادة ترتيب الأشياء، لا ككارثة.

حالة التوقف تمامًا عن كلّ شيء لم تكن توقفًا حقيقيًا حتى. كانت حركة غيّرت شكلها. من جري سريع باتجاه هدفٍ بعيد، إلى مشيٍ هادئ داخل النفس. بدأت أتعلّم أن بعض الطرق لا تظهر إلا حين أخفض رأسي، أو ألتفت قليلًا، أو أتطلع لوجهةٍ اقترحها الآخر. الأمر لا يتطلب شجاعة خارقة، ولا قرارًا دراميًا. أحيانًا، مجرد تعديل بسيط في زاوية الرؤية يفتح احتمالات جديدة.

شيء آخر اكتشفته في بحثي هذا، أن زاوية الرؤية ليست بالضرورة مطابقة لما يحدث حولي، بل كيف أقرؤه. وهذا الاكتشاف خفف عنّ كاهلي ثقلا كنت أحمله بلا وعي مني. كنت أهرب من الركود هروبي من المرض والملل. وكنت أرى اختلال الخطّة هزيمة. الموضوع يشبه تعديل جلستي على الكرسي بعد انحناء طويل. تفصيل صغير ومهمل لكن تنفسي تحسّن وظهري سيشركني لاحقًا.

في تطبيق الملاحظات على هاتفي، أؤرخ اللحظات التي غيرت فيها زاوية رؤيتي، فناجين قهوة أقلّ، كتاب واحد يُقرأ ببطء لشهر كامل، ترتيب مكتبتي بشكل مختلف، إعادة مشاهدة مسلسل قديم، والأكثر متعة هو تغيير طريق الذهاب للعمل كلّ عدة أيام واكتشاف مرونتي مع ذلك.  لم أعد أبحث عن إنجازٍ عظيم يؤكد لي أنني على المسار الصحيح؛ يكفيني أثرٌ صغير يهمس لي أنني ما زلت هنا، وأن في داخلي طاقة للحركة، وإن كانت أبطأ مما ظننت.

أشعر بأني استطردت كثيرًا في هذه التدوينة، لكنّه فيض الكلام عندما يداهمني ويصعب تجاهله. قبل مدة كتبت ملاحظة خاصّة لنفسي تذكّرتها الآن، وأظنّها تصبّ في موضوع التباطؤ وتبديل الحركة.

لسنوات طويلة كنت أبحث عن حبّ عاصف يغمرني ويغير نظرتي لنفسي والعالم.

لم يحدث ذلك.

لكنّ اللحظة التي قررت فيها إيقاف محركات هذا البحث المجهد والغريب والمؤذي أحيانًا.

تنبهت إلى أي درجة أصبحت أحبّ نفسي.

أحبّ نفسي بعمق هائل يحتضنني ويعيد ترتيبي كما أتمنى.

بوصلتي واضحة.

كل شيء واضح.  

.

.

.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.