٤ أغسطس – محاولة من جديد

هذه التدوينة فتات الخبز الذي سأتركه على الممر المؤدي لغابة عصافير الكلام!

لم أصدق سرعة ركض الأيام حتى شاهدت التقويم على مكتبي. بالأمس كنت استعد لكتابة تدوينة طويلة عن رحلتي الصيفية مع أخواتي (كان الأمس يونيو) ومرّت الأيام وفقدت الاهتمام بالحديث تمامًا. فقدت الاهتمام بالكثير من الأشياء لكنني مستسلمة وسعيدة. يداهمني الانزعاج في منتصف اليوم أحيانًا وأحاول الوصول لسببه وأفشل. أمرّ بأحداث صغيرة وكبيرة تذكّرني بقيمي التي التزمت بها والوعود التي قطعتها لنفسي، لكن صوتًا صغيرًا بداخلي يقول: هل بعض المرونة والتغيير مفيد هنا؟ تمرّ بي أحداث كبيرة وصغيرة واتساءل السؤال البعيد عن القنوط: لماذا يحدث معي هذا؟ مرة ومرتين وثلاث. ليس لدي ما أقوله هنا حقيقة. وإذا وصلت لهذه الصفحة بسبب تنبيه التدوينة الجديدة وكانت كلماتي مخيبة -اعتذر.

أكتب هنا لأنها مساحتي، ولأنني أفكر بتجربة شيء جديد. الصيف يشعرني بوحشة غريبة ووحدة أحيانًا. انغمس في العمل والمهام والمشاريع المؤجلة ثمّ يهدأ الصوت في رأسي وأتذكر ما تجاهلته. أرجوحة قلق لا تذهب إلى مكان.

في نشرة بريدية استقبلها كلّ أسبوع كتبت مدونة أمريكية تفاصيل استقبالها لشهر جديد كالتالي:

اشتريت شيئًا جديدًا.

اقرأ هذا الكتاب.

وأتطلع لهذا الأمر خلال أغسطس.

شيء أودّ الإشارة إليه: كتاب القصص القصيرة «كاتدرائية» لريموند كارفر. قصص قصيرة ممتعة ومختلفة أعادت لي شهية كتابة القصص – لا أظن أنني سأتبع هذه الشهية لأسباب كثيرة. آخر مرة كتبت فيها قصة قصيرة قبل ١٤ عامًا وكانت قصة غريبة جدًا أرشفتها ولا أود العودة إليها. كانت شخصيتها الرئيسية رجل يفقد أصدقائه كالعرق من مسام جسده! ما هذه الغرابة؟ ربما كان كابوس أو تعبير حقيقي عن مشاعري التي تزورني كلّ صيف. أذكر مرة اسميت شهر أغسطس بشهر الغربلة. أغربل فيه كلّ شيء. لا أعلم ما سيحدث هذه المرّة. أشعر بالانزعاج والفوضى والضجر. ولا أرغب في الحديث عن تفاصيل هذه المشاعر. أريد أن تأخذ دورتها الكاملة، أن اتخفف من هذه الأحاسيس بالانتظار والكتابة والبكاء.

هذه التدوينة تجربة. وفي وقت انقطاعي عن التواصل على منصات أخرى فالطريق الوحيد لهذه الصفحة سيكون عبر الإعلان البريدي للمدونة، أو فضولكم.

وفي حال وصلتم للنهاية شكرًا.

حدثوني عن يومكم، أو أيامكم عمومًا، كيف تبدو؟ هل ستتركون فتات الخبز هنا لأتبعكم بالحديث؟

.

.

.

رسائل من وادي الفوضى

اتحسس جرح صغير غائر على إصبعي وأفكر كيف يمكن صياغة افتتاحية مناسبة لهذه التدوينة العشوائية؟ ربما سأحكي أولًا قصة هذا الجرح الذي حدث بسبب انعدام صبري! قبل أسبوع أو يزيد من اليوم وجدت نفسي حبيسة غرفتي مع قطة متوترة بلا طعام أو مكان لقضاء حاجتها. كان يومًا طويلًا ومجهدًا عدت فيه من ورشة تدريبية بدأت صباحًا وتبعتها عدة ساعات عمل في المكتب. لم تعتد قطتي النوم في الغرفة. كل ليلة تقضي بعض الوقت معي ثمّ أخرجها لتتجول في المنزل وتجد زاوية هادئة لتغفو. كانت ظريفة جدًا تلك الليلة!

