لا تقرأ هذا الكتاب

grossmannovel

المرّة الأولى التي عرفت فيها قوة الترجمة والنقل كانت منذ سنوات بعيدة. كان أقاربي الصغار يسألون عن معنى كلمة أو عبارة في مشهد فيلم بلا ترجمة، وكنتُ ارتجل إذا لم أجد المعنى أو أحرّفه قليلاً حسب ما تقتضيه الفئة العمرية. الترجمة تأخذ أشكالا كثيرة في حياتي ولا ترتبط بنقل كلمة من معنى إلى آخر. هناك الصور، والمشاعر، والحكايات والقدرة على نقلها وتحويلها وإشباعها بالتفاصيل المناسبة.

علمتني والدتي القراءة بعمر الثالثة، بذلت جهداً جيداً لكنّها نسيت العملية الدقيقة التي نجحت بها. الترجمة بدأت مع القراءة – على الأقل بالنسبة لي- كان الأطفال في الروضة يقرأون القصص المصورة ويتجاوزون النصّ المكتوب لأنه لا يُفهم ولا يعني لهم شيئاً. في وقت قراءة القصة تجلس المعلمة في زاوية المكان وتترك لي القصة بصورها وكلماتها، أقرأ بلا تردد، كان الأمر بمثابة معجزة وربّما لعنة! لأنني لم أتوقف من ذلك الوقت عن قراءة كل شيء الورق، الصور، اللوحات، الرموز، الوجوه والسماء.

مع تعلم القراءة بدأ تعلم لغة ثانية –الإنجليزية- كانت الفكرة الطريفة في تعلم هذه اللغة هي محاولة والديّ إيجاد مساحة للحديث بعيداً عن فهمنا. وكلما كبر أحدنا انظم للفريق وأجاد لغته بدوره. ومع مرور السنوات وتمرين لغتنا بمشاهدة برامج تلفزيون للأطفال والكبار وأفلام بلا ترجمة وقراءات أصبحت عضلة اللغة الإنجليزية متينة. أكثرنا حظاً أختي الصغرى التي جاءت في عصر الإنترنت وبيت تستخدم فيه اللغة بموازاة اللغة الأم ولا تنقص من قيمتها. أصبحنا بحاجة لمساحة سرية جديدة: الإسبانية ربما؟

سأسّرع الوقت حفاظاً على تسلسل أفكاري ولأنني أعرف أن الاستطراد جينة وراثية. بدأت التدوين في 2005م تقريباً، تنقلت بين عدة شركات استضافة ومدونات، كتبت بالتزامن مع مدونتي في منتديات الكترونية ومجلات وصحف محلية ودولية. لم يتساءل أحد عن المعلومات التي ابني عليها مقالة؟ من أين جاءت الأفكار الفريدة والجديدة وقصص لأراضٍ لم تطأ بعد؟ كنتُ أترجم الأشياء الرائعة التي أجدها وأعلم بأنّ الكثير لا يجيدون اللغة الإنجليزية فأنقلها لهم بطريقة مختصرة ومحببة. كلّ تدوينة كانت بمثابة بحث صغير وجمع للمصادر وتلخيص وترجمة. أكثر من 80% من محتوى تدويناتي هنا والمعلومات التي انشرها على حساباتي في الشبكات الاجتماعية: محتوى مترجم عن الإنجليزية. ومع أنني أشير إلى مصادري واعرض مواقع ومجلات ووثائقيات بلغتها الأصلية لمن يريد تجاوز حديثي والوصول للمصدر مباشرة إلا أن الكثير من المتابعين يجهل عملية الترجمة والنقل التي تحدث.

قبل شهر تقريباً صدرت رواية “كلّ شيء يمضي” للروسي فاسيلي غروسمان. ترجمتُ الرواية وصدرت عن دار أثر للنشر، كانت الفكرة مثل مغامرة مجنونة ترددت فيها كثيراً. لكنني كنت أقول لنفسي: أنتِ تترجمين بشكل يومي دون أن تشعري بذلك! حتى عندما أشاهد برنامج تلفزيوني واتصل بصديقة وأخبرها بتفاصيله، هذه التفاصيل ترجمة. استمرّت حالة الإقناع الداخلي بالإضافة للتشجيع الخارجي حتى قررت البدء بالعمل. لم أعرف فاسيلي غروسمان أبداً من قبل ولم يعبر اسمه ذاكرتي. لكن القراءة الأولية عنه وفي كتابه أثارت بي الحماسة. الرواية تستعرض الحياة السوفييتية تحت الحكم الشيوعي، شخصياتها قليلة مقارنة بروايات أخرى قرأتها. إيفان غريغوريفيتش معتقل لثلاثين عاماً يخرج ويعود لحياته. لم تكن العودة سهلة، وفيض الذكريات يزيدها صعوبة. الرواية تلقي الضوء على ستالين ولينين وعلى حصار ستالينغراد الشهير، تتحدث بتفصيل مرعب عن المجاعة الأوكرانية التي حصدت الملايين وشلّت غذاء أوروبا – كانت أوكرانيا آنذاك تلقّب بسلة خبز أوروبا- . لم تكن الترجمة سهلة، كانت الفكرة التي تحاصرني تقول: فكري في شخص لا يعرف الاتحاد السوفييتي، ولا الشيوعية، وليست لديه أي فكرة عن كثير من الأحداث التي نقلتها. وجدت في الهامش فكرة جيدة لكن حاولت كثيراً تجاوز الهوامش التي تشرح أكثر من اللازم، في ذهني دائما ماركيز وهو يتبرّم من المترجم الذي يعتقد بأنه يعرف كل شيء حتى أنه يفسر ما كتبه الروائي وكأنه له!

عزلت نفسي بعيدا عن أي عمل روائي آخر ما استطعت، وتابعت الأخبار المحلية الروسية، وبحثت عن قصاصات تاريخية تدخلني في حياة فاسيلي بشكل أفضل. ظننت أنني أعرف الكثير في التاريخ، لكن ما وجدته في صفحات الرواية والإشارات فيها اذهلني. استمعت للموسيقى الشعبية الأوكرانية –والروسية- في الخلفية، قد يبدو هذا التفصيل مبالغاً فيه لكنّني أحببته. استخدمت أقلام رصاص بلاكوينغ التي تحدثت عنها في تدوينة سابقة هنا، وكتبت الترجمة في دفتر مقسم بصفحات ملوّنة وكنت أقيس تقدمي في العمل بتغير لون الصفحات، فصل بعد آخر وأتوقف قليلا لطباعة ما كتبته. لماذا لم تكن الترجمة مباشرة على الكمبيوتر؟ لأنني لا أجيد البدء بالعمل الكترونيا ولأن الطباعة تتيح لي فرصة التعديل ووضع مفردة مناسبة مكان أخرى.

كانت والدتي تطلّ من حين لآخر وأنا منهمكة في العمل فأطرح عليها سؤالاً وتجيب بسرعة وتأكيد لتصبح المفردة التي بحثت عنها لساعات في يدي! أذكر أنني علقت بشكل مأساوي في تعريف لحذاء لتأتي وتقول “حذاء بعنق” ببساطة حذاء بعنق مناسبة جدا وكانت بالفعل الكلمة التي بحثت عنها وفشلت. أذكر أنّ قطتي لزمت المكان الذي عملت فيه ولم تتركه حتى ليلة الترجمة الأخيرة، مضت عدة أشهر مثل حلم وأنا أردد أسماء الشخصيات بيني وبين نفسي وأعرف بأنني لن أنساها. قد تكون هذه الرواية رواية عادية جداً، أو مذهلة. إنها مثل الروايات التي تجلس على الرفّ حتى تقرؤوا عنها في توصية صديق تثقون به. أو تمرّ في حديث أدبي على شاشة التلفزيون فتبحثون عنها في محرك البحث وتلتقطون أطرافها. لو لم أترجم “كل شيء يمضي” لما تعرفت أسرتي على أهوال مجاعة أوكرانيا، لقد شاهدوا ذلك في وجهي وأنا أكتب عن الجوع وطبقي ممتلئ. لما تعرفت صديقتي على فاسيلي غروسمان وبحثت عن كتبه الأخرى لتسبقني بالقراءة. ولما تباشر الجميع بالكتاب ووضعوه على رأس قوائم تسوقهم في معرض الكتاب.

ما يحزنني فعلاً، والآن سأخبركم بالهدف الذي كتبت بسببه هذه التدوينة: أن الكثير ممن ابتاعوا الكتاب أخبروني بطريقة أو بأخرى أنّ الهدف من شراءه ترجمتي له، واحتفوا به بشكل كبير أثار حسد مدونتي وكتاباتي السابقة وتغريداتي. كنت وسأبقى مترجمة بطريقة ما لكنني لا أحبّ ارتباط تجربتي بكتاب. فالاحتفاء والحرص الذي وجده الكتاب مرعب، خصوصاً عندما يقتنيه البعض بعيداً عن محتواه، عن القصة التي يرويها. قد تصدمكم الأحداث وقد تكون الرواية ثقيلة على قلوبكم، أو مملة فتتركوها. أنا لا أحبّ اقتناء الكتب قبل معرفة محتواها ولو بشكل مختصر. لذلك، أرجو أن تقرؤوا عن فاسيلي غروسمان، وعن التاريخ الذي عاشه. شاهدوا وثائقياً عن ذلك، أو برنامج اخباري. إذا وجدتم في أنفسكم الاستعداد والاهتمام لقراءة “كل شيء يمضي” افعلوها بلا ترددّ.

حتى ذلك الحين نصيحتي لكم ستبقى: لا تقرأ هذا الكتاب، حتى تعرف ما بداخله!

22 تعليقا على “لا تقرأ هذا الكتاب”

  1. مشاركتك لهذه التجارب مهما اختلفت ..،
    هي متعة بحد ذاتها و عطاء جميل .. نبجث عن ترجمتك و الكتاب ..
    لكن لا نستغني عن العطاءات و المشاركة الغنية ..

    شكراً ^،^

  2. إستمتعت بحديثك عن تفاصيل تجربتك في الترجمة .. لم تتح لي حتى الآن فرصة إقتناء الكتاب .. و لم أكن ﻷقتنيه أبدا لمجرد إنك المترجمة على سبيل المجاملة والتشجيع ..لكن ﻷنني أحب اﻷدب الروسي و ﻷنني أثق بذوقك و ﻷنني متابعة لك منذ أيام منتدى اﻹقلاع و أعتبرك صديقة بشكل ما حتى وإن لم تكوني تعرفيني …لكنني تخيلت مدى حميمة أن أقرأ محاولة الترجمة اﻷولى لصديقة مقاربة لي في السن و أتخيل كم من الجهد و الحب بين سطور تلك الترجمة .
    أنا واثفة أنها ستكون تجربة رائعة .

  3. هل اقنتيت الكتاب لأجل ترجمتك؟
    نعم
    هل الأدب الروسي غريب لدي؟
    لا

    ففي عمر ١٣ سنة بدأت رحلتي مع الأدب الروسي مع الحرب و السلام لتولستوي في أيام صيف لا تعرف القراءة بها حد، و الاخوة كرامازوف و الجريمة و العقاب و آنا كارينا و غيرهم لدرجة الغرقان بأجواء الثلوج و المآسي و الحروب و ما أن انهيت المرحلة المتوسطة قررت التوقف عن قراءة الآدب الروسي حتى الآن.
    هل تشبعت منه؟
    لا
    لم توقفت عن قراءته؟
    ترك بداخلي ظلمة لم اعتد تواجدها.
    هل سأعود لقراءته؟
    بالتأكيد، و لكن ليس في الفترة الحالية. و عندما سأعود ستكون بداية العودة بقراءة ” كل شيء يمضي”.

    و على الهامش سعيدة جدًا بتجربتك ()

  4. صديقتي الافتراضية المقربة، هيفا

    لم اقتنِ الكتاب حتى الآن، لكنني سأبتاعه لأنك انتي المترجمة، لان ذائقتك الأدبية التي عودتنا عليها آسرة، فلا تلومينا عند انهمارنا بشوق على دار أثر لسؤال عن كتابك، ولا أخفيك سراً بأنني عندما ذهبت إلى هناك وقابلت الأخ مهدي نسيت عنوان الكتاب، وسألته: وين كتاب هيفا؟

    السبب الذي حمسني للحصول على كتابك- افتراضا انني اشتريته- هو انني مترجمة حرة وأملك مكتبي الخاص بالترجمة وانا الان ادرس ماجستير ترجمة لحبي لهذا العلم وحبي للغتين الانجليزية والعربية.

    وعندي فضول على ان اطلع على أسلوبك في الترجمة وخصوصا بأنك لم تدرسي هذا العلم بل انه جاء كهواية، وكم من كتاب كان عادي بلغته الأصلية وأصبح ذائع الصيت باللغة المترجمة والشكر للمترجم.

    نعرف يا هيفا ان محتوى مدونتك مترجم، ونعرف بعد نقرأ إنجليزي بس الأشياء اللي تقدمينها من منظورك، وهذا اللي نبغاه وهذا اللي نحرص عليه 🙂

    دمتي بود

    مها البشر

  5. هذه التدوينة ياما انتظرتها ..
    الجانب الشخصي .. العائلة الجميلة الملهمة .. الطفولة وبدايات التجارب ..
    اقتنيت روايتك في اول وصول لها ليس لأنها من ترجمتك فقط بل لأنني عشقت كتاباتك في المدونه ومؤمنة جدا بجمالها قبل قراءاتها ..
    هيفاء التي تلهمني للبحث عن مواضيع واشخاص وفنون كنت لم التفت اليها يوما وكثيرا مااجهلها لكن اناقة كلماتها تغري للبحث عن الجمال وتأمله طويلا ..
    نحب هيفاء ونطالبها بلقاء طويل في زيارتها للمدينة الاسمنتيه مره اخرى ❤️

    1. أهلا أمجاد،

      التدوينة كانت في المسودات لوقت طويل، من انتهاء الترجمة تقريباً.
      لكنّي اضفت عليها المزيد من المشاعر والأفكار بعد رؤية الاهتمام بالكتاب والحرص عليه : )
      أتمنى زيارة أخرى قريبة،
      شكرا لك

  6. بما أنك دخلت عالم الترجمة؛ أقترح عليك أن لا تترجمي نصا إلا عن لغته الأصلية، ذلك أن ترجمة نص عن غير لغته ليست في الواقع ترجمة للنص وإنما هي ترجمة لترجمة أخرى قد تكون موفقة وقد لا تكون،
    إنها عملية أشبه ما تكون بتأسيس بناية على سطح بناية أخرى، ومهما يكن من أمر فلا بد أن شيئا من إحساس الكاتب وشيئا من أجوائه وربما شيئا من فكرته أيضا قد فقد خلال هذه العملية أو أصابه نوع من التحوير،
    أمامي على الرف وأنا أكتب هذا التعليق كتاب التاو أو الطريق المستقيم للفيلسوف الصيني لاو تسيه وهو مترجم عن الإنكليزية، الكتاب ممتع والترجمة عن الإنكليزية لا غبار عليها في ما يبدو لكني أتساءل كباحث وكقارئ أيضا: كم بين هذا النص الموجود أمامي وبين النص في لغته الأصلية من فرق؟ وإلى أي مدى يمكنني الوثوق بهذه الترجمة للترجمة كأحد مصادر الفكر الصيني؟
    هو كما قدّمت مجرد اقتراح أحببت مشاركتك إياه وبالتأكيد لا صلة له بالكتاب الذي أبارك لك صدوره، وأتمنى لك التوفيق والمزيد من العطاء والتألق، ودمت هيفاء القلم.

    1. أهلا علي،

      وهذا هو رأيي كذلك.
      أحبّ صالح علماني مثلا لانه ترجم من الاسبانية مباشرة. وتمنيت لو أنّ لي لغة سامي الدروبي لاترجم لفاسيلي بلغته الاصلية. الالتصاق المباشر والمعرفة الدقيقة هذه رائعة.
      أفكر في ترجماتي المستقبلية إن وجدت، وأفكر في كتب انجليزية فقط.
      شكرا لك

  7. القراءة عن الجوع مؤلم جدا بحق ولم اقرأ كتابا وصِف فيه الجوع مثل كتاب الاستاذ عزيز ضياء ” حياتي مع الجوع والحب والحرب ” سيرة كتبت بلغة جميلة ووصف مؤلم للجوع وحقبة تاريخية نجهل عنها الكثير إذا لم تقرئيه أنصحك بشدة لقراءته . وشكرا ع التدوينة .

  8. تجربة جميلة وممتعة جدا
    أكثر ما لفتني هو الجو الذي أحطتي نفسكِ به أثناء الترجمة، حرصك على نقلها بأفضل صورة
    هذا بحد ذاته مشجع على اقتناء الكتاب
    ❤️

  9. قبل المعرض لمست إقبال الجمهور على ترجمتك قبل القراءة لمؤلف يحمل اسمك، وهذا ما جعلني أؤجل شراءه ربما.
    حين أعكف على زيارة مدونتك وترجماتك كنت أقف مشدوها أمام أسلوبك في التدوين في إثرائك لي في أسلوب التفكير وفي اغتنام اللحظة والتكيف مع القراءة والإبداع.
    أشكرك كثيرا، بقدر الحروف التي كتبتها هنا، وبقدر الحروف التي قرأتها لك، شكرا لك.
    وسأبقى وفيا لهذه المدونة ما حييت بإذن الله.
    ولعلي أظفر بقراءة “ترجمتكِ” قريبا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.