رسائل من مكاني الجيّد

خلال العقود الثلاثة الماضية، جرّبت مع نفسي الكثير من التقنيات التي ساعدتني على تجاوز المصاعب بكلّ أشكالها ومسبباتها. ولم أجد أفضل وأنسب لي من التخيل Visualization. لقد كان التخيل مرساة أيامي الصعبة، والطريق الذي أسلكه بهدوء لانتشال نفسي من أي عنق زجاجة أو منعطف خطر. كان وما زال أشبه برسائل من مكاني الجيّد الذي ينتظرني بعد عبور العاصفة.

بدأت القصة من عمر مبكر، لم أكن أفهم تسمية هذه التقنية وأنها تستخدم فعليًا للتشافي الروحي والجسدي. كنت أقضي ليالي الأرق الطويلة في تخيل حياة المدرسة المتوسطة، والثانوية، والجامعية لاحقًا. كيف سيبدو الطريق عندما أتخرج؟ هل سيكون لي عمل؟ هل سأرى العالم يومًا ما؟ هل سأزور المدن التي قرأت عنها وتتبعت أثرها على الأطلس؟ كان أيامي ثقيلة جدًا ولا يخفف ثقلها إلا تمددي على الفراش نهاية اليوم ورسم الحياة وتلوينها كما أشاء. لم أكن أعرف التخيل الإيجابي، أو إعادة تصور الحياة وغيرها من المصطلحات. كنت أعرف أنّ هذه اللعبة تضعني في مزاج أفضل لمواجهة الحياة. وتدفعني للابتسام والضحك والاستمتاع بحياتي برغم كلّ شيء. كان يدفعني إيمان عميق نضج مع السنوات بأن الله قادر على تحقيق كل هذه التصورات والخيالات ولم أشكك بذلك لحظة واحدة. عندما كنت أحاول وصف ما أفعله لا أجد له تشبيه أفضل من: إني أشاهد فيلم حياتي! واستغرق بالتفكير وبناء التفاصيل حتى اهدأ تمامًا ويصبح كل ما يزعجني أشبه بذكرى بعيدة. استيقظ في اليوم التالي وانطلق من جديد، لكنني الآن أخفّ وأقوى وانظر للصعوبات بعين الحبّ والاهتمام والتقبل. إنها منطقة عبور بالتأكيد! ثمّ بدأت القراءة في كتب العلاج الذاتي والتشافي من تراكمات الحياة، وغيرها من كتب التطوير التي لا تبيعك وهمًا إنما تعطيك خطة ومهارات تتبعها فتجد في نفسك التغيير الذي ترغب.

عرفت أنّ لعبتي تلك أنقذتني، وما زالت تنقذني!

كتابة هذه التدوينة يتزامن مع مروري الشخصي بعنق زجاجة جديد، لا أفهم تفاصيله ولا أقاوم الغرق في فوضاه -أحيانا. لكنّه فرصة لاختبار قوة لعبة التخيل الإيجابي والتركيز عليها ودعمها بالكتابة اليومية، والبحث، والبناء. في هذا المكان أعرف بأنني اتحمل المسؤولية الكاملة تجاه نفسي وشفائها. وكلما ركزت طاقتي على تفكيك الجو السيء وتوجهت لتصور إيجابي حوله أصبحت دوافعي ورغباتي وتصميمي على اجتياز هذا الوقت أعلى. التخيل الإيجابي يساعدك في اكتشاف جوانب مختلفة من المواقف التي تمرّ بها. وسيأتي الوقت الذي تضع يدك فيه على أساس المشكلة. أو المواقف والتصرفات التي تشعرك بالضيق. كيف؟ بتخيل مسار آخر للموقف، وتحويل الأذى إلى السلام والهدوء. كيف سيكون اليوم أفضل؟ كيف أكون شخص أفضل؟ التخيل الإيجابي سيخلصك من ملل الأمسيات والارتباطات الاجتماعية إذا فكرت في سيناريو مختلف لها. سيخلصك من ثقل مهامّ العمل البسيطة التي تتكاسل عن إتمامها لتكتشف أنّ الأمر لا يستغرق أكثر من ربع ساعة! وإذا لم يكن التخيل لعبتك المفضلة ستحتاج للكثير من التدريب. سيكون الأمر أشبه بتمرين العضلات مرة بعد أخرى حتى تصبح حركتك أكثر سلاسة. ستكون الصورة واضحة كما لو كنت تضبط تركيز عدسة الكاميرا. والأهم من هذا كلّه ألا تشعر بالخجل، أو التردد، أو اليأس.  الموضوع كلّه قائم على الخيال، ولا أحد يشاهد فيلمك سواك.

السفر مع خيالي ساعدني في تبديد وقت التوتر والقلق، أصبحت أفضل الانشغال مع فكرة جيدة أكثر من قلقي من الأشياء التي لم تحدث. وإذا خيّرت نفسي بين التفكير بمستقبل مجهول سيء وآخر مشرق أعرف دائمًا أين سأذهب. لقد أصبحت أكثر ثقة بنفسي، وأكثر رفقًا وتفهمًا عندما رأيت التصور الأفضل عنها. إنها تستطيع، إنها قوية، إنها ذكية وقادرة. وهذا الصوت يرتفع ليخفت أي صوت آخر يعمل على التحطيم ووضح العقبات وكلها بداخلي للأسف.

هذه التدوينة هي دعوة مفتوحة للجميع ببدء التخيل، بتجربته على الأقل، ولا تستعجلوا النتائج : )

Photo by Oscar Helgstrand

.

.

10 تعليقات على “رسائل من مكاني الجيّد”

  1. تدوينة رائعة هيفاء🌱
    الخيال باعث من بواعث الأمل
    و أداة مهمة لتحقيق الأحلام و تجاوز عثرات الحاضر …

  2. دائما الخيال هو المكان الذي نشعر بكامل التحكم فيه
    نحن نتخذ القرار بماذا نتخيل،احب اعيش بعض الوقت في خيالي فهو المكان الذي اشعر بالايجابيه والراحه فيه والانفصال عن العالم لوقت والانشغال بالخيال،من الامور التي تدفعني للعمل و الانجاز اكثر لان كل الاشياء التي اتخيلها فهي لها علاقه بالنجاح و الطموح

  3. ما اجمل الخيال في غرفة مظلمة وعيونن مغلقة ، ذلك الخيال الذي قد تتداخل معه احلام اليقظة ونكاد لا نشعر بالوقت الى ان يستسلم جزءٌ من عقلنا ليمنح جسمنا الراحة والنوم ، ولكن الجزء الاخر من العقل يمسك خيالتنا وياخذنا برحله لنعيشها في عالم الاحلام ، قد لا تكون دائماً احلامًا رائعه ، مثل المره التي كنت فيها افكر في تلك الحلقة من وثائقي تكلم فيه عن الحيتان المحدبه ، قبل ان أستسلم لنوم واتفاجأ باني وسط بحر محاصر بتلك الحيتان العملاقة. اصبحنا نعيش في زمنن قد ينقضي فيه يومنا بدون ان نجلس فيه اي لحظة مع افكارنا وخيالاتنا. شاهدت فيديو في تيد يتكلم عن موضوع يشدني من فترة سابقة ألا وهو الملل. هذا الإحساس كان مصاحب لمبدعين ومنتجين كثير في حياتهم العملية، ويستخدموا هذه المشاعر، الملل، كحافز لهم للعمل والإنتاج والإبداع. لأن من أساسيات وأهم أهداف العقل البشري نقلك من مشاعر إيجابية لمشاعر سلبية.. التخلص من هذه المشاعر emotional distress هي أحد أهم الوسائل المستخدم من العقل لتحقيق الأهداف بكافة أنواعها. وهذه احد مشاكل مواقع التواصل وباقي التطبيقات انهم تساعدنا على تجاوز الملل وهذه المشاعر ولكن بشكل سلبي.. نهاية اليوم نكون قرأنا أخبار العالم كامل، وشاهدنا مجموعة مقاطع كوميدية تساوي المقاطع اللي ربما كنا نشاهدها في اسبوع قبل عشرة سنوات، ولكن لم نحصل على هدوء وتركيز في عمل شيء ذو قيمة. قد اكون ابتعدت بردي عن موضوع المدونة الاساسي لذا ساتوقف هنا.

    فيديو تيد:
    https://www.ted.com/talks/manoush_zomorodi_how_boredom_can_lead_to_your_most_brilliant_ideas/transcript?utm_campaign=tedspread–b&utm_medium=referral&utm_source=tedcomshare

  4. كنت ولازلت عندما اضع راسي على المخده او بداية استيقاظي من النوم اترك واقعي واتخيل، وكانت هذه الفكرة مخيفة جداً؛ لماذا اترك واقعي وأذهب مباشره للخيال هل واقعي سيء ام ماذا؟؟

  5. لا اعلم اين سمعتها، لكن هناك رسائل في المجتمع دائما تقول ان “اطلع من راسك و خيالاتك و قوقعتك” او الجمله القاتله الاشهر “خلك واقعي!”. لذلك اعتقدت في بداية شبابي ان الخيالات هي شي سيئ جدا! بعد قرائتي و اكتشافي لكتب تطوير الذات و الاشخاص الناجحين، كلهم يكادوا يشتركوا ان بدايتهم (و استمراريتهم) كانت نظره و خيالات داخل رؤوسهم، يعيدون و يكررون تلك الصوره الايجابيه عن هدف معين و كأنهم عاشوه. قانون الجذب قد يكون مثير للجدل و لا اؤمن به بشكل الخرافي، لكن اؤمن به بهذا الشكل تماما: ما تتصوره و تراه داخل رأسك يوميا، يخلق لك طريق بدون وعي منك اتجاهه!

  6. شكرا هيفاء على هذه التدوينة الرائعة
    منذ كنت صغيرة و أنا أعتمد على الخيال و توقفت ربما لفترات لأنها سبب لي الأذى و خيبات أمر لفترة ما و لكني أجد نفسي أني عدت من جديد للاإعتماد على الخيال و الإستمتاع به و لكن بطريقة أكثر صحية حتى لا أتعرض لخيبات أمل من الواقع

  7. هناك كتاب جميل يتحدث عن أهمية هذا الخيال في تحسين جودة الحياة بعنوان الذكاء المرح القدرة على الحياة بمرح في عالم جاد لأنتوني دي بيندت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.