لكنك تبكي ..

moona-aوطّدت نفسك على تقبّل البرد والسماء القاتمة.

ومرور الزمن وتبدّل الأحوال وخيانة الأصدقاء.

.

لكنّك أحيانا تبكي. يغمرك جيشانٌ هائل فتبكي. وحيداً، على جانب نهر ذي مياه سوداء تبكي. تحت جسر لم تعد تمرّ عليه القطارات تبكي، أمام الشبح الذي يطلع لك في أسوأ الأوقات ويعقد ذراعيه على صدره ويصفن بك كمستنطق عنيد تبكي. لا تطول لحظات الجيشان التي تبعثها صورة تعبر الذاكرة، رائحة تذكّر برائحة أخرى، فسرعان ما تستعيد رباطة جأشك وانضباطك العاطفي. فهذا ثمن تعرف أنّه ينبغي أن يُدفع، رغم أنّ أحداً لم يعد يراجع كشوف الحسابات على ما يبدو.

أمجد ناصر حيث لا تسقط الأمطار

عندما تستمع لبورودين تذكّر.


في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكّر أنه كان كيميائياً فحسب
يؤلف الموسيقى ليرتاح،
كان بيته مكتظاً بالناس:
طلاب، فنانون، سكِّيرون، معربدون،
ولم يتعلم أبداً كيف يقول: لا.

متابعة قراءة عندما تستمع لبورودين تذكّر.

حكاية السطر الأرمل .

“.. منسّقو صفحات الكتب – المتحدرون من صفّافي ومنضدي الحروف في المطابع القديمة – كانوا يرتعبون حيال بقاء سطر وحيد في الصفحة، أو بكلمة أصحّ شبه سطر. أقل من نصف سطر. وكانوا يطلقون على هذه الذيول اسم أرامل” . قد تكون هناك صفحة – في نهاية أحد الفصول مثلاً يكون النص الوحيد فيها هو سطر أرمل. في هذه الحلة يفعلون كل ما هو ممكن، لأسباب طباعية جمالية – وكذلك لأسباب اقتصادية كما سترون للانزياح نحو الأمام، أي لإحضار سطر أو سطرين، وربما ثلاثة سطور في بعض الأحيان، من الصفحة السابقة. وبهذا لا يبقى الأرمل أرمل ويطمئن الجميع. الجميع بالطبع، باستثناء المؤلف. لأن نقل هذه السطور يعني بقاء مكانها أبيض في الصفحة السابقة، ولكي لا يبدو هذا الفراغ ملحوظاً، يعمد منسق الصفحات إلى توزيع الفراغ ما بين فقرة وأخرى. لست أدري إذا ما كان القارئ ينتبه لذلك أم لا، لكنني اكتشف هذا الأمر على الفور؛ فحيث تركت فراغاً أجد الآن فراغاً أكبر. وهذا مرعب، لأن الفراغات بالنسبة إلى أحدنا تمثل استجابة لمنهج سرّي له علاقة بالزمن القصصي: فوجود فراغ طباعي أكبر يعني أن وقتاً أطول قد انقضى. ويجري ضبط هذا الزمن على الدوام بواسطة النقطة؛ فنقطة ومواصلة الكلام يعني أن الوقت قصير. أما النقطة والبدء بفقرة جديدة فيعني أنّ الزمن أطول. فإذا ما أضيف إلى الفراغ العادي الفاصل بين الفقرتين فراغان أو ثلاثة فراغات أخرى بيضاء – أو فراغ واحد أكبر من المطلوب – فكم سيكون قد مضى من الزمن؟ وإذا ما جاء هذا الفراغ وسط مقطع حواري، فسوف يكون مرعباً، لأنه سيعطي الانطباع بأن سنة قد انقضت ما بين السؤال والجواب. وهذه ليست مسألة نظرية، لأن الفراغات مسألة يمكن الإحساس بها. القارئ يحس بها. ويمكن كما قلت لكمأن يحدث العكس، فمن أجل توفير صفحة .. من أجل أن ينقص حجم الكتاب صفحة، تجري محاولة إزاحة الأرملأو سطر كامل، وضمه إلى الصفحة السابقة. وهذا يستدعي تقريب السطور أو – وهذا هو الأسوأ – تحويل فقرتين إلى فقرة واحدة . هل تظنون أن الطابع لن يوفر شيئاً بهذا؟ ربما يكون التوفير ضئيلاً إذا كانت الطبعة من ثلاثة آلاف نسخة، أما إذا كانت من ثلاثمائة ألف، أو مليون نسخة، فإن هذه الصفحة ستتحول إلى أطنان من الورق. ولكي يوفر الناشر هذه الكمية ويتمكن من جعل الكلفة أقل، يحبذ هذه الأعمال التي تتحول إلى كارثة حقيقية بالنسبة للمؤلف. أنا لا أسمح بذلك بأي حال من الأحوال. فإذا كان الناشر سيطبع مليون نسخة، فهذا يعني أنه سيربح مبلغا ضخما من المال يستدعي منه أن يعوض ذلك على الأقل بأن يحترم نبضات النص الداخلية. .”

غابرييل غارسيا ماركيز (ورشة سيناريو غابرييل غارسيا ماركيز)

المظلة .. عندما تتوقف عن كونها كذلك .

Picture by : Moona AlQahtani

تأمل كلمة تشير إلى شيء، المظلةعلى سبيل المثال، وعندما أقول كلمة مظلةفإنك ترى الشيء في ذهنك، ترى نوعاً من العصيّ، وقوائم معدنية من النوع الذي يطوى في أعلاها تشكّل هيكلاً يحمل قماشاً لا ينفذ منه الماء ولا يلتصق به، وعندما يفتح فإنه يحميك من المطر. وهذه الجزئية الأخيرة مهمّة، فالشمسية ليست مجرد شيء، وإنما هي شيء يؤدي وظيفة، وبتعبير آخر يعبّر عن إرادة الإنسان. وعندما تتمهل لتتأمل الأمر فإنك تجد أنّ كل شيء مماثل للمظلة، من حيث أنه يؤدي وظيفة، فالقلم للكتابة، والحذاء للانتعال، والسيارة للانتقال. والآن، السؤال الذي أطرحه هو ما يلي: ماذا يحدث عندما يكفّ شيء عن أداء وظيفته؟ أهو ما يزال الشيء أم أنه غدا شيئاً آخر؟ عندما تنزع القماش عن المظلة هل ما تزال المظلة مظلة؟ إنك تفتح القوائم المعدنية، وترفعها فوق رأسك وتمضي في المطر، وتبتلّ حتى النخاع. هل من الممكن الاستمرار في تسمية هذا الشيء بالمظلة؟ إنّ الناس يقومون بهذا بصفة عامة. وعند الحد الأقصى سيقولون إن المظلة قد كسرت. وبالنسبة إليّ فإن هذا خطأ خطير، ومصدر كل المشكلات، فالشمسية لأنها لم تعد تستطيع أداء وظيفتها كفّت عن أن تكون مظلة، ربما كانت كذلك في وقت من الأوقات، ولكنها الآن تغيرت إلى شيء آخر. غير أنّ الكلمة بقيت على حالها، ومن ثمّ فإنها لم تعد تستطيع التعبير عن الشيء، إنها غير دقيقة، إنها زائفة، وهي تخفي الشيء الذي يفترض أن تكشف عنه. وإذا لم يكن بمقدورنا تسمية أداة عادية تنتمي للحياة اليومية شيئاً نمسكه في أيدينا، فكيف يمكن أن نتوقع الحديث عن أشياء تهمّنا بصورة حقيقية؟ وما لم يكن بمقدورنا البدء في تجسيد مفهوم التغيّر في الكلمات التي نستخدمها فإننا سنواصل الضياع

” مدينة الزجاج لـ بول أوستر”