نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الخامسة)

bhny

سكن جدّي لفترة من حياته في بناية مكونة من شقق. خلف تلك البناية كانت مساحة من المبنى حولها لمتاجر صغيرة وتمّ تأجيرها. أحد المتاجر أصبح قرطاسية وصاحبها والدي. كانت الرحلة اليومية لشراء شيء -أي شيء- من القرطاسية متعتي في العطل. وعندما انتهت كل أدوات القرطاسية الممكنة اقتنيت لعبة كاميرا ترش الماء من عدستها. قرب القرطاسية من البيت وتشاركها مع جدرانه كان خطرا على محفظتي الصغيرة.

في رحلتي الأخيرة لنيويورك تكررت الحكاية مع مكتبة 192 المذهلة! بيني وبينها ناصية واحدة، بضعة خطوات من الفندق إليها، وبطاقتي الائتمانية التي توقفت عن العمل في عدة متاجر لم تفعل ذلك هناك.

في المرة الأولى ذهبت لاستكشاف المكان. وما أحببته في المكتبة هو رفوفها المرتبّة أبجدياً، روايات وسير، وكتب فنية وكتب تصوير وقسمين أحدها للأطفال والآخر للناشئة. من كل كتاب نسخة واحدة -أو اثنتين على الأكثر- لكن في المكتبة مخزن خاصّ بالكتب. اذا انتهت النسخ على الرفّ تستبدل بجديدة، وهكذا تحتفظ المكتبة بترتيب حميم بأقل نسبة من الفوضى.

photo 4
192 books in Chelsea.

في زيارتي الأولى حملت عدة كتب وسألت عن كتاب “پاريس نيويورك” لصور فريد ستين وللأسف لم يكن متوفراً. أثرت حماسة البائع عندما أخبرته بأنني سأحضر اطلاق الكتاب خلال أيام وأردت الحصول عليه للاستعداد للتوقيع. طلبه من أمازون لكن المدة قصيرة جداً للانتظار.

واكتشفت بعد زيارة عدة مكتبات حول المدينة أن الكتاب لم يتوفر في أيّ منها، وكانت أول مرة شاهدته فيها يوم إطلاقه، ربّما أرادت المكتبة المستضيفة للمناسبة احتكاره لديها حتى انتهاء الحفل.

استمرت زياراتي للمكتبة الصغيرة قرب فندقي، مرة واثنتين، ومرة ثالثة مع أخواتي، ورابعة قبل عودتي للسعودية. وفي كل منها اكتشف كنزاً جديداً. اشتريت حكايات غريم لحصة أختي الصغرى، ورواية جديدة للفتيات ومجموعة قصص خيالية قصيرة. تحبّ قراءة روايات الخيال والرعب أكثر من الروايات الواقعية ولا أحاول تحديد مسار قراءتها ما دامت الكتب مناسبة لفئتها العمرية.

تغيرت طريقتي في شراء الكتب، وكلما قلت ذلك لأحد المقربين أجاب: لأنك وصلت لمرحلة اكتفاء ربما؟ ولكنني لا اكتفي، وهذا الولع والاهتمام يكلّفني كثيراً على ما يبدو.

المكتبة الثانية مكتبة پوسمان اكتشفتها في سوق تشيلسي، سوق ضخم بمتاجر الأغذية واللحوم، بعض المقاهي والمطاعم، ومحلات للانتيك والمجوهرات والملابس. مكان مثالي لقضاء نهار أو نهارات، وحتى في المساءات الممطرة وجدت نفسي أتجول بداخله. لديهم في هذه المكتبة تشكيلة أسميتها تشكيلة مناسبة للسياح، كتب جديدة أكثر مبيعاً، كتب قديمة، تذكارات نيويوركية ودفاتر ملونة وورق تغليف هدايا، صحيح مساحة المكتبة أكبر من تلك القريبة من الفندق لكنّ العناوين المثيرة للاهتمام قليلة جداً. أخذت منها كتاب پروست عن أيام القراءة، كتاب مقالات صغير ومميز. وأخذت مذكرة للعام ٢٠١٥م بلوحات فنية تصوّر نساء قارئات.

الشيء المهمّ الذي يلفت الانتباه في مكتبات نيويورك وربما في أغلب دول العالم: ثبات الأسعار. تذهب لأكثر من مكتبة وتجد الكتاب نفسه بنفس السعر المطبوع على الغلاف. لا زيادة وأحيانا نقصان في بعض المكتبات التي تعدّ عروضاً أسبوعية أو شهرية على ثيمة معينة.

photo 1
Strand Bookstore
Strand Bookstore
Strand Bookstore

في ليلة أخرى ذهبت لسهرة مع نفسي بين رفوف مكتبة ستراند -١٨ ميلاً من الكتب- . قلت بأنني في كل مرة أزورها أصاب بحالة هلع. كل هذه الكتب سأبحث بينها؟ سأشتري؟ أريدها كلها! بعد دراستي السابقة للممرات قررت الذهاب فوراً للدور الأرضي الموازي لخط سير المترو، هناك تباع الكتب المخفضة والمستعملة. وجدت كنوز في المرة الماضية وبحثت عن المزيد في هذه المرة، أخذت كتباً عن الكتابة الإبداعية، وفنّ كتابة المذكرات والسير الذاتية. أنا أكتب حالياً من الذاكرة لأنّ ما نسبته ٨٠٪ من الكتب التي اقتنيتها تنتظر خلف المحيط موعد شحنها للسعودية. لم يكن الوزن العائق الوحيد بيني وبين شراء المزيد. هناك انتباه من نوع خاص: هل سأقرأ هذا الكتاب الآن؟ بعد شهر؟ ثلاثة؟ وكلما زادت المدة التي أخمّنها كلما زادت المسافة بين يدي وبين الكتاب ومضيت مبتعدة بأسرع وقت قبل أن اضعف مجدداً.

من جديد لم يكن كتاب “باريس نيويورك” متوفراً على الرغم من سعة قسم كتب الصور والتصوير ورفوفه المهيبة.

Processed with VSCOcam with a3 preset

ثمّ جاء أحد أيامي المفضلة خلال السنة: زيارة جديدة لمكتبة مايكل السرية. هذه المرة لم اقتني الكثير من الكتب. كتابان في الفنّ أحدهما عن إدغار ديغا، والآخر عن روح الفنّ. الكتب مستعملة بطبعة قديمة نسبياً ولها رائحة عجائبية. أمضيت بقية الزيارة في تأمل الرفوف بلا هدف، والتحدث لساعات مع مايكل وضيوفه. حدثنا مايكل عن رأيه في تجمعات الـ AA المخصصة لمدمني الكحول المتعافين وما يحدث فيها من دراما وكثير من السخرية. يقول بعبارات بسيطة بأن مدمن الكحول يجد في زيارة هذه الاجتماعات إدمانا جديداً يشغله عن الأول. تفاصيل كثيرة قادته للحديث عن تجربته الشخصية وكيف قررّ الشفاء ذاتياً من مشكلته مع الكحول دون الحاجة لزيارة هذه الاجتماعات.

تحدث مع ضيوفه عن عالم جميل وددت لو انتقلت من أجله لنيويورك وبقيت هناك! اجتماعات قراءة شعر، توقيع كتاب صديق، وتعارف شباب الكتّاب في فصول دراسية للكتابة الإبداعية. كلّ هذا سيحدث خلال سبتمبر وفي الشهر الذي يليه وتستمر حياة الكتب في مدينة تحبّ الكتب كنيويورك.

