٢ رمضان: الذهب الأحمر.

٢:٥١م

خدمة الانترنت متعطلة في منزلنا منذ أكثر من ٤٨ ساعة.  اعتمد في تصفحي للمواقع وانجاز الأعمال على هاتفي المحمول. تواصلت مع خدمة العملاء وسيحضر الفنّي للمنزل للتحقق من المشكلة خلال اليوم – بإذن الله – الوضع مجهد، فكرة تعلق كل شيء تعمل عليه بالانترنت مخيف أحيانًا والخروج من المنزل والذهاب لمكان العمل قبل الافطار فكرة شبه مستحيلة مع الأجواء الخارجية.

.

٣:٣٠م

عثرت على هذا الموقع الذي يجري حسابات بين تكاليف المعيشة في مدن العالم، ضع مدينتين وقارن بينها. لا أعلم كيف وصلت هنا لكني كنت أبحث عن شيء مختلف تمامًا.

يمكن أن يفيدكم.

.

٤:١٧م

اتصل بي موظف الاتصالات وابلغني بأنّ المشكلة في خط رئيسي بالحيّ وأن المتضررين عددهم ١٧. والخط في طريقه للاصلاح.

.

٤:٤٣م

أفكر في البطيخ البارد الأحمر الشهي.

وأطرد الفكرة سريعًا.

بقي حوالي ساعتين على موعد الإفطار.

.

٧:١٥م

.

أرسلت السائق لإبنة عمّي ليحضر صناديق إطعام الطيور والحبوب التي أوصيتها عليها. فكرة هذه الصناديق بدأت مع ملجأ الحيوانات بالرياض ويقومون بتوزيعها مجانًا لمن يريد وضعها في منزله أو مكان عمله، وملئها بالماء والطعام للطيور وإنقاذها من العطشاتبعوا الرابط في التغريدة للتواصل مع المركز.  ودائمًا: لا تحقرن من المعروف شيئا.

.

٨:٣٠م

.

العودة إلى العمل.

لاحظت على نفسي في اليوم الثاني من رمضان أنني استيقظ حول الظهيرة أو أبكر بقليل. بنشاطي المعتاد للعمل وتبدأ طاقتي بالانخفاض حول الساعة الخامسة تقريباأتوقف عن كلّ شيء، أغفو لساعة قبل الأذان ثمّ استعيد نشاطي تدريجيًا لأصل لذروة الانتباه والعمل بعد الساعة الثامنةما زلت أعمل على محتوى الموقع الممتع، تقدمت قليلا وعانيت من صياغة بعض الأفكار. لكنّ العمل إجمالا مبهج.

.

١٠:٤٥م

.

.

غيّرت مكان العمل من غرفتي للمكتب، وبدأت بمشاهدة وثائقي ممتع عن الزعفران الذهب الأحمر واذهلتني معلومة أن المغرب هي الدولة رقم ٢ عالميا في انتاجه وتصديرهيرتبط الزعفران في ذهني بإيران دائما، ولم أبحث عن جهة أخرى تهتم بزراعتهالوثائقي يناقش عمل الفلاحين، الصعوبات التي تواجههم، ومبادرات المستثمرين لدعمهم.

.

.

.

١٦ ألف صباح مستعاد.

 

JjdWbOCTlemWMuvC0BeF_DSC_0867edit (1)

.

.

.

تقول الاحصائيات إن متوسط العمر المأمول لسكان السعودية هو ٧٦ سنة تقريبًا – تجاهلوا الاحصائية المرعبة قليلا-.

وإذا كنت سأعدّ الصباحات المتبقية لي في الحياة بإذن الله ستكون: ١٦.٤٢٤ بدءا من الغدّ.

أحبّ الصباح كثيرًا واربط بين فوضى حياتي وانقطاعي عن الصباح والاستمتاع به، كيف استعدت صباحي إذا؟

خلال الربع الأخير من العام ٢٠١٥م تورّطت حرفيًا – بوظيفة لم أحبّها، وقضت بشكل كامل على صباحاتي. كنت أخرج من المنزل والشمس لم تشرق تماما، ويبدأ الركض في الحصص من ٧ ص حتى الـ٢ مساء. نسيت كثير من هواياتي اليومية بسبب انعدام الوقت. روتين الصباح ينحصر في محاولاتي الجادة للخروج من الغرفة للعالم الخارجي وبأقل ضرر ممكن.

عدت لممارسة العمل الذي أحبّ وعادت شهيتي للحياة والصباح. أصبح السؤال الذي يشغلني عندما استيقظ:

ماذا أفعل الآن؟

كيف أقضي ساعات النهار الأولى بحب وتركيز؟

وبدأت العمل بمبدأ جميل جدًا التركيز على إدارة الطاقة لا الوقت“. ما المقصود بذلك؟ لن أطيل عليكم التفاصيل فالموضوع ممتع ويمكنكم القراءة في مقالات ومواضيع مدونات عند البحث باستخدام Manage your energy not your time.

لدي حوالي ١٠ ساعات متاحة للعمل يوميًا، سواء من المنزل أو من المكتب، لكن هل ال١٠ ساعات كلها منتجة؟ لا للأسف. وجدت أنّ ساعات الصباح الأولى بلا طاقة عالية لكنّها الوقت الأنسب لمشاهدة التلفزيون، إعداد فطور شهيّ، والقراءة الكثير من القراءة. متى يبدأ نشاطي الفعلي؟ ١٢ مساء ولبقية اليوم حتى الساعة السابعة تقريبًا.

لذلك وبكلّ سعادة وجهت اهتمامي من جديد للصباح وتوقفت عن الشعور بالذنب وأجّلت كل الأعمال حتى الظهيرة – إلا ما كان مستعجلا منها– . طاقتي الموجهة للكتابة الابداعية بين الظهيرة والمساء واضحة ومسخرة بالكامل للعمل. وقبل أن تبدأ التساؤلات لديكم على شكل: لماذا تستيقظين باكرًا إذا؟ أو لماذا لا تحصلين على ساعات نوم أكثر لتكون طاقتك أفضل في الصباح؟

طاقتي لا تعاني من مشكلة فيما يخص الاستيقاظ بحماس، أو المشي أو ترتيب غرفتي وغير ذلك من النشاطات التي تتطلب طاقة جسدية قبل الذهنية. الموضوع مرتبط بالمزاج والاستعداد للعمل فقطاستعدت الصباح عندما بدأت الاستعداد لوقت العمل من المساء السابق، تجهيز رسائل البريد الالكتروني وحفظها في المسودات وارسالها في الوقت المناسب لساعات العمل.

من الأفكار الجيدة التي جربتها أيام التدريس والمدرسة: كيّ ملابسي وقمصاني لعدة أيام مستقبلية، تجهيز وجبات الغداء وغير ذلك من وسائل تبسيط الحياة. شيء آخر أصبح سهل بالنسبة لي مع ساعات عملي المرنة وهو انهاء المشاوير الخاصة أو التسوق خلال ساعات الصباح الأولى ومن ثمّ التوجه للعمل.  

.

مخرج:

بالعودة للاحصائية أعلاه والتفكير فيها، الصباحات القادمة من حياتنا تستحقّ الاهتمام والتقديس. حتى ولو أمكنكم القبض على ساعة واحدة بلا توتّر أو تفكير في الأعمال القادمة، والتحقق من الأجهزة والبريد الإلكتروني.

.

.

.

كيف أنقذت عائلتي الكوكب؟

By Amanda Blake
 Painting By Amanda Blake 

في ١٩٩٢ اقتنى والداي طاولة طعام وخزانة أواني من سوق للأثاث المستعمل – أو كما يحبّ والدي تسميته: روبابيكيانقلنا الطاولة والخزانة معنا من بيت لآخر. نقلناها للرياض وما زالت تلازمنا كفرد من أفراد العائلة. يحلو لي التفكير في الأشجار التي انقذناها بشراء الأثاث المستعمل، غرف النوم، خزائن الملابس، الطاولات!

تحبّ عائلتي إعادة التدوير، في كلّ شيء إذا أمكنني القول. نشتري سرير جديد لأخي وتتحول ملكيته بعد سنوات لأختي الصغرى، ثمّ لي، وهكذا. لا يوجد قانون يمنع إعادة التدوير أو يوقفها، تحتاج شيء؟ ابحث في غرف إخوتك أولاً، ثم اشتريه مضطراً إذا توقفت دورة حياة الأشياء. خاطت والدتي ملابسنا، وكلما ضاقت – أجد المصطلح مضحك فالملابس لا تضيق أنت تتمددمررناها لبعضنا، فستان يصبح تنورة ثم بلوزة ثم خرقة بالية لمسح أسطح المطبخ أو إذا كانت محظوظة ستصبح قفازات لعزل الحرارة.

صناديق الكرتون التي استخدمناها للانتقال بين ثمانية منازل حفــظت ألعابنا وملابسنا الشتوية وعندما تنتهي كلّ الألعاب نفردها ونتزلج بها على درجات سلم البيت. أعرف شعار إعادة التدوير قبل معرفتي بالمصطلح، كبُرت في مدينة شاهدت فيها الشعار على حاويات النفايات المدرسية، في الشوارع، وفي كلّ فرصة كانت تظهر لي الأسهم الخضراء الناعمة، تدور وتدور.  إعادة التدوير عند والدتي يعني أنّ طهي دجاجة مشوية للعشاء وبقاء نصفها ينتج سندويتشات شهية لغداء الغدّ. موضة الأزياء العتيقة Vintage كانت نظام حياتنا قبل أن تصبح نمط الحياة الفارهة اليوم! ساعات جدتي وخواتمها، قطع الاقمشة التي يحول عليها الحول ولا تخيطها كانت تجد طريقها لمنزلنا ومنازل خالاتي. كراسي الأطفال وكنزاتهم الصوفية، السيارات وأغطية رضاعاتنا التي أصبحت مكاييل للسكر والقهوة. علب الحلويات التي حفظت الأزرار المهاجرة وقصاصات شرائط الساتان.  سألت والدي عن مساهمته في الكوكب، وأجابني بأنه زرع الأشجار نهاية الخمسينات في سودة أبها، وساهم مع فتيان الكشّافة في بناء وزراعة حديقة في الطائف، لم ينتهي دوره هناك، والدي أكثر شخص عرفته يقتصد في الورق، يكتب على صفحات التقاويم ويملأ الورقة بوجهيها بأرقام الهواتف والملاحظات. لا يغيب عن ذهني أني لم أر في حياتي أحداً يحبّ الخضرة والأشجار مثل والدي، زرع شجرة ليمون وشجرة مانجو في منزلنا بالجبيل، كانت مثل طفله. أتذكر وأنا أدوّن حزنه عندما سقط الليمونة العتيقة بفعل عاصفة ذات نيسان. أحببنا الشجر حتى بدت الرياض قطعة اسمنتيه هائلة وأصبحت مثل قطتي التي تلقي بنفسها أمام أول شجرة تراهاإعادة التدوير كانت تعني تمرير الكتب التي لن أقرأها مجددًا، تعني إمداد الاصدقاء الفنانين بأكداس المجلات والصحف التي تحولت لتصاميم كولاج وديكوباج رائعةأذكر المرة الأولى التي تعلمت فيها درس المحافظة على الموارد والامتناع عن هدرها، كنت في بيت جدّي الذي مرّ بي وأنا أنظف أسناني وتركت مياه الحنفية تجري، اقفل الصنبور والتقت نظرتي بنظرته ومضى بصمت. عرفت منذ ذلك اليوم هيبة الموضوع ولم أعد لتركها مفتوحة أبداً.

لستُ أدري لمَ بدأت كتابة هذه التدوينة، لكنني أشعر بالهلع، هلع حقيقي مصدره قراءة احصائيات كثيرة عن البيئة وكوكبنا الأمّ وتزامن هذا كلّه مع حلول يوم الأرض فجلست للكتابة، لأذكر نفسي وأذكركم بالتغييرات البسيطة ذات الأثر العظيم.

.

.

.

.

وداع مؤقت للعمل المستقل

Screen Shot 2016-04-11 at 11.08.41 AM

انتهى مارس وكأنّني احتفلت برأس السنة مع وداعه.

لا أدقق كثيرًا في أثر الشهور عليّ، ولا أتحمس بشكل مختلف لأيّ شهر سوى شهر رمضان المبارك وشهر أكتوبر (شهر ميلادي)، لكن مارس الماضي كان شهرًا مختلفًا، الشهر الذي توقفت فيه عن الدوران والركض المحموم. عملت في ثلاث وظائف مختلفة، وعلى عشرات المشاريع دون أن أعلم. عند إجراء الجردة الشهرية وأنا أجيب على أسئلة وضعتها لنفسي كي أقيّمها وجدت أنني أنجزت الكثير. ذهلت في الحقيقة وتمتمت: ما شاء الله يا هيفافي نهاية الشهر أيضًا قررت التوقف عن التشتت الذي سببته لنفسي وتوقيع عقد وظيفة رسمية بدوام كامل بعد انقطاع طويل. أحبّ العمل المستقل، وأجد فيه قضيتي الأولى والأهم.  عملت بشكل مستقل منذ تخرجي من الجامعة في العام ٢٠٠٤، وتنقلت بين الوظائف لأجد المرونة التي أنشدها، درّست وكتبت وترجمت لأحافظ على استقلاليتي ولأنقذ روحي من مقابر الإبداع المسمّاة مكاتب“. عندما تبدأ عملك المستقلّ كلّ شيء يشبه الربيع، لا وقت محددّ للعمل، اجتماعات عن بُعد بمكالمات هاتفية أو عبر المحادثات النصية على الإنترنت. رسائل بريد إلكتروني سريعة، ومكتبك يمكن أن يكون سريرك ببساطة. ما لا يقوله لك المادحون لهذا النوع من العمل بالتحديد هو الدراما المصاحبة والفوضى التي ستقع فيها إذا لم تنتبه لنفسك.

بدأت بحماس وقسّمت الأسبوع بين أعمالي المختلفة، ووضعت الجمعة والسبت كمنطقة محظورة. لا عمل في نهاية الأسبوع، لأركز على الزيارات العائلية والقراءة وهواياتي الأخرى. مضى الشهر الأول بسلاسة وشعرت بأنّ المزيد من المشاريع ستكون فرصة جيدة للحصول على مبلغ إضافي من المال، والسفر والتسوق. قابلت العروض المختلفة بالموافقة ثم بدأت الخطوط بالتشابك. أنجز العمل خلال الوقت المحددّ بلا مشكلات، لكنني تدريجيًا أصبحت بلا حياة. مثل ماكينة لا تتوقف عن الدوران، أكتب، أترجم، أصمم، أحضر الاجتماعات وأوافق على المزيد من المهامّ بلا تفكير. نهاية أسبوع؟ لم يعد هناك حدّ فاصل، الحد الفاصل كان انهياري التامّ من النعاس أو المرض. تأثرت مناعتي وصحتي، آكل أي شيء يوضع أمامي، أرتدي ملابسي كيفما اتفقّ.

علمت بأنني وصلت الحضيض عندما ذهبت في عطلتي السنوية المنتظرة ولم أتوقف عن العمل هناك، سرقت الوقت بين ساعات الصحو والإغماء للمشي بلا هدف في المجمّعات التجارية وتناول الطعام حتى التخمة. عدت من رحلتي وقررت أن كلّ هذا سيتوقف، وسأقبل بأول عرض وظيفي جيّد وفق شروطي التي ستكون:

  • المرونة في الحضور صباحًا.

  • الاستسلام للمزاج أحيانًا.

  • تغطية تأمين صحّي.

  • راتب بسقف مرتفع.

لماذا الشروط التي قد تبدو للبعض في الوهلة الأولى طفولية؟ يعاني الموظف المستقلّ من غياب تفاصيل الأمان كالتأمين الصحي والدخل الثابت، ومع أنه محسود على مرونة ساعات العمل لكنه معرض لشهور من القحط وغياب المشاريع.

أنا الآن في مكان جيّد يسمح لي بالتحدث إلى زملاء مهنتي السابقة –(العمل المستقل) وأذكرّهم بما يجب عليهم تذكره.

١اصنعوا جدولاً للعمل، مثل جدول الحصص في المدرسة ولا تتركوا المشاريع تطغى على بعضها.

٢نهاية الأسبوع منطقتكم المقدسة والمحظورة؛ لا عمل خلال نهاية الأسبوع كي تتمكنون من تأمل نجاحاتكم والنوم وترتيب الأسبوع المقبل.

٣ابحثوا عن جهات تستفيد من مهاراتكم وخبراتكم واعقدوا معها شراكات طويلة، هذه الشراكات ستساهم في تأمين دخلكم الشهري في حال لم تجدوا عميلاً أو مشروعا مناسبًا.

٤التنويع في نظام التسعير الخاصّ بكم فكرة صائبة، ألف مرة؛ هناك عميل مستعد للدفع بكرم ولن يعترض على المصروفات والطلبات الإضافية، وهناك عميل تحبون العمل معه لكنه لا يدفع الكثير، نظام التسعير المتفاوت حماية لكم.

٥لا تنسوا كتابة العقود بينكم وبين العملاء، حددوا شروطكم ومُدد العمل وموعد التسليم.

٦إذا كان عملكم يختص بالكتابة والتحرير مثلاً، حددوا مع العميل عدد مرات إعادة الكتابة والإضافة والتعديل، وأي تعديل بعد هذا العدد يتطلب رسمًا جديدًا أو مبلغًا إضافيًا.

٧تعرفوا على الموظفين المستقلّين في مجالكم، احضروا اجتماعات، احتفلوا معهم بالنجاحات واستفيدوا من بعضكم في العمل على مشاريع ضخمة واقتسام العائدات.

٨المبالغ التي تستلمها بشكل متقطع قد تعني ميلك للصرف غير الواعي، خصصوا حسابًا بنكيًا لعائدات عملكم أو سجلوا مصروفاتكم بالضبط بواسطة تطبيقات الهاتف الخاصة أو حتى بالورقة والقلم.

٩في فترات ازدهار العمل وفروا مبالغ مالية تدعمكم عند الرغبة في الانعزال والحصول على إجازة ممتدة.

١٠العمل المستقل مغامرة جميلة ومرعبة في نفس الوقت، أوصيكم بها في حالة واحدة فقط: إذا كانت السوق تحتاج موهبتكم النادرة، أو أنّ مجال عملكم مزدهر بحيث يمكنكم العمل مع أكثر من جهة.

هل سأعود للعمل المستقل؟

ربّما بعد فترة من الاستقرار الوظيفي، قد أجرّب مجالاً جديدًا أو مشروعًا يتيح لي العمل عن بعد. لا تتركوا نصائحي أعلاه تثير فيكم الرّعب أو التردد تجاه خوض التجربة، وإذا كانت وظيفتكم الحالية جيدة ولا تتطلب الكثير من الجهد ابدؤوا بالعمل على هواياتكم وتحويلها لمصدر للدخل تدريجيًا.

.

.

.

.

نُشر في نون

التداوي بالتطريز

Painting by Amanda Blake
Painting by Amanda Blake

الموتى لا يستأذنونك للغياب. أدرك ذلك جيدًا اليوم.

في ديسمبر ١٩٩٨ رحل أخي محمد بعمر التاسعة، خرج للعب مساء مع عائلتي ولم يعد، أذكر أنني شاهدته للمرة الأخيرة وأنا نصف نائمة وهو يشير لواجب الرياضيات ومحور التناظر الذي رسمه باهتمام هل حللته بشكل جيّد يا هيفا؟“. لا أنكر أنني كرهت حصة الرياضيات لفترة ليست باليسيرة.

لكنّ الحديث اليوم ليس عنّي ولا عن أخي ومحور التناظر.

عندما رحل محمد انطفأت شعلة الفرح في منزلنا، خفتت أصواتنا بضعة ديسبيلات*. كلّ منا تأقلم مع الوضع تدريجيًا، شُغلت بالدراسة والصديقات، وأخي الأصغر شُغل بتركيب السيارات الصغيرة وتفكيكها.

أتذكر الآن بوضوح اللحظة التي عادت فيها والدتي للتطريز، زارت متجرها المفضل واشترت عدة أمتار من قماش الإيتاميل والخيوط الفرنسية الملونة. لم تكن هناك خطّة الآن أعرفلم يكن هناك مشروع معيّن أو منتج تودّ بيعه أو تسليمه لزبون. كان الهدف الرئيسي من رحلة التسوق والبدء: الاستشفاء.

رسمت والدتي حدائق سرّية، آبار، غرفًا ومكائن وقططًا وحيوانات أليفة. كانت زاوية غرفة العائلة بقعتها المقدسة، قصاصات الخيوط حولها وورقة التصميم متآكلة تنظر لها من حين لآخر. هذا الصبر والتنقل من سنتيمتر مربع لآخر. كانت تُشفى من فقد ابنها، بهدوء وعلى مهل. وكنّا بطريقتنا نعود للحياة ولا نلحظ ذلك.

اليوم تعرض والدتي القطع التي طرّزتها تلك السنوات على حائط محترفها، وتروي للزوار كيف تخطت حزنها وفوضى روحها غرزة بعد غرزة.

لقد كبُرت في كنف أسرة تقدر الفنّ والإبداع، لكنني لم أشعر بعظمة تأثيرهما على الفرد كما أشعر اليوم، في هذه اللحظة ووالدتي تتذكّر شفاءها. تتذكر أنها تبدع لتعيش.

يمكنني تلخيص الدروس التي استفدتها في عدة نقاط، سأبشّر بها أينما حللت وأذكّر كل من يمرّ بمطب حياتيّ بتجربتها أو التداوي بها.

ابحثوا عن حرفة يدوية أو موهبة إبداعية كامنة بداخلكم. شغفكم سيبقيكم مهتمين، وكلما تكررت ممارستكم لهذه الحرفة وثبت استمتاعكم سيستفيد العقل والروح معًا.

اصنعوا وقتكم اليومي الخاصّ. إن الإبداع والعمل الفنّي أصبح بمثابة العلاج أو الحاجة الصحيّة ويجب أن يكون له مكان. أذكر أنّ والدتي كانت تنهي أعمالها المنزلية، تتحقق من دروسنا، وتنزوي في مكانها لتبدأ التطريز بهدوء.

اصنعوا مساحة إبداع تلجؤون إليها لتصفية ذهنكم وروحكم. كان لدى والدتي غرفة مخصصة للخياطة والأشغال، صغيرة جدًا لا تتعدى مساحتها ستة أمتار مربعة، لكنّها كانت توازي العالم بأكمله. الاختلاء بنفسك للعمل والإبداع يعني التأمل والراحة، مثل علاج لا تتوقف عن تعاطيه فتنتكس.

تعلّموا أكثر.. ابحثوا عن دروس احترافية ومجموعات للحرف تتبادلون مع أفرادها القصص والتفاصيل الصغيرة والاختصارات. الحديث عن الفنّ والكتابة والموسيقى يصرف أذهانكم عن الحزن، عن الاشياء التي تهربون منها.

ركزوا على الطريق، لا نقطة الوصول. لم تكن والدتي تهتم لإنتاج القطعة المثالية، مع أنها كانت في منافسة دائمة مع نفسها. استمتعوا بالعمل على القطع ونفّسوا عن الطاقة السلبية التي تسكنكم بغض النظر عن النتيجة النهائية، والأهم من ذلك ابتعدوا كل البعد عن البحث عن المثالية واعطوا أنفسكم الحرية في المحاولة والخطأ.

كلّ مرّة يشكك أحد في قوة الإبداع وقدرته على العلاج والمداواة وتعليم الصّبر استحضر هذه الحكاية، وأذكر نفسي بها.

جرّبت قبل عدة سنوات خياطة لحاف من الصفر، واخترت أكثر التقنيات عشوائية كي أساعد نفسي ولا ألتزم بقوانين صارمة كي لا أملّ من أول محاولة. قصصت عدة أمتار من الاقمشة الملونة وجلست لتركيبها وترقيعها بماكينة الخياطة. صحيح أنني لم أنتهِ من العمل بسبب انتقالي لمدينة أخرى للدراسة، لكنّ عدة ساعات من التركيز والغرق مع الأقمشة صنعت الفرق، ما زلت أحتفظ بكيس ضخم فيه بقايا الأقمشة والخيوط كي أعود إليها عند الحاجة. لكنني أقول إن الكتابة تصنع ذات التأثير في نفسي، وقد يصنعه التلوين أو الرسم أو صنع المربى.

أنتم بحاجة للإبداع في أي صورة كان وفي أي وقت تجدونه.

ـــــــــــــــــــــــ

* ديسيبلات: جمع ديسيبيل، وهي وحدة قياس شدة الصوت.

إيتاميل: نوع قماش للتطريز يأتي مخرمًا بمسافات متساوية.

**نُشرت التدوينة في موقع نون

.

.

.

.