نظرت لعينيها اللامعتين وقلت هيا معي نختتم اليوم باللعب ثم اتركك تذهبين. أدخلتها وأغلقت الباب بالمفتاح وبعد بضعة دقائق شعرت بالملل وطالبتني بالخروج. حاولت فتح الباب عدة مرات لكن المفتاح امتنع عن الحركة. قررت حينها استخدام منشفة ثقيلة للامساك به وتحريكه بقوة وكسرته! وقفت مذهولة للحظة والمفتاح في يدي ولولو تموء وتدور حول قدمي في محاولة لشرح فتح الباب ببساطة: ما بك يا هيفا؟ هيا ضعي المفتاح هنا وحركي مقبض الباب لنخرج.

قبل أقل من ربع ساعة كان المنزل نابضًا بالحياة، والديّ مستيقظين يشاهدون مباراة أو برنامج رياضي عرفت ذلك من الصوت. وأختي كانت رفيقتي منذ قليل ولا أصدق أن النعاس تمكن منها بهذه السرعة. تواصلت مع كل الهواتف وطلبت النجدة من أخي الذي يعيش في مسكنه المنفصل. وانطلق لنجدتي!

 مختصر القصة يا أصدقاء لأنني رويتها عشرات المرات منذ ذلك اليوم، عشنا ليلة طويلة من محاولات كسر القفل وإصابة في إصبعي بعد استخدام كل أداة حادة في غرفتي وانتظرنا الصباح لاستدعاء فنّي أقفال أو في سيناريو أسوأ: الدفاع المدني. فتح أخي الباب وقررت الذهاب لليوم الأخير من برنامج التدريب والعمل كأي يومٍ آخر لكن برأس لم يغف أكثر من ساعتين. وقطتي لولو المسكينة ركضت كما لم تركض من قبل باتجاه صندوقها وطعامها وشربت الكثير من الماء. أظن أنها ستعيد النظر في قضاء الليل بصحبتي وقد تركض في اتجاه معاكس كلّ مرة نلتقي في الممر.

القصة كلّها كانت بمثابة درس برسائل متعددة. قالت أختي: تأملي كل المجازات الممكنة لما تمرين به. في لحظة واحدة وجدت نفسي حبيسة المكان مع أفكاري ومشاعري والمرحلة الغائمة التي أمرّ بها منذ إبريل الماضي.

والآن سأحكي لكم عن قصة عنوان التدوينة المناسب جدًا لهذه الأيام!

ركز البرنامج التدريبي الذي حضرته على «التغيير» كيف يبدأ في المنظمات؟ وكيف نتعامل معه؟ وكيف تتمكن من الصبر على كلّ تفاصيله؟ كل هذه الأسئلة حضرت مع إجاباتها المسهبة، وقضيت مع زملائي تجربة ممتعة في تطبيق سيناريوهات تخيلية لبعض التحديات التي نواجهها في عملنا اليومي.

علق في ذهني نموذج «كيوبلر – روس» للتغيير. استخدمته المدربة وزميلتها في وصف حالة الموظفين في بداية وخلال ونهاية التغيير. في بدء المنحنى يسيطر الإنكار على الجميع، من ثم يهبطون باتجاه القاع وتبدأ المقاومة والشكوك، وفي القاع يستقرون في «وادي الفوضى» هنا يبدأ الألم والكرب، قد يطول مكوثنا في هذا المكان حتى نقنع بالتغيير ونتبناه بالصبر والمعرفة، ونصعد باتجاه الاكتشاف وتعزيز الإيمان باتجاه القمة حيث نملك الخبرة الكافية والالتزام بهذا التغيير.

في رحلتي الشخصية مع التغيير أقف في المنتصف، في وادي الفوضى! واللحظة الأولى التي ظهر النموذج على الشاشة أمامي ابتسمت لا إراديًا للمدربة. نعم أعرف هذا المكان جيدًا. من بين كل الرسائل التي تصلني كلما استشرت من أثق به: الصبر الصبر الصبر. تتردد الكلمة على سمعي كأنها تهويدة. هذا الصبر الذي سيخفف عني شعور الضياع العميق ويسهّل خطو أقدامي صعودًا.

بدأت التفكير في هذه التدوينة قبل أسبوعين تقريبًا، كنت أبحث عن نافذة أزفر منها ثقل مايو الطويل جدًا وأحداثه الغريبة وصعوباته. الأسبوع امتدّ وزادت الحكايات في رأسي والتفاصيل والتأملات.

ما زلت أفكر في الغرفة المغلقة وحديث عابر مع صديقتي مساء الأربعاء البعيد: اليوم سأعود للمنزل، أبكي قليلا، وأكتب تدوينة جديدة! وجدت سببًا للبكاء، وقصة جديدة لترويها.

يونيو يبشر بالخير من بدايته، العيد ورحلة صيفية وكتب جديدة أتطلع لالتهامها.

إذا كان هناك قائمة للحظات مبهجة خلال الفترة الماضية ستكون كالتالي:

  • إتمام رواية يابانية ممتعة للكاتب كيئتشيرو هيرانو بعنوان «أحد الرجال» والبدء برواية للكاتبة الإيطالية نتاليا غينزبرغ بعنوان «معجم عائلي»
  • سولو الكمان في مطلع ليلة حب لأم كلثوم.
  • أطراف شعري المقصوصة حديثا.
  • إنطفاء اللون الأحمر في خصلاتي الفاتحة والشيب المغمور بالبندق.
  • فستان للعيد بلون السماء.

Photo by Rachel Rector

.

.

الأسبوع ١٨

استيقظت صباح الأول من مايو وعلى غير العادة امسكت بهاتفي المحمول لتظهر على الشاشة رسالة نصية من صديق نيويوركي كانت الرسالة مقتضبة جدًا وكافية لأفهم ما حدث: «هذا يوم حزين». قضيت دقيقة كاملة وفكّرت هناك أمر واحد تعنيه الرسالة، فصديقنا المشترك توفي في صيف ٢٠١٩ وبقي صديقنا الآخر* بول أوستر يصارع المرض من فترة. قلت لنفسي: لقد رحل أوستر بالتأكيد. فتحت المتصفح وكتبت اسمه وإذا بالأخبار تتوالى.

استدل على معرفتي به وقراءاتي الأولى من خلال مقالة نشرت في الاقتصادية، ربما كانت بداية القصة نهاية العام ٢٠٠٨ وبداية ٢٠٠٩. التهمت كتبه الواحد بعد الآخر خلال عدة سنوات ومن بعدها لم يبقَ من أعماله شيء إلا وزرته بالعربية أو الإنجليزية. لكنني أحب سرده الواقعي كثيرًا، أكثر من رواياته وقصصه. رحلاته ونظام عمله ودائرة معارفه كلها كانت محلّ اهتمام. وكلما سافر أحد أفراد العائلة طلبت منه عنوانًا أو اثنين سواء من كتبه أو قراءاته. أذكر أن أول** كتاب صوتي سمعته كان لرسائله وجي. إم. كوتزي وكلّ منهما يقرأ رسائله بصوته. في الكتاب نفسه عرفت بأنه لا يستخدم البريد الإلكتروني ولا يملك حسابًا على منصات التواصل الاجتماعي. وهي معلومة أكدتها زوجته سيري هوستفيدت في منشورها الأول بعد وفاته. أذكر أني كتبت شيئًا في تدوينة سابقة عن القوائم التي نبدأ بسردها في أذهاننا عند فقد أحدٍ نحبّه. وربما كانت هذه قائمتي!

الليلة السابقة لوفاة أوستر كنت اتحدث مع أختي عن شعور أجسادنا بالعمر وتأثيره عليها وتذكرت اقتباسًا في بداية «حكاية الشتاء» لأوستر، يصف شعور الأقدام على الأرض الباردة أو شيء من هذا القبيل. وقبل أسبوع من هذا اليوم كنت اقرأ بشكل عشوائي تدوينات قديمة أحبّها ومررت بتلك التي سجلت فيها مشاعري عند لقاءه في بروكلين!

حلمت كثيرًا بتلك اللحظة لدرجة أني قررت الذهاب لحيّه الذي يقطنه. حديقته العامة والشوارع التي تتخلل الحيّ كي نلتقي في صدفة مجنونة. لكنّ الأمنيات تتحقق بعد عشر سنوات بالتحديد من قراءتي الأولى. وقّع نسختي العربية من ثلاثية نيويورك والتقطنا صورة لطيفة سأحملها في ذاكرتي للأبد.

في أخبار أخرى انتهى شهر أبريل الذي ينافس في طوله شهر شوّال. كان شهرًا عاصفًا*** على جميع الأصعدة لكنّه جميل وممتع. استعدت فيه شهيتي للقراءة والاكتشاف ورتبت لعطلتي الصيفية القادمة وعدت للتدوين طبعًا.

كيف يبدو مايو من هنا؟

اشتركت في تطبيق أبجد للكتب الرقمية أخيرًا بعد عدة محاولات من الصديقات لإقناعي أن القراءة الرقمية مجدية وربما لأن مكتبتي لم تعد تحتمل المزيد من الكتب المطبوعة في الوقت الحالي. قد اتخفف من مجموعة كتب في نهاية السنة لكن حاليًا اخترت القراءة الرقمية وقيمة الاشتراك مذهلة مقارنة بما سأدفعه لشراء كتب ورقية جديدة.

استمتعت بقراءة مقالتين عن القراءة الجهرية ومتعتنا المفقودة عندما توقفنا عنها. أحبّ قراءة مقاطع من الكتب والمقالات أينما كنت أجلس بصحبة عائلتي أو الصديقات.

في كلّ شهر أجرّب إضافة عادة أو تغيير على نظامي الغذائي وفي مايو سأعود لنظام غذائي جربته قبل سبع سنوات وساعدني في اكتشاف الأطعمة التي تسبب لي الانزعاج في جهازي الهضمي ويظهر تأثيرها على جسدي بشكل عامّ. اسم النظام «Whole 30» وكتبت عنه في هذه التدوينة بالتفصيل. سأعيد التجربة لمايو استعدادًا للصيف في محاولة هي مزيج من تنظيف للنظام واكتشاف مذاقات مختلفة. الشيء الذي لن التزم به في هذه المرة هو استبعاد البقول والشوفان ومنتجات الحليب حيث إنها أساسية في نظامي الحالي.

نهاية الأسبوع قضيتها في قراءة الصفحات الأخيرة من رواية «الطباخ» لمارتين سوتر لا أستطيع القول بأنها رائعة جيدة وليست سيئة لكنّها ممتعة ومثيرة للفضول. يوم الجمعة ذهبت مع أخواتي لباليه بحيرة البجع – نعم أردت قول الجملة لأنها تشعرني بالسعادة. أن تذهب للأوبرا مساءً أو تحضر مسرحية أو باليه في مدينتك نوع من الترفيه الذي انتظرته.

أشاهد على يوتوب سلسلة ممتعة عن البيوت والقصور التاريخية في بريطانيا والتي ما زالت تدار من الأسر الارستقراطية التي أسستها وسكنتها أول مرة أو من أفراد العائلة الذين يتحدرون من تلك الأسر. تقدّم هذه السلسلة الفيكونتس جولي مونتغيو وهي سيدة أمريكية متزوجة من ارستقراطي بريطاني. كتبت عنها في تدوينة سابقة بعد مشاهدة سلسلة وثائقية مشابهة وها هي تعود من جديد عبر قناة متخصصة على يوتوب. الكثير من المتعة والاكتشاف وجمال المعمار والطبيعة ينتظركم!

*طلب مني صديق ذات مرّة أن أرشح له كتب لبول أوستر فهو لم يقرأ له من قبل ويرى أنني وهو أصدقاء مقربين. أخذت شهادته هذه على محمل الجدّ واعتمدتها. نحن أصدقاء!

**لدي شكوك حول صحة المعلومة هل كان هذا هو الكتاب الصوتي الأول؟ أو كتاب عن تيد هيوز وسيلفيا بلاث؟

***غمرتني المشاعر والأمطار خلال أبريل بشكل غير مسبوق.

.

.

.

أعيش كل لحظة بكثافة فظيعة

أشعر بالغرابة في كلّ مرة أنشر تدوينة جديدة هنا. نسيت كيف افتتح التدوينات وأنا بحاجة للتخفف من فكرة كتابة جملة افتتاحية مناسبة لمحركات البحث أو النبذة التي تظهر في الرابط عندما يبعث به أحد إليك. شهرين ونصف تقريبًا بين التدوينة الأخيرة واليوم. هذه الفترات الممتدة من الصمت يصحبها كثير من الصخب والتحولات في العالم الخارجي*. الكلام كلّه في رأسي يطفو، يتقلب ويتلوّن. يتصاعد ويخبو.

أحب الكلمات كثيرًا!

يمكنكم اكتشاف ذلك لو مررتم بمكتبي ورفيقتي خلال ساعات العمل ستروننا نلعب بالكلمات، نرميها ككرة خفيفة بيننا. ما رأيكِ؟ هل كلمة مركز أفضل أو ممر؟ ربما معبر أو جسر؟ أكتب جملة وأمررها لها وتعيد تنسيقها وتختار كلمة ذهبية مثل “يتقفى” لتصف معرضًا فنيًا يسافر بالزمن. بينما كان اختياري تقليدي ونمطي جدًا: يعكس .. يعكس ماذا؟

تمتصّ طاقتي الاجتماعات في منتصف اليوم واستذكر ساعات الصباح التي قضيتها اليوم في لقاء صديقة جديدة. أحبّ الانترنت أيضًا -ليس بدرجة حبّي للكلمات. ممتنة لهذه النوافذ المضيئة والفرص العفوية، وفكرة: لماذا لا نفعلها؟ لنلتقي اليوم ونكتشف البقية لاحقًا. تمنيت لو أنّ شهيتنا للطعام كانت مفتوحة لكنت اقترحت أن تجرّب كعكة الموز الشهية لديهم. اكتفينا بالقهوة وتبادلنا القصص السريعة مع وعد بتجديد اللقاء متى ما سمحت الفرصة.

هذه سنتي العاشرة في الرياض. رسميًا سأصبح رياضية؟ كنت قد أجريت بحثًا شخصيًا جدًا عمّا تفعله بك المدن الكبرى عندما تنتقل إليها. الركض والتوتر وخلطة غريبة من الطموح والاحتراق! قضيت السنوات العشرة في صراع مع جسدي وصحتي وطموحي. وسلّمت أخيرًا أن سلم الأولويات سيقلب رأسًا على عقب. وأنّه ما من عيب في أن تستقر في وظيفة هادئة منخفضة المخاطرة وعالية القيمة في جوانب أخرى. وظيفة سمحت لي بالأساسيات التي يطلبها جسدي منذ عدة سنوات ويرسل نداءات استغاثة بلا مجيب. النوم الكافي، زيارة الطبيب وعمل الفحوصات للأعراض الصحية الغريبة. وطبعا التخلص من الكيلوغرامات الزائدة التي حملتها معي. هذا الشهر أتممت سنة مع رحلة التنظيف والعلاج.  سعيدة جدًا بالتحسن الذي لاحظته ولاحظه الكثيرون من حولي.

استحضر هنا اقتباسًا أحفظه في هاتفي من قصيدة لنيّرة وحيد.

لن أعبث في الكلمات بترجمتها وسأتركها هنا:

and I said to my body. softly. ‘I want to be your friend.’ it took a long breath. and replied, ‘I have been waiting my whole life for this.’

Nayyirah Waheed

جسدي سعيد أعرف ذلك، لأنه يتجاوب معي بشكل أفضل. أعطيه الراحة والاهتمام ويعطيني القدرة على مجابهة الأيّام. سأكتب رسالة طويلة لجسدي يومًا ما، جزء اعتذار وجزء قصيدة حبّ.

عدت أيضا للتخطيط اليومي والأسبوعي – والشهري بعد توقف سنوات. ظننت أنّ العفوية والعيش بلا خطة يناسبني لكّنه تسبب بالفوضى العارمة. فوضى مفتعلة طبعًا ونتيجتها أعادتني لنفسي. أنا لا يصلح لي التنقل في الأيام بلا مراسي. وجاء الفصل الأحبّ من السنة: شهر رمضان. قلتها من قبل وسأقولها دائمًا: شعور بداية السنة يحضر هنا بقوة. كان شهرًا هادئًا والطريف في الأمر أنني قلت لصديقتي: أريد عزلة تامّة! لا أريد رؤية أحد أو الخروج كثيرًا من المنزل. الأسبوع الأول كان للعمل وبعدها فقدت صوتي! نعم فقدت صوتي. استيقظت ذات يوم وبعد صمت الصباح المعتاد** حاولت تحفيز حنجرتي للحديث وفشلت. بقيت على هذا الحال مع مزيج غريب من السعال والاعياء لأسبوع كامل وما إن تشافيت من العرض حتى ظهر آخر وأبقاني حبيسة المنزل.

مضى الشهر وأنا في عزلة حقيقية كما أردت. لكنّه الأكثر سكينة وهدوء منذ سنوات. ربما ساعدت الأجواء في هذا الشعور العام بالسلام فالمطر يغمرنا كل عدة أيّام والعائلة تجتمع بشكل متقارب بعكس الانتظار لنهاية الأسبوع.

في الفترة الماضية عدت للقراءة باختيار كتب مختلفة المواضيع واستعدت شهيتي وفضولي. عنوان التدوينة اقتباس من رسالة لسيلفيا بلاث لا أذكر لمن بعثتها لكنّ العبارة بقيت في ملف الملاحظات لديّ. نعم أعيش كلّ لحظة بكثافة فظيعة. لكن هذا جيّد لأنّ هذا هو شكل الحياة الذي أبحث عنه. تباطؤ وهدوء يسمح لي برؤية الأشياء بوجهها الحقيقي. كيف كانت الأيام فيما مضى قبل هذا الهدوء العظيم؟ مثل النظر عبر نافذة قطار ينطلق بسرعة. لا أنا قبضت على مشهد محدد ولا وصلت.

فقدت قطّتي شهيتها قبل مدة قصيرة. القفز بين المواضيع لعبتي المفضلة***

فقدت شهيتها ونابها الأخير****.

هذه الأحداث تذكرني بفكرة ترعبني: قطتي عجوز! وسيأتي الوقت الذي تغادرنا فيه ومهما تجاهلت الفكرة إلا أنها تضعني بمقابل فكرة أخرى: التقدم في العمر وما يفعله بنا. قطّتي تبلغ السادسة عشرة هذا العمر الذي يقابله ثمانين سنة بعمر البشر. عجوزة تتأرجح ذاكرتها بين يومٍ وآخر. روح صغيرة رافقتني خلال سنوات رعايتي لها. أقولها مازحة أحيانًا لكنها فكرة عميقة في قلبي: علاقتي بها أطول من علاقتي بكثير من الأشخاص الذين عبروا حياتي! لا أحبّ الزوايا المظلمة من الحكايات لكنها موجودة وحقيقية.

هذه تدوينة غرائبية فوضوية ولذيذة أقول ذلك وأنا أحاول القبض على آخر كلماتها في رأسي. أودعها هنا في مخزني الحبيب.

.

.

.

*اتخيل مدونتي صندوق أو غرفة تحت الدرج

**أحبّ قضاء ساعات اليوم الأولى في صمت تامّ إذا استطعت

*** تقول زميلة عمل أنها تفاجأ كلما زارت جناحنا. كلّ واحدٍ منا يتحدث عن شيء مختلف والجميع يستمع والكلّ يعلق ثمّ نقفز لموضوع عشوائي آخر وهكذا. في قلب هذا الصخب نفهم بعضنا البعض أما الزوار القادمون من المكاتب الأخرى فيقع عليهم عبء الفهم أو الجلوس للمراقبة والشعور بالدوار.

****تخلّصت من نابها الأول قبل سنة تقريبًا أو أكثر. لم تنتظر الذهاب للبيطري وتركته في ممر الغرف ليفزعني منتصف الليل.

.

.

.

Painting by Nathanaëlle Herbelin

أين هربت كلماتي؟

 

بدأ الموضوع بالتدريج، مثل فقدان الشهية أو تسلل الانفلونزا للجسد. كنت أحسب الأيام أولًا ومرّت خمسة أسابيع بلا أثر لرغبة التدوين أو الشعور بالحاجة لكتابة أيّ شيء! حتى اليوميات التي سرقت الوقت لكتابتها في مذكرتي وأوجزتها في سطر أو سطرين توقفت تمامًا. بحثت عن أشكال أخرى لتسجيل الذكريات اليومية كالتصوير، ولم أجد سوى مجموعة كبيرة من صور «السيلفي» التي أشاركها مع أخواتي خلال اليوم. لم أقلق من غياب شهية الكتابة لكن الأمر أخذ منحىً مختلف عندما توقفت عن القراءة في نفس الوقت، ومشاركة أي شيء على أي منصة رقمية.

الآن بدأت بالتفكير، هل هذه رغبة سريّة قديمة؟ كنت قبل عدة أشهر أردد في سري وأحيانًا في دوائري القريبة: أريد أن أحذف كلّ شيء وابدأ من الصفر. أو أصمت تمامًا وأقضي حياتي بلا مشاركة أو تعبير. لم تكن أمنية، بل أقرب للهاجس لكنها تحققت في كل الأحوال. مر شهر واثنان بلا تغيير وذهبت في رحلة تدريب إلى لندن متأهبة ومستعدة لتدوين التجربة ومشاركتها بالصور والأفكار. قضيت أسبوعًا كاملًا في التعلم والمغامرة ولم أجد في نفسي أي حماس لرواية القصة.

حاولت الاحتفاظ بالذكريات لأطول وقت ممكن واستعنت بكاميرا فيلم لاستخدام واحد. أستطيع اليوم التحدث عن رحلتي القصيرة بالنظر لتلك الصور المطبوعة -مرتين لحسن الحظ-. هنا الفندق الصغير الذي توسع في المبنى المقابل وجربت السكن في توسعته الصغيرة. على الباب الأخضر رقم ٣٣ زينة الميلاد الملونة التي اعتذرت سائحة أمريكية عن تصويرها والتلصص على «بيتنا» أنا وأختي عندما باغتناها بالخروج فجأة. ضحكنا ولم نصحح لها معلومة إنه فندق يا سيدتي وليس بيتنا! لم تنجح صباحات لندن الباردة في إيقاظ الحبر في قلمي، أو جهازي المحمول بالضرورة.

أركض عبر الشارع لمبنى الفندق الرئيسي كل يوم قبل شروق الشمس، التقط واحدة من المخبوزات الفرنسية الشهية كأنها رهينة في كفّي، وأعلن للموظفة عند ماكينة القهوة: لديك اليوم ٣ دقائق لتحضير «الفلات وايت». كلّ يوم أعطيها وقت جديد والسرّ في المدة التي تستغرق وصول سائق أوبر لرأس الشارع. شارع هنرييتا مغلق أمام السيارات كل يوم في المساء، ويفتح مؤقتًا لمرور سيارات نقل الأطعمة والتجهيزات وصولًا إلى منطقة كوفنت غاردن. صانعة القهوة هي نفسها موظفة الاستقبال، وأحيانا نادلة في المشرب لوقتٍ متأخر.

لماذا أذكر هذه التفاصيل بأثر رجعي؟ ربما لأنني حاولت كتابتها يومًا ما ولم أجد الكلمات. هربت. غادرتني في إجازة مطوّلة لتختبر صبري واهتمامي بعودتها.

أنهيت تدريبي وعدت محمّلة بالذكريات والدروس والتجارب والعلاقات الجديدة الطازجة التي سأربيها لتكبر. هل عدت للكتابة والتفكير؟ لا طبعًا. غرقت في تفاصيل كثيرة في انتظار العام الجديد. أفكر في نفسي، أين كنت قبل سنة من اليوم؟ كيف قضيت أيامي؟ هذا هو الوقت الوفير الذي كنت أبحث عنه لأكتب وأدوّن وأتعلم وأعلّم. تقول مرشدتي هذا فصل الشتاء، أنتِ تمرين بشتاء معنوي.

أردت إيجاد كلماتي بكلّ الطرق، لدرجة افتعلت معها المشاكل والتجارب! افتح المدونة واقرأ كتابات عشوائية قديمة علّها تذكرني بطرق الصياغة أو استعادة الإعدادات. آخر تدوينة كتبتها تظهر في الصفحة الرئيسية وتمدّ لسانها لي: أفكار عملية للخروج من القوقعة! خرجت كلماتي من القوقعة وتخلصت من عبء انتظاري.

أردت فعل كلّ شيء بإصرار ووجدت نفسي بين مسارين: إجبار نفسي على الكتابة (لأجل ماذا ومن؟) أو تجاهل الأمر تمامًا ومتابعة الحياة بدونها.

من أنا اليوم؟ وكيف أعرف بنفسي إذا لم اكتب؟

تذكرت تمرين محببّ يساعدني على فهم نفسي في لحظة ما، في مكانٍ ما عندما تضطرب البوصلة. إذا استيقظت اليوم في مدينة أخرى غير الرياض، في سياتل، أو نيودلهي. كيف تتصرف؟ ما هي القيم التي تحملها وتعيش بها؟ العناصر الأساسية التي تعكس ما تؤمن به؟ ما الشيء الذي ستفعله هيفا أينما كانت؟ وتكررت في تأملي الطويل: الكتابة، التعلّم، سرد القصص، العيش بحبّ، الاحتفاء بالفضول، واللطف. دائمًا ابدأ بالكتابة.

يهمني التوقف قليلًا هنا والقول إن هروب الكلمات لم يحدث في حياتي الخاصة وحسب، بل امتدّ لعملي ولحسن حظي أن المشاريع التي عملت عليها خلال الأشهر القليلة الماضية أخذت طابع استكشافي إداري وتحريري. لم يكن هناك عبء الابتكار الثقيل والكتابة من الصفر. استعرت كلمات الآخرين وأنقذتني.

وأنا اكتب هذه التدوينة تذكّرت قصة ظريفة حدثت مع والدي قبل عدة أشهر، بينما كان يقود سيّارته في إحدى الشوارع القريبة. شاهد سيارة عائلية تبتعد وسقط منها شيء. توقف عندما تعرّف عليه: حقيبة غداء طفل صغير. حاول اللحاق بهم لكنه فشل. وبدأت رحلة البحث عنهم! في اليوم التالي أخذ الحقيبة معه وقاد سيارته للحيّ والشوارع المجاورة علّه يلمح سيارتهم. لم ينتهِ هنا، حاول الاستفسار من حارس البناية التي خرجوا مها فقد يتعرف عليهم. إصرار والدي مدهش! كان يفكّر في هذا الطفل الصغير الذي فقد غداءه وحقيبته المحببة. كيف يوصلها إليه؟ أردت البحث عن كلماتي بنفس الدافع. بنفس الإصرار. مرت الأيام والآن في مخزن المطبخ الصغير على رفّ مرتفع حقيبة غداء لطفل عليها رسومات كرتونية تنتظر العودة.

لم تغب الكتابة عن ذهني يومًا واحدًا. في لحظات السكون كنت أقف في منتصف غرفتي تمامًا وأمدّ بصري للمكتبة، آلاف الكلمات ترقد هناك بهدوء ووداعة. تستفزني! يقطع الصمت رسائل يومية وأسبوعية أحيانًا من متابعين يسألون: متى ترجع للكتابة؟ أين غابت؟ وماذا تفعل اليوم؟

الإجابة الهادئة هي: إجازة طويلة. هل أعلم متى تنتهي؟ لا طبعًا. والشعور الذي يستقرّ في روحي يذكّرني باللحظة الأولى التي شعرت فيها بالغيرة. شعور خام غريب لم أعرف له اسما. (هذه قصة قديمة ربما شاركتها معكم من قبل) قصة هيفا الصغيرة تعلمت القراءة والكتابة مبكرًا ووجدت نفسها حبيسة المنزل لأنّها لم تصل العمر القانوني الذي يؤهلها لدخول رياض الأطفال والمدرسة. تزورها ابنة الجيران كلّ يوم في الظهيرة وتسألها: متى تذهب للمدرسة؟ الموقف يتكرر كلّ يوم وأنا أقع في الفخّ. افتح لها الباب بنفسي واستقبل سؤالها ويغمرني الحزن وأصدح بالبكاء. كلّ يوم. أشعر بالغيرة من الكلمات التي تطوف حولي ولا يمكنني القبض عليها. وأعود تدريجيًا لكتابة اليوميات في دفتر أخضر احتفالا ب٢٠٢٤. سطر هنا وسطر هناك. اقتباس لطيف مررت به. قصة مرمّزة. شعور خانق. كلها كلمات أشجع نفسي بهذا التعبير واستخدم كل صفحة كقطعة حلوى تستدرج المزيد من القصص.

في ورشة عمل حضرتها قبل أسبوع تقريبًا صرحت بمشاعري الحقيقية تجاه غياب رغبتي في الكتابة. تحدثت مطولا مع زميلتي وربما كلّ من عبر طريقي مؤخرًا. لم أكتم حقيقة خوفي المتعاظم. وما حصل لم يكن متوقعًا! استيقظت صباح الأول من فبراير بشعور مختلف: أريد أن أكتب من جديد. أريد استعادة كلّ شيء وتدوينه بأثر رجعي. الكلمات على أطراف أصابعي وحول غرفتي، وفي طريقي المعتاد للعمل وبين وقفات صمتي.

تعلّمت الدرس المهمّ من هذه الرحلة القصيرة وإن كانت أشبه بسنة كاملة من الصمت. الكتابة جزء من هويتي وفي لحظات نادرة جدًا اعترض عليها وأحاول تحييدها بحثًا عن تعريف مختلف لنفسي وأعود إليها بكلّ حبّ.

 

.

.

.

Collage by Rachel Recotor