تحدثنا عن الكاتب جوناثان ليثم الذي زرت توقيع كتابه العام الماضي ضمن مهرجان النيويوركر، وهو صديق قديم ومساعد لمايكل، كان يبيع الكتب في صغره في مكتبته ببروكلين قبل تحولها لمكانها السرّي. لجوناثان كتاب جميل لم انته منه بعد “The Ecstasy of Influence: Nonfictions, Etc.” مجموعة مقالات للكاتب تناولت عدة مواضيع عن حياته، حياته مع الكتابة، وغيرها. لديه أيضا كتاب مقالات آخر “The Disappointment Artist ” عن بدايته مع الكتابة وكل العناصر المؤثرة فيها. انتهت الزيارة بكثير من الأفكار، وكتابين فقط يا للدهشة!

photo 3
Three Lives and Company

في المنطقة الغربية من منهاتن، قرية غرينتش تحديداً. مكتبة الحيوات الثلاثة، “Three Lives & Company” أريد أن أقول لهم بأنني أحبّ اسم المكتبة كثيراً وكان داخلها أجمل! انتظرت لنصف ساعة في الخارج تحت الشمس لأنني لم أحمل مظلة، ولأنني وصلت باكراً. في المكتبة رفوف مزدحمة وكتب من دور نشر كبيرة وصغيرة، أحببت توفر المزيد من الروايات العالمية التي لا نجدها عادة في المكتبات التجارية أو التي تتبع خط استهلاك القرّاء. فيها تشكيلة جيدة من كتب NYRB ، و Penguin. كتب الشعر أيضاً كثيرة. هناك اقتنيت الكتاب الذي يشاركني آخر الليل مؤخراً، وأحمله في كلّ مكان.

كتاب “البحث عن فلسطين” لنجلاء سعيد ابنة إدوارد سعيد. قرأت فيه على عجل في الليلة الأولى وشغلتني عنه المدينة.

photo 1

في مطار جون كينيدي عدت لمواصلة القراءة وكان الكتاب رفيقي الجيّد خلال ساعات الصحو. في انتظار الرحلة جلس إلى جواري مجموعة من اليهود الارثودكس وكانت عين شيخ كبير منهم على الغلاف، ضحكت داخلي لمصادفة حملي للكتاب في هذا اليوم، في هذا المكان. تجاوزت منتصف الكتاب بالقراءة المتأنية، وفيه سيرة مرحة لفتاة تبحث عن هويتها الحقيقية. ذكرتني تساؤلاتها وصراعها الشخصي بكتاب والدها “خارج المكان” لكنّها ذكرتني أكثر بكتاب آميلي نوثومب “بيوغرافيا الجوع” أحد أقرب السير الذاتية إلى قلبي. ولا أمانع في قراءته مرة واثنتين وثلاث.

photo 3

في العاشر من سبتمبر الماضي توجهت لمكتبة PowerHouse Arena في بروكلين لحضور إطلاق كتاب المصور الشهير فريد ستين “پاريس نيويورك”. المصور توفي منذ سنوات لكنّ اطلاق الكتاب جاء على يدّ ابنه پيتر ستين المصور السينمائي وحفيدته كاثرين فريير. كان حديث عائلي بامتياز، تبادل الابن وابنته الحديث عن المصور، رحلته من ألمانيا مرورا بباريس وصولاً إلى نيويورك. مع التركيز على الأسباب التاريخية التي دفعته للهجرة القسرية ومن بينها الحكم النازي لألمانيا وتهديده لليهود. الفكرة من الكتاب جمع صور الحياة اليومية التي التقطها فريد ستين بين باريس ونيويورك، مع تفاصيل سيرته وصور لأشهر البورتريهات التي التقطها. بعضها نعرفها بالنظر لكننا لا ندري حقيقة من هو مصورها. كنت هناك لاكتشاف فريد ستين بعد رؤية أعماله خلال السنتين الماضيتين وهو الوقت الذي بدأت فيه الاهتمام بفوتوغرافيا الشارع وأهمّ مصوريها. لفريد ستين نمط معين فهو يمسك بالكاميرا قرب جذعه وينظر في شاشتها الصغيرة ليحدد مساحة التصوير، لم يكن يستخدم الكاميرا التقليدية التي يحتاج إلى النظر من خلال عدستها، هناك لقاء مباشر بينه وبين موضوع التصوير، يشعر الناس بالراحة فتكون صورهم كذلك. هناك قصة مهمّة عن تحول فريد ستين من تصوير الشارع لتصوير البورتريه ويوجزه ابنه بيتر في متاعب الظهر التي بدأ يعاني منها وعدم قدرته على المشي لمسافات طويلة حول نيويورك. هكذا، دبر له الأصدقاء فرصة اللقاء بشخصيات مهمة لتصويرها من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: البرت آينشتاين، هرمان هسه، توماس مان، حنة آرنت وجورجيا أوكيف.

بيتر ستين وكاثرين فريير يقومان بعمل جبار للحفاظ على أرشيف فريد ستين. يجوبون العالم بحثاً عن ما يمكنهم إيجاده من الصور المفقودة، ويقيمون المعارض وخلال اطلاق الكتاب تحدثا عن وثائقي ضخم يعده الابن عن والده وشاهدنا جزء مقتبس محفز منه. حصلت على نسختي الموقعة واستمتعت كثيراً برؤية الصور وسماع الحكايات عن قرب. خلال كتابة هذه التدوينة وجدت في يوتوب وفي موقع المصور فريد ستين تسجيل فيديو عن مشروع بيتر وابنته وعن المصور بشكل عام يمكنكم مشاهدته هنا والتعرف عليه أكثر.


.
.

Fred Stein Fine Cut from Kate Freer on Vimeo.

photo 2

لم اقرأ الكتاب بعد، فقط تصفحته سريعاً ونظرت للصور مثل الأطفال. فكرة حصولي عليه أشعرتني بالأمان حتى أعود لاكتشافه.

 * * *

في كل رحلة لي خارج البلاد، أبحث عن الكتب كبحثي عن كنز وأكثر. في مدينتي فرع لمكتبة جرير وتحولت تدريجياً على مر السنوات إلى قرطاسية ضخمة لا أجد فيها ما احتاجه من الكتب. أعيش على رحلاتي السريعة لمكتبات تبعد عن مدينتي عشرات ومئات الأميال. وانتظر كل عام سفري وسفر الأصدقاء للحصول على الكتب. ما عادت الكتب الإلكترونية تمتعني كالسابق. أصبحت احتاج الورق لأقرأ وأحاول جهدي لتحمل الشاشات في حالة الكتب الممتعة. أحلم بمكتبة عظيمة توفر لي كلّ ما أبحث عنه، وإذا لم توجد، قد أكون أنا من يؤسسها بإذن الله : )

نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الرابعة)

Don Giovanni Ristorante - Chelsea
Don Giovanni Ristorante – Chelsea

السفر الجيّد يتطلب الكثير من التخطيط، التخطيط للأكل!

العام الماضي تركت كل شيء للمفاجآت، كانت هناك مغامرات “مذاقية” كثيرة لكنّها لم تشبع فضولي. أما هذه المرة فقد قضيت وقت لا بأس به في البحث عن أهم المطاعم والمقاهي القريبة من مسكني وحول المدينة بشكل عام. قرأت عن التقييمات وحددت الأسعار وفكرت في كلّ شيء أرغب في تجربته. التطبيق الذي أحبه كثيرا حتى في حالة الاختيارات العشوائية “Yelp” ربما كان هناك تطبيق أفضل منه لكنني اعتدت استخدامه. فيه تقييمات كثيرة وصور وتفاصيل عن قائمة الطعام والأسعار وما إذا كان المكان مفتوح أو مغلق، وفي حالة مهمة هل يقدمون وجبة (الفطور/الغداء Brunch) في ذلك اليوم أو لا.

يمكنني الآن التفكير في قائمة على الشكل التالي: سلطة كمثرى، سلطة تين، سلطة تين وزيتون، سلطة رمان، سلطة سيزر بالدجاج، سلطة ربيان، ريزوتو –الكثير من الريزوتو-، ربيان وبطاطا مقلية، سمك وبطاطا مقلية، بوظة، جيلاتو، كعك جبن وشوكولا، كعك جبن وجزر، كرات الدونات وتغميسة الشوكولا، كعك موز، كعكة الليمون السعيدة، كعكة جوز الهند، تيراميسو، كروسون بالأعشاب وجبن الماعز، ساندويتشات دجاج، بيض مقلي ونقانق الديك الرومي، شوربة الطماطم، بيتزا ميسينا، بيتزا كاليفورنيا، بيتزا في فرن حجري، كعك سلطعون، ريزوتو بالسلطعون، كثير من الطماطم والدجاج والصلصة والفطر والأهم من هذا كلّه الجبنة التي فكرت في تسمية الرحلة باسمها تكريما لروعتها: الجورجونزولا! وما هي هذه الجبنة السحرية؟ إنها جبنة شهيرة في المطبخ الإيطالي، من أنواع الجبنة الزرقاء التي بدأت صناعتها قبل قرون في منطقة إدارية في ميلانو الإيطالية ومنها جاء اسم الجبنة. تُعتّق من ثلاثة إلى أربعة أشهر حتى تكتسب طعمها القويّ وقوامها الخاص. تناولت الجورجونزولا مع المعكرونة والستيك والبرغر، تناولتها مع السلطة، والبطاطا المقلية بزيت الكمأه. للجبنة رائحة قوية جداً لا ينكرها الأنف، ما إن يصل الطبق لطاولتكم سينتبه لها كل من حولكم.

شيء آخر مميز جرّبته في الرحلة: أكل الشارع الآسيوي مقدّم بحلة مختلفة في مطعم وعلى كراسٍ وطاولات. الفكرة في مطعم Spice Market بنيويورك صنع مزيج من الأكلات الآسيوية الشعبية التي تقدم عادة في الشارع وتقديمها في قائمة طعام خاصة بهم. كانت هناك السمبوسة والمعكرونة بالخضار ونوع مميز من البرغر بمكونات آسيوية. حتى الحلوى، فهم يقدمون بوظة الجوافة المثلجة وتيراميسو القهوة الفيتنامية. كنت دائما أسمع بالقهوة الفيتنامية وشاهدت وثائقي ذات مرة وكتبت عنه (هنـــا) حتى تذوقتها وذهلت من طعمها. أنا في العادة لا أحب الحليب المركز المحلّى ولا أفضّل إضافته في الحلويات، وقد أذهب لأبعد من ذلك وأشعر بالغثيان اذا اكتشفت وجوده. شاهدت اسم القهوة الفيتنامية في قائمة المطعم وسألت النادل عنها ونصح بها بشدة! تأتي القهوة الفيتنامية في كوب أسفله كمية من الحليب المركز المحلى وتعلوه القهوة الكثيفة والمركزة. القهوة ساخنة وتحركونها سريعاً مع الحليب المركز المحلى لينتج خليط متجانس، الطعم لذيذ جداً لم أتوقع تقبّله، لكنني فعلت.

كميات الأكل المقدمة في نيويورك -والولايات المتحدة الأمريكية عامة- كبيرة، وتكفي لشخصين وربما ثلاثة أحياناً. لذلك كونوا مستعدين لتقليل الطلبات حتى تعرفون كمية الأكل التي يمكنكم استهلاكها! الأسعار أيضا ليست منخفضة. خاصة إذا كنتم مثلي قررتم عدم تناول الطعام من سلاسل المطاعم السريعة المنتشرة في كل مكان وفضلتم الجلوس في مطعم نظيف يقدم أكل واضح المكونات ومعد بطريقة جيدة. نجحت بتوفير الكثير عندما قررت اقتسام الطعام مع أختي –ما عدا حالات قليلة لم اخجل فيها من إعلان رفض المشاركة- كنا نقتسم طبق مقبلات أو سلطة ثم طبق رئيسي واحد، ونترك الحلوى والقهوة لمكان آخر. وهكذا إذا تناولنا الغداء يكون العشاء غائبا أو خفيفاً والعكس. وفرت النقود وعند وصولي سارعت بالوقوف على الميزان لأجد أنني ومع تلذذي بالكثير من الأطباق لم أزدد غراماً واحداً. وربما كان السبب في ذلك أميال المشي التي قطعتها في المدينة واللياقة المستعادة في الوقت المناسب؟

نيويورك مدينة تتطلب اللياقة، الكثير منها. لياقة بدنية، عقلية، نفسية. قبل الرحلة بحوالي شهرين قررت تغيير نمط حياتي بعد تكاسل عظيم وتراكم للتعب. بدأت بممارسة تمارين تفاوتت بين العنيف والمتوسط ومشيت ساعة يومياً في المعدّل. لا لم يكن هذا استعدادا للسفر. لكنّه أثر في طاقتي –وطاقة أختي كذلك- وكل يوم مع كل مغامرة جسدية في المدينة أفكر لو لم أكن بصحة ولياقة جيدة ماذا حدث؟ ركضت للحاق بموعد ما، مشيت لساعات من شرق المدينة لغربها ووصلت لنقاط أبعد شمالا وجنوباً. وقفت لساعات، واضطررت للاكتفاء بساعات نوم قليلة. لم احتج لحبة مسكّن واحدة، وكنت سأقع فريسة لتغير الجو بعد الرحلة لكنني استقبلته بالكثير من فيتامين سي والدفء.

nyc1-8

المشي عنصر مهمّ في تأمل مكان جديد، وأصبحت كل الشوارع واللوحات والبشر جزء من أحلامي خلال الأيام الماضية. أتذكر زاوية فجأة وأحاول التحقق من أنني رأيتها بعيني ولم تكن صورة أو مشهد من فيلم. كنت في كلّ مرة أقف على رأس الشارع –الناصية- أتذكر ما كتبه جمال الغيطاني في كتابه “مدينة الغرباء” في حديثه عن نيويورك:

“النواصي عندي أحد مصادر الحنين، والخوف والتوق، كل ناصية تعني التقاء طريقين، وكل طريق يعني المضي إلى غاية، إلى مصير، ولا يمكن للإنسان أن يمضي إلى أكثر من طريقين في وقت واحد، إما هذا وإما ذاك، من هنا تصبح النواصي نقطاً لتفرّق المصائر وتلاقيها، والسعي إلى المجهول أحياناً، من هنا ينشأ الخوف، أما التوق فيبدأ عند لقاء من نحبّ واللقاء يعني فراقاً، فمجرد بدئه يعني العد التنازلي للوصول إلى نهايته. مدينة نيويورك مصممة على شكل قطع الشطرنج، تتقاطع الشوارع، ولهذا تتعدد النواصي، من واحدة إلى أخرى، ربما لهذا السبب يجري الناس في مشيهم، لحركة الناس خصوصية في هذه المدينة شاهقة الارتفاع، متعددة الأجناس، ولأنّ كل من يحل بناصية يعني أنه عابر وليس مقيماً، لذلك اعتبرتها مدينة غرباء الكل فيها عابر، ما من مقيم.”

nyc1-9

المشي ذكرني بكتاب آخر “نيويورك التي لا يعرفها أحد” لـ وليام هيلمريتش. لم انته منه قبل السفر وأنوي فعل ذلك ثم كتابة مراجعة مطولة، أثر بي كثيراً وأتمنى أن تكون المراجعة لائقة. لكنه ليس موضع حديث الآن. في أحد الأيام خرجت للمشي في جولة سياحية من نوع خاصّ، مشيت فيها مع دليل لخمسة ساعات تقريباً حتى الجزء السفلي من منهاتن Lower Manhattan ومررت بشارع وول ستريت ومبانٍ عتيقة مختلفة. عجبت من نفسي لسببين: كنت منطلقة بالحديث والأسئلة، ولم استخدم هاتفي المحمول ولو للحظة خلال تلك المدة. نسيت كلّ مؤثر خارجي وركزت تماماً على ما رواه لي وأراني إياه. فكرة هذه الجولة عثرت عليها صدفة في بحثي عن الخدمات المجانية للمدينة. هناك منظمة غير نفعية في نيويورك تسمى Big Apple Greeter تقدم خدماتها لزوار المدينة مجاناً ومن قبل متطوعين نيويوركيين. الهدف من هذه المنظمة منح الزوار فرصة التعرف على نيويورك مع سكّانها بهدوء وبسرعتهم الخاصة وأماكنهم المحببة. كل ما عليكم فعله هو الدخول للموقع الخاصّ بهم وتعبئة معلومات مهمة عن موعد زيارتكم، مكان سكنكم في نيويورك، والأماكن المفضلة للزيارة –لديكم أكثر من خيار لتسجيلها- ثمّ اهتماماتكم أو الغرض من الجولة ثم أوقات وتواريخ محددة للجولة المرغوبة. بعد انتهاء عملية التسجيل يصلكم بريد الكتروني فيه شكر على التسجيل وعبارة مهمّة جداً أصابتني بالإحباط مفادها أنهم استلموا طلبي وتفاصيله لكن هذا لا يعني توفر الجولة كما أردت فهناك الكثير من الزوار وعدد محدود من المتطوعين في الأوقات التي اخترتها. قبل سفري بليلتين تقريباً وصلتني رسالة الكترونية من الموقع تبلغني بوجود دليل لي وتاريخ ووقت الجولة ثم طلبوا مني الاتصال به عند الوصول للمدينة لتأكيد وجودي.

photo 4

كانت الجولة صباحية، انطلقت مع بيتر –الدليل- الخمسيني المتمرس في التاريخ والعمارة النيويوركية من فندقي ومشينا على الـ High Line أحد كنوز المدينة الجديدة. وهو باختصار سكة حديد قديمة ومرتفعة عن الأرض حوّلت إلى متنزه ورئة خضراء للمدينة. يمتد على عدة شوارع وأصبح معبر لمن يريد التجول في نيويورك دون الحاجة للمرور بازدحام النواصي وانتظار الإشارات. على امتداده تجدون مقاهي وفروع مطاعم واستراحات للتمدد والتأمل. هناك فرق موسيقية لهواة، وجولات سياحية، وجدران المباني حوله قُدمت في كثير من الأحيان كهدية للفنانين للرسم عليها وعرض الأفلام وهكذا. مكان مختلف يحتاج إلى أكثر من زيارة حتماً، وكان فندقي مقابل لأحد مداخله وهذا جيد. بعد الممشى المرتفع انتقلنا مشينا لمنطقة تسمى بمنطقة “تعبئة اللحوم –Meatpacking District” ومنها إلى West Village و غرينتش. أكثر ما أبهرني في الرحلة المباني وألوانها وتنوعها. لم أكن أعلم بأنني سأهتم للعمارة في يوم ما. وبيتر يشرح على كل مبنى ما يتذكره من تاريخه، مبانٍ كانت بلا نوافذ وفتحت نوافذها ورفعت لعدة أدوار، مخازن الميناء على نهر هدسون التي أصبحت صالات فنيّة وأماكن للاحتفالات وفنادق فخمة. هذا مبنى من العشرينات وآخر يقف من نهاية القرن التاسع عشر. لم أكن اسجل ما يقوله، كنت امتصّ المعلومات بسعادة واسأل عن المزيد. السلالم خارج البنايات كانت لأغراض سلامة ولغرض أهمّ: لم تكن مساحة الشقق تسمح بسلالم داخل المبنى وهكذا كان كل دور يصل للخارج أو الداخل. كنت أقول لنفسي يمكنني رؤية كل هذا بالمشي فقط. لكن وجود دليل وحوار يدور بين شخصين منح التجربة بعد آخر وثراء خاص.

في الحلقة القادمة

ماذا عن الكتب والمكتبات؟

نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الثالثة)

nyc1-5
Photo By Modi

حلقة اليوم إهداء للمترددين في الأحاديث القصيرة مع الغرباء. أشباهي طبعاً. لكن ليس بعد هذه الرحلة. أنا عادة لا أجيد الحديث مع الغرباء، أو الجلوس في الانتظارات لوقت طويل. أحتاج شيء للانشغال عن العالم حولي وربما التخلص من ورطة الأسئلة. في السفر إما أنك على عجل أو خجل من السؤال أو ببساطة لا تهتم للمارة أو المتواجدين معك. كنت في الحالات كلها أحد الثلاثة. ولكن قبل الحديث عن الكلام مع الغرباء سأروي لكم قصة ليلة من الصمت الإجباري في نيويورك!

في المدينة تقام دائما عروض مسرحية خاصة خارج برودواي، هناك مصطلح يستخدم في هذه الحالة للتفريق بين الأعمال المسرحية التي تعرض في برودواي أو تلك التي خارجه “Off-Broadway show”. أحد هذه العروض الخارجية عرض مسرحي يسمى “Sleep No More“. تخيلوا مزيج من ماكبث شكسبير وحكايات فندق مهجور منذ ثلاثينات القرن الماضي. التجربة المسرحية هذه تسمّى “تجربة غامرة” ينغمس فيها المشاهد ويصبح جزء من المسرح ويتفاعل عن قرب مع الشخصيات. مكان العرض الذي بدأ من ٢٠١١م هو فندق مكيتريك الذي يشير الموقع الخاصّ بالعرض بأنه فندق بني في الثلاثينات لكنه لم يبدأ العمل بسبب انطلاق الحرب العالمية الثانية وفتح أبوابه الآن. وأنا اعتقد بأن ما ذكر مجرد إضافة لتحفيز الزوار حيث أن المبنى يبدو بحالة جيدة اليوم. سأحاول الحديث عن تجربتي التي حاولت فيها عدم قراءة أي معلومات مسبقة أو مشاهدة تصوير للمكان – مجرد نبذة سريعة– ولكل شخص سيكون هناك قصة خاصة.

اشترينا التذاكر قبل وصولنا بأسبوع تقريباً لا أعلم هل هي متوفرة عادة أم تحتاجون الشراء باكراً. يبدأ الدخول للعرض في الساعة السادسة مساء وتغلق الأبواب في السابعة ويمتد العرض حتى التاسعة مساء. في الاستقبال يختم على أيدينا شعار الفندق ونتسلم بطاقة تشبه بطاقات لعب الورق ونضع حقائبنا وهواتفنا وكلّ ما نحمله في غرفة الاستقبال. ثم تبدأ الرحلة. كان الدخول إلى الصالة الرئيسية مدهش، لا أريد إعطاء الكثير من التفاصيل فهذا سيفسد العرض! لكن هناك معلومة بسيطة: إذا وجدتم أنفسكم مترددين في الدخول فهذه الفرصة لكم للتراجع والتوقف لأنها ستعطيكم نبذة عن ما يمكن توقعه في الساعات القادمة. بعد الدخول ستائر مخملية ثقيلة في الطريق ما إن تبتعد حتى تجدون أنفسكم في حانة قديمة، دخان وأناس يتحركون في كلّ اتجاه وفرقة جاز من الثلاثينات تستعد للبدء. كل الموظفين في المكان يرتدون ملابس قديمة ويتحدثون بطريقة قديمة كذلك. شعرت بأنني في مشهد من Boardwalk Empire أو في فترة حظر الكحول بشكل عام. البطاقات في أيدينا واكتشفت بأن أخواتي يحملن أرقام مختلفة وهذا كما يقولون من صميم التجربة، أن تمشي وحيداً وتشاهد العرض أفضل من أن تكون في مجموعة. التجربة الفردية أهمّ. نادى الموظف على بطاقاتهم وذهبوا وانتظرت برعب – لا أدري لماذا شعرت هكذا- عندما حان دوري دخلت إلى مصعد قديم مظلم مع مجموعة من المشاهدين، نسيت أن أقول تمّ تسليمنا أقنعة خاصة وضعناها ما أن غادرنا الحانة للمصعد. في المصعد يشرح لنا المطلوب منّا: ممنوع خلع القناع في أي وقت داخل الفندق، اذا أردتم استراحة عودوا إلى هنا وستجدون طريقكم، ممنوع الكلام، أو الضحك وأن أي مخالف سيخرج من العرض فورا، أو الوقوف في طريق الممثلين وهم يؤدون أدوارهم. وكونوا حذرين من الاقتراب وبدء تفاعل مع الممثلين فقد يكون ذلك بداية لمشهد لن تتراجعون عنه. ويعود ليذكرنا بأنّ كل ما نراه مشاهد من عرض، لن يحدث لنا مكروه، والموظفين -غير الممثلين- سيرتدون أقنعة سوداء لتعريفهم. هكذا؟ صمت كامل، وأفكر في أخواتي، وعن شكل التجربة القادمة.

الفندق عبارة عن عدة أدوار -خمسة كما أذكر مع أننا هبطنا وصعدنا كثيرا- غرف فندق، وغرف أخرى لأطفال، ومصح للأمراض العقلية، مقبرة وباحات وصالة للرقص! كل هذا في أدوار متجاورة تتغير موسيقاها بانتقالكم من مكان لآخر، وبرودة التكييف وحرارته وكذلك الرائحة -في دور المصح كنت أشم الكلوروفورم أو مادة طبية أخرى- شعرت بقشعريرة في ٩٠٪ من الوقت وبددت خوفي تارة بقراءة المعوذات وتارة بالانطلاق خلف الفضول. كان التحدي الأكبر الأول لي في هذه التجربة: عبور المقبرة، في إحدى الأدوار مقبرة فيها فزاعة وأصوات رهيبة والكثير من التبن الذي يطقطق تحت الأقدام، لم يكن هناك أحد معي حتى الغرباء الذين استأنست بظلالهم وحركتهم الهادئة وهمهمة المتهورين منهم لم يكونوا هناك، قررت العبور فهي على كل حال لم تكن مقبرة حقيقية. أما التحدي الثاني فكان عدم اللحاق بالممثلين. كانوا يركضون في كل اتجاه بعد انتهاء مشاهدهم لتشتيت الجمهور، وإذا ثبتت في مكانك سترى شيئا مختلفاً. التمثيل محترف ومميز والتصميم الداخلي للمكان والأصوات مذهلة. التقيت بأخواتي بعد عدة أدوار، حاولنا كثيرا التفاهم بالعيون ونجحنا مرات ومرات استخدمنا شد الملابس والصفعات الخفيفة. يُطلب منكم قبل العرض بيوم الاستعداد بارتداء ملابس مريحة وأحذية مريحة كذلك والحضور على الوقت. هناك مشاهد راقصة سحرية وحوارات وانفعالات ومشاهد شجارات بين الممثلين. سأكون صريحة معكم وأخبركم بأنني اعترضت طريق الممثلين في إحدى المرات على الرغم من التحذيرات، وما كان من الممثل إلا أن دفعني جانباً بامتعاض. شعرت بالخجل وددت لو أمكنني الاختفاء. وفي مرة ثانية وبناء على اللافتة التي سمحت للزوار بتجربة الأثاث واستخدامه جلست بكلّ حماستي لقراءة رسائل قديمة بخط اليد على الكرسي الذي غارت وسادته ونهضت سريعاً. في النهاية وباختصار سيخرج كل زائر بعرضه الخاصّ، شاهدت من الأدوار بعض المشاهد وانتقلت بينها وتغيرت زوايا رؤيتي والأحداث، وهذا ما حدث مع أخواتي. كل منا كان مخرج العرض الخاص يقتطع ويكمل ويعيد مشاهدة كل دور بحسب ما يقتضي فضوله. “Sleep No More” تجربة مميزة جداً لا تفوتوها في رحلتكم إلى نيويورك، مجرد ساعتين ستختبرون فيها جوانب سيكولوجية واجتماعية في أنفسكم لم تعلموا بوجودها -أو غيابها- من قبل.

الاستخبارات السوڤيتية تتعقبني!

نيويورك ستغير كل معارفكم المسبقة في الاحاديث القصيرة. كنت وما زلت أقول لا تتحدث في السياسة أو الدين مع شخص تلتقيه للمرة الأولى. تحدث عن الطقس، عن المدينة، عن الهوايات. جد أي موضوع آخر وابتعد عن المواضيع الشائكة. لكن ما يحدث معي في كل مرة أن الطرف الآخر لا يتردد في السؤال عن بلدي، والشرق الأوسط وعن الإسلام، ويريد مني تلخيص سريع لكل ذلك خلال جولة في سيارة الأجرة أو الوقوف في انتظار القهوة. غالباً أهزّ رأسي واكتفي بالابتسام والإجابات القصيرة لكن السيد “اسحق” كما سأسميه -لأنني نسيت اسمه الآن- استدرجني إلى حديث مليء بالضحك والهلع!

في إحدى الأيام أوقفنا اسحق وركبنا السيارة فالتفت نحونا بحماس وقال: بون جور! دُهشنا أنا وأختي ولكننا رددنا تحيته بون جور بلا تردد. قال: بون جور، هذه تحيتكم؟ أنتم من فرنسا صحيح؟ ضحكنا لغرابة الإشارة وقلنا لا. عاد ليسأل: الجزائر؟ وأجبنا بلا، وحتى لا تطول لعبة البنغ بونغ هذه قلنا أننا من السعودية. وكانت الحماسة للحديث تزيد! تعرفون السائق الذي يلتفت ويترك المقود ليتحدث إليكم؟ لا أحب هذه الالتفاتة، تخيفني. راقب الطريق وتحدث. انطلق في حديثه بالأسئلة المعتادة: كيف جئتم وماذا تفعلون؟ وما رأيكم في نيويورك؟ كنا نجيب بتهذيب ولكنه انطلق بلا دعوة يشكو أمريكا -عرفت من لهجته بأنه روسي- ورغبتها في إفساد نساء العالم، وإيقاف الإنجاب ونشر الانحلال والشذوذ وإبعاد الناس من المعابد .. وهكذا. كنا نعلّق بحيادية لأننا لم نفهم سرّ هذا الغضب. ثمّ سألته عن بلده الأصلي وقال بأنه يهودي من روسيا. اكتفيت بـ أها ممتدة ثم قلت بأنني حزرت لهجته. قال: لديكم في السعودية يهود؟ قلت ربما، كانت هناك أعداد كبيرة قديماً لكنني لست متأكدة من الإحصائية الآن. ثمّ سأل: قتلتوهم؟ قلت لا. ربما لم يقتنع أو كانت لديه رؤية أخرى، وأنا في الحقيقة لم أكن أعرف على وجه التحديد التفاصيل الكاملة لما يسأل عنه. عاد للحديث عن روسيا وقلت له بأنني ترجمت رواية لكاتب روسي، ويهودي. ثمّ أخبرني بأنّني الآن في خطر، كاتب مطلوب من الكي جي بي وكتابه صودر قبل نشره! الاستخبارات تتبعك الآن وساعاتك معدودة، هل تعرفين الساعة الرملية؟ تك توك تك توك .. كدت اقفز من السيارة، أعرف بأنه يمزح لكنّه دفعني للتفكير لوهلة. سأل عن معاني بعض الكلمات بالعربية ثم قال: ما معنى صدّيقين؟ قلت له الصادق دائما، المعروف بالصدق، الذي لا يكذب. ثمّ قال لي بأن المعنى العبري لنفس الكلمة بنفس النطق يعني: قديس لا يصدر منه الخطأ. طالت المسافة وزادت الأحاديث وعندما توقفنا تمنّى لنا يوما سعيدا وأن يلتقينا في الغد.

أول جملة عربية في نيويورك

في الفندق الذي سكنت به موظف بملامح عربية -أو إفريقية- لم تكن سمرته شديدة، سمرة صحراء هكذا فكرت، ربما كان من الصومال أو موريتانيا. لكنه يتكلم إنجليزية صحيحة وبلكنة بروكلينية. خلال فترة سكننا تحدثنا بالعربية أحيان كثيرة، في الاستقبال، في المقهى، تشاجرنا قليلاً، ومزحنا وعلقنا على مواقف مررنا بها، لكن كانت العربية مساحتنا الآمنة في الحديث. لا أحد سيفهم ما نقول. ربما.

خلال فترة السكن واجهت مشكلة مع بطاقتي الائتمانية ولم أتمكن من دفع رسوم الأسبوع التالي. حاولت مراراً وطلبت منهم الانتظار حتى اتصل ببنكي.

في الصباح التالي كنت خارجة من مصعد الفندق باتجاه المقهى، وقابلني الموظف الذي تحدثت عنه سابقاً. قال لي: “جربت بطاقتك بس ما نفعتش” هكذا قالها، ولكنني سمعتها “@$@#^&)ـ(٪ٍ&” نسيت كل الكلمات العربية التي تحدثت بها في حياتي، أو كانت الدهشة؟! قلت له: sorry! وأعاد الجملة من جديد واستوعبت، سريعاً أعدت شريط احاديثنا في الاستقبال، أتمنى أنها لم تكن معيبة. واصلنا النقاش عن البطاقة وأيامي الباقية وحجز سيارة المطار بالعربية.

شعرت بأن قلبي يغنّي، كأنني أجريت تمريناً لوجهي. عاشت العربية!

في مكتبة مايكل السرية

nyc1-6

أردت أن اكتب تدوينة منفصلة عن زيارتي الثانية هذا العام لمكتبة مايكل السرية. سأفعل بإذن الله لكنني الآن سأكتب عن الأحاديث القصيرة اللطيفة التي تفتح أبوابا لفرص مدهشة. هناك في المكتبة التقيت بعدد من الزوار واستدرجتني إحداهن للحديث عن عملي ووضع الكتابة والأدب في السعودية وغيرها من الأسئلة الجيدة لبدء الحديث في مكتبة. قالت بأنها ولدت في البحرين وعاشت حتى عمر العاشرة ثم انتقلت وأسرتها إلى أمريكا -هي أمريكية- ثم تحدثت عن تحويل مسارها التعليمي لخدمة طموحها وما تريد فعله في الحياة. درست الاقتصاد وعملت لفترة بتخصصها، ثم قررت إكمال الدراسة العليا في الكتابة الإبداعية، وهكذا أصبحت اليوم أستاذة جامعية في الكتابة الإبداعية في جامعة New School بنيويورك. وتعمل محررة لمجلة نيويوركية متخصصة في الآداب والفنون والترجمة. ثمّ تحول الحديث اللطيف إلى عرض مفتوح للكتابة معهم. ماذا سأكتب؟ قالت لي عن الحياة في الشرق الأوسط، الفنون والأدب وأشارت لكثير من الكتاب والشعراء العرب الذين استضافتهم المجلة. كما أوصتني بقراءة كتاب An Unnecessary Woman للكاتب اللبناني ربيع علم الدين يحكي قصة علياء، سيدة بيروتية وحيدة تختار كل يناير كتاب جديد لترجمته لنفسها. اقتنيت الكتاب وانتظر وصوله مع شحنة الكتب التي تركتها ورائي! أما بالنسبة للمجلة فسأترك اسمها مفاجأة عندما أبلغكم بنشر أولى كتاباتي معهم.

في الحلقة القادمة :

الأكل، الكثير من الأكل واللياقة في نيويورك.

نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الثانية)

Processed with VSCOcam with p5 preset

تحتفظ أختي بتسجيل صوتي لنا خلال رحلة برية إلى الرياض ونحن نحاول الغناء بجودة صوت إيلا فيتزجيرالد. أذكر الأغنية جيداً ولا أنساها “Take The A Train” الأغنية تتحدث عن أسرع طريق للوصول إلى هارلم. عليك أن تستقل القطار “A” السريع الذي يقطع منهاتن للشمال حيث هارلم، ثم إلى الجنوب وصولاً إلى شرق بروكلين. كنت أحدث نفسي -سرا وعلناً- بأنني في زيارتي لنيويورك سأشاهد هذا القطار وقد أذهب في جولة على متنه. وما حدث أن أكثر رحلاتي في المدينة خلال الأسبوعين التي قضيتها هناك كانت على متن القطار A. وفي كل مرّة أقف فيها بمحاذاة الطلاء الأصفر للرصيف كنت أدندن بيني وبين نفسي لإيلا فيتزجيرالد.

في العام الماضي تحدثت عن تطبيق للهواتف الذكية يخبركم عن القطارات التي تحتاجون ركوبها للوصول لنقطة معينة في المدينة. يحدد Embark NYC على الخريطة ثم يزودكم بالأوقات وأماكن انطلاق القطارات من المحطات الأقرب إليكم. لا تعتمدوا على شبكة الجوال: لن تعمل تحت الأرض. دائما التخطيط المسبق أفضل. لماذا أقول لكم ذلك؟ لأنني تعلمت بالطريقة الصعبة أهم دروس ركوب المترو. بالملاحظة والركض وسؤال الآخرين والرعب. محطات المترو التي تصنّف بالقريبة جداً من فندقي كانت أولاها غرب شارع ٢٣ مع الجادة الثامنة. وهذا يعني المشي شمالاً لشارعين ثم شرقاً لجادتين. المسافات بين الشوارع قصيرة تكاد لا تذكر، العمل الحقيقي يحدث عندما تقرر المشي من جادة لأخرى، ودائما تأكد من خريطة هاتفك مطابقة للاتجاهات في الواقع -العام الماضي كانت مقلوبة ومشيت لمسافات لا يعلمها إلا الله في الاتجاه المعاكس- . مشيت كثيراً واحتجت لفعل ذلك بسرعة. المسافة بين جادة وأخرى بحسب غووغل: ٢٥٠ متر تقريباً. والموضوع الجديد عليّ أن الشوارع والجادات في نيويورك لا تحمل مسافات ثابتة وهناك مواصفات وتغييرات عليها بحسب موقعها في المدينة. بالنسبة للطريق الذي اعتمده للوصول إلى محطة شارع ٢٣ كانت المسافة ٢ كم.

المحطة الأخرى غرب شارع ١٤ تبعد مسافة أقل واكتشفت ذلك في نهاية الرحلة ونفس القطارات تمرّ بها من منهاتن لبروكلين وتذهب شمالاً للأماكن التي احتاج الذهاب إليها كل يوم كانت المسافة إليها: كيلومتر واحد فقط. والمشي لمحطة المترو أفضل كثيراً بالنسبة لي مع أن رحلة سيارة الأجرة ستكون سريعة وبمبلغ قليل لكن كل رحلة مترو تكلف أقلّ من ذلك وأنا كنت مهووسة خلال رحلتي بالتوفير متى ما كان ممكناً.

في محطة المترو وعند السلالم تحديداً لا تفكروا بالتأمل أو التردد أو تغيير الاتجاه، الكلّ يركض ليلحق بقطاره ولا يريد الاصطدام بكم حتماً. كنت أحمل معي بطاقتي من العام الماضي والتي تنتهي في أكتوبر القادم، جربت الدخول بها ولم افلح، طلبت من موظفة الشباك التحقق منها بعد فشلي في شحنها. وقالت إنها جيدة لرحلتين أو ثلاث. وطلبت مني المرور دون الحاجة لتمريرها في القارئ. الحرّ تحت الأرض لا يطاق، خيل لي أن السماء تمطر عرق! وكانت فكرة الملابس الخريفية التي ارتديتها في ذلك اليوم فاشلة جداً. وصل القطار الذي غنّت له إيلا، وكان صوت العجلات يزمجر كما تخيلت. الكلّ يبدو منشغلاً، البعض يضع سماعات الأذن ويستمع للموسيقى بصوت مرتفع وأتساءل أمام المنظر هل هم مجانين؟ لا أتخيل نفسي ولو بعد زيارتي العاشرة لهذه المدينة سأتوقف عن الاستماع لما حولي والملاحظة. تذكرت هذا المشهد من فيلم أحبه “inside llewyn davis”. كنت في كل رحلة في المدينة مثل هذه القطة تماماً، رأس يتحرك بلا هدوء وعينان تسجل كلّ شيء!

nyc1-2

في إحدى الرحلات جلست بصحبة سائحة من أستراليا وصديقتها، واستعرضت معلوماتي عن خطّ سير القطار وهل سيصل إلى وجهتها وكأنني ولدت نيويوركية. أسعدتني ملاحظتها بأنها لم تسأل عن مكان قدومي، بل ما هي طبيعة عملي في المدينة؟ ضحكت منها وأخبرتها بأنني سائحة مثلها لكنني نجحت في تفادي التعثر تحت الأرض باستخدام التطبيق الذي حدثتكم عنه. أخذت اسمه فوراً وسجلته لتحميله لاحقاً -فوق الأرض- ثمّ التقطت صديقتها لها صورة وكنت داخل الاطار ابتسم، أفكر أين سيسافر وجهي؟

لا اغفل عن الأرقام التي تتغير على الجدران أمامي، غفلة سريعة تضيع محطتك الأهمّ وستضطر بعدها لتبديل القطارات للعودة، أو في أسوأ الحالات ركوب سيارة أجرة أو الركض كما حدث معي قبل حضور اطلاق كتاب المصور فريد ستين – في حلقة قادمة التفاصيل- .

يهتز قطار المترو في طريقة بشكل مخيف، هكذا ظننت في المرة الأولى ثمّ وبعد أن اعتدت الأمر أصبحت الاهتزاز أرجوحة ممتعة. فكرة أن هذه الأنفاق بنيت قبل مئة سنة أو أكثر بقليل ترعبني ثمّ تبهجني أحيانا. هل يشعر حوالي ثلاثة ملايين شخص بالرعب مثلي، كل يوم؟

عندما ينطلق القطار يصدر عنه صوت فرقعة عالية وكنت الوحيدة التي تقفز هلعاً مع هذا الصوت وفي كل محطة. ثمّ لاحظت شيئا فشيئا أن القفزة هذه تلاشت مع الوقت. توقعت حدوث الصوت ولم يعد يفزعني، ووصلت مرحلة من الراحة والطمأنينة فبدأت تأمّل الوجوه والأقدام والكتب في الأيادي، وللأسف التقط أنفي روائح غير محببة وتعلمت درس جديد: في الازدحام تنفس مع فمك!

في إحدى الرحلات قفزت فتاة إلى القطار مع باقة ورد، بدت متحفزة ومستعدة لمدها لشخص، كانت ترتدي ملابس رائعة، شعرها مسرح جيداً وتفوح منه رائحة شامپو تفاح لا يخطئ انفي في اكتشافها. تبادلنا الابتسامات ثمّ انطلقت في المحطة التالية من جديد. في يوم آخر سيدة حامل ومنهكة وقفت فجأة في منتصف الرحلة وبدأت تتحدث عن حاجتها لتغذية الجنين، الكل تردد في دفع المال وبينما بحثت بسرعة لبعض الدولارات كانت قد خرجت. ولستُ أدري أكانت فعلا بحاجتها أم كانت ممثلة بارعة. شابّ في يوم دافئ يرتدي بزة من ثلاثة قطع، كنت غارقة في العرق وأتخيل كيف يشعر، لم يبد امتعاضا من التكييف المعطل ولم يكن مشغولاً بالبحث عن هواء كان يقرأ باهتمام كتاب من پنغوين -كما تظهر تفاصيل أغلفتهم الجانبية- ولأنني كابرت ولم ارتد نظارتي الطبية: نعم لم استطع قراءة عنوان الكتاب.

سترون العجائب في رحلات المترو، ولو كان وقتي يسمح بالمزيد لركبت قطار “٧” الشهير الذي يعتبر أفضل جولات المترو النيويوركية بمناظر رائعة لهارلم والبرونكس تصلح للتصوير والتأمل. سأعود للحديث عن المترو في حلقات قادمة إنما في سياق مختلف.

أمطار توراتية

nyc1-4

قرأت هذه العبارة للمرة الأولى في إحدى روايات ماركيز ولم تغادرني. خرجت في إحدى الصباحات لشراء الكتب لأختي الصغرى. كانت الوجهة مكتبة Powerhouse Arena في بروكلين ولكنني للأسف لم أتحقق من الأجواء في الخارج أو مواعيد عمل المكتبة وما إذا كانت تستعد لحدث ما. خرجت مسرعة واستقبلتني الأمطار المجنونة عند باب الفندق، مدّ الموظف المظلة وكنت أمام طريقين: إما الخروج والمغامرة في هذا البحر المقلوب، أو البقاء والانتظار. لكنه سهل علي القرار عندما قال: تقول النشرة أن الأمطار ستستمر حتى الظهيرة. ولكي اسهّل التخيل والوصف عليكم، كانت تشبه الأمطار التي تعلق الدراسة من أجلها. تساءلت حقاً هل كنت في خطر عندما قررت المشي وحمل مظلة؟ ما إن تجاوزت الفندق للشارع الفرعي حتى شاهدت المارّة، سيدات ورجال وأطفال يمشون للمدارس تحت مظلات وقطع بلاستيك ومعاطف ضد المطر. يضحكون يتحدثون، يغنون. بينما تشبثت بمظلتي وثقافتي المحدودة عن كيفية استخدامها.

كان عندي مظلة استخدمتها نادراً أثناء انتظار الباص، وباقي حياتي جربت طرق أخرى للتحصن منه، جريدة، كيس بلاستيكي أسود، والقائمة تطول. لم أمش لساعات تحت المطر بمظلة أو بدونها حتى سافرت للمرة الأولى العام الماضي وهذا العام. مظلة تحمل اسم الفندق لم تكن فكرة صائبة! أينما مشيت أثرت اهتمام المارة لقراءة ما كتب. كان لها مقبض خشبي ضخم يصعب التحكم به. وكنت أحاول النظر والتعلم في نفس الوقت من المارة. إذا تقابل شخصان على الرصيف يرفع أحدهم مظلته عالياً حتى يستطيع الآخر المرور. اذا مررت بمكان ظليل وسأتوقف طويلاً انزل مظلتي ليتمكن المارة من العبور. والأكيد النقطة التي يقفل فيها الشخص مظلته ومحاولته الجاهدة في عدم نشر الماء حوله. مشيت على مهل حتى وصلت لحفرة المترو خاصتي، وأخفضت المظلة بخفة ومهارة كأنني أفعلها كل يوم للابد! هذا حظ المبتدئين الذي لن يتكرر. في رحلة العودة وبعد اكتشاف أن المكتبة مغلقة بسبب احتفال للأطفال، زادت الأمطار وعبرت تحت جسر بروكلين -فكرة غبية جداً- فالمباني تجمع الماء وتسقطه مثل شلال، تأخر الوقت على اكتشاف ذلك. بدأت اشعر بصعوبة في الحركة ومظلتي كانت مجرد إكسسوار أسود قبيح. عدت مجددا لمحطة المترو وفي محاولة لإغلاقها برشاقة قلبت وانتثر الماء منها على الناس من حولي وعلى كلاب صغيرة كانت تحملها إحدى السيدات. لقد كرهتني نيويورك يومها. مؤكد.

بعد انتهاء اليوم الكابوسي قرأت عن إتيكيت المظلات، بحثاً عن فكرة من يرفع مظلته أولا؟ وجدت الكثير من التفاصيل الطريفة عن الخروج في نيويورك في يوم مطير. كيف تحمل مظلتك، كيف تفتحها وتغلقها، ودائما الحرص على حملها عمودية قرب جسدك كي لا تطعن بها أحد.

ليس هناك حد ولا نهاية لما يمكنكم قراءته عن إتيكيت نيويورك، مدينة تولد كل يوم، ويضع قوانينها ملايين البشر.

أردت الحديث في التدوينة عن الأحاديث القصيرة لكن قدرتي على السرد خفتت بوصولي إلى هذا السطر. ربما في الغد : )

نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الأولى)

nyc1-1

اعتدلت في كرسيي بعد مشهد وداع بلاستيكي مع موظفي الفندق الذي سكنته لأسبوعين، كنتُ وأختي حديث الصباح في المقهى وكل مساء عندما نعبر الباب ويُطرح علينا السؤال: كم مدة بقاؤكم معنا؟ وأجيب كل مرة: أسبوعين دون سؤال مقابل، لماذا؟

السيارة كانت فاخرة في نظري لأنها ستعيدني إلى بيتي، ومزعجة وبرودتها غير مضبوطة لأنها ستحملني خارج منهاتن. هذا التناقض الذي تعلمت التعايش معه كلّ يوم وأنا هناك. تغمرني فرحة شديدة لأنني هناك، ثم اشتاق لعائلتي، ثم أفكر في الهرب والبقاء هنا وعلى هذا المنوال، أفكار تسبب المغص والصداع والبهجة.

سائق السيارة لاتيني من ملامحة ومن اختياره الموسيقي كذلك. غيّر الموجة فور انطلاقنا، الرحلة بين مكان السكن والمطار من ٤٥ دقيقة إلى ساعة تقريباً. فرصة سانحة لاستعادة الأحداث وتشغيل شريط المشاهد السينمائي في رأسي. لكن الشوارع الراكضة والمطر على الأرصفة، وفكرة توديع نيويورك منعتني من ذلك. سألته عن طراز سيارته وسنة صنعها ولونها كذلك. أسئلة لا أطرحها في العادة على أخي، ولا تشغلني كثيراً فكرة سنة صنع المركبة بقدر سلامتها، وجودة تكييفها. نعود للصمت من جديد وأفكر في الساعات اللاحقة والرحلة الطويلة ورفيقة كرسيي التي قررت البقاء خلفي. لستُ جيدة مع الصمت، علاقتنا غرائبية، قد أتحدث مع نفسي لتقطيع الرحلة، وأتمنى وأدعو برجاء ألا يجلس إلى جانبي أحد. وفكرت أيضاً في هذه التدوينة -أو التدوينات بالضرورة- التي سأحدثكم فيها عن رحلتي الخاصة هذه المرة وعن التجارب والمذاقات الجديدة التي التقيت بها في نيويورك.

صحيح كانت السيارة كامري وسنة تصنيعها ٢٠١٢م مع نافذة سقف ولون أسود. لا أظنّ أن السائق اهتم كثيراً وجاوب أسئلتي أوتوماتيكياً. كان مشغولاً بالغناء مع الراديو، ولعن الازدحام وإثارة قلقي كل مرة يجتاز نفقاً، أتخيل النهر بكلّ ثقله فوقنا، واستعجل الطريق، أريد إدارة العجلات بسرعة حتى نخرج.

ولكن، هذا ليس مكان الحديث عن عقدي الدفينة!

هذه الرحلة كانت خاصة لأنني شاركت أختي حضور أسبوع الموضة لربيع وصيف ٢٠١٥م. لم اجتز درجات المركز لدخول العروض لكنني انتهزت الفرصة لتصوير المارة المتأنقين والذين يظنون أنهم كذلك. ملابس بكل الألوان وخطوات رشيقة، متثاقلة، متململة وتقفز من حماسها. ثم فكّرت في زاوية خاصة لالتقاط الصور، حيث أنني فشلت كثيراً في التقاط صور للمارة وهم يبتسمون أو ينظرون للعