تولستوي باكياً.

.
.

“…لقد عبّر تولستوي عن رغبته في لقائي. إنّه شديد الاهتمام بالموسيقى. وبالطبع قمت بمحاولة ضعيفة لإخفاء نفسي لكن من دون نجاح. جاء إلى معهد الموسيقى وأخبر روبنشتاين بأنه لن يغادر إلا إذا هبطت للقائه. إن موهبة تولستوي الهائلة موهبة أجد نفسي في انسجام تام معها. إن معظم القوم سيعتبرون مقابلته إطراءً وتناغماً، ولم يكن ثمة طريقة لتفاديها. وحين قدم أحدنا إلى الآخر شعرت، بالطبع، بأنني موضع إطراء وسرور، لذا قلت إنني مبتهج، وإنني شاكر، في الحقيقة، كل الهراء المحتوم وليس فيه ما هو حقيقي. أريد أن أعرفك بشكل أفضل –قال لي-: أريد أن أتحدث معك عن الموسيقى. واستنادا له، فإن بيتهوفن يفتقر إلى الموهبة. وكانت تلك هي نقطة انطلاقه. هكذا بدأ، هذا الكاتب العظيم، هذا الدارس الألمعي للطبيعة البشرية، بنبرة قناعة قصوى، بأن تفوه بملاحظة كانت بلهاء وعدائية لكل موسيقي. ما الذي يفعله المرء في ظروف كهذه؟ يحاجج؟ طيب، لقد بدأت المحاججة فعلا، لكن أيمكن للمرء أن يواصلها جديا؟ ففي نهاية الأمر، كان الشيء الملائم الواجب عمله هو أن ألقي عليه محاضرة. لربما فعل هذا بالضبط شخص آخر. لكنني كتمت عذابي وواصلت التمثيل، أعني تظاهرت بأنني مجامل جدا وودّي. لقد زارني عدة مرات منذ ذلك الحين. ورغم أن معرفتي لتولستوي أقنعتني بأنه متناقض ظاهرياً، لكنه رجل طيب ومستقيم، بل إنه بطريقته الخاصة، حساس للموسيقى، مع ذلك فإن معرفتي به، كما هي مع أي شخص آخر، لم تجلب لي شيئاً سوى القلق والعذاب.

حين التقيت تولستوي تملكني الرعب والإحساس بالخرق. بدا لي أن أعظم دارسي الطبيعة هذا سيخترقني، بنظرة مفردة، إلى المواطن الأعمق في روحي. إنني لم أستطع، كما ظننت، النجاح في أن أخفي عنه كل الهراء الذي يقع في قعر روحي وأن لا أريه سوى الجانب المشرق من الأشياء. إذا كان عطوفاً كما فكرت، كما ينبغي له أن يكون وبالطبع كما هو عليه، كطبيب يفحص جرحاً ويعرف كل المناطق المؤلمة، فإنه سيتجنب برقة ورهافة لمسها وإشارتها، لكنه بتلك الحقيقة –بالذات- سيجعلني أعرف أنه من غير الممكن إخفاء شيء عنه، وإن لم يكن ودياً على الأخص فإنه سيطعن بإصبعه مصدر الألم تماماً. كنت خائفاً إلى حد مروع من كلا الاحتمالين. لكن لا الأول ولا الثاني حدث فعلاً.

في أعماله يظهر هذا الدارس الأكثر تعمقاً في الطبيعة البشرية، في تعاملاته الاعتيادية مع الناس بصفته رجل البساطة، والتماسك والإخلاص، لا يكشف إلا عن القليل حقاً من تلك القدرة الكلية التي كنت أخشاها كثيراً. إنه لم يتجنب اللمس لكنه لم يسبب الألم المقصود. كان من الواضح أنه لا يعتبرني موضوعاً لأبحاثه بل أراد ببساطة أن يتحدث عن الموسيقى، التي كانت تهمه في ذلك الوقت. لكنني ربما لم أكن في حياتي قط موضع إطراء وتأثر في غروري كمؤلف موسيقي كما حدث حين وجدت تولستوي وهو يجلس بالقرب مني ويصغي إلى الحركة المعتدلة البطء في رباعيتي الأولى، يتفجر باكياً.

في الشتاء كان لدي العديد من الأحاديث المثيرة مع الكاتب الكونت تولستوي، لقد كشفت لي الكثير وأوضحت الكثير. لقد أقنعني بأن الفنان الذي يعمل ليس باستجابة إلى دافع داخلي بل بحساب حريص للتأثير الذي سيحققه، الذي يقسو على موهبته بهدف الإرضاء، والذي يجبر نفسه على إشباع الجمهور، أن رجلا كهذا ليس بفنان حقيقي، وأن أعماله لن تدوم وأنّ نجاحه وقتي. لقد تحولت بالكامل إلى حقيقة هذا الرأي…”

– من كتاب سيرة تشايكوفسكي الذاتية لـ ألكسندرا أورلوفا.

تعليق واحد على “تولستوي باكياً.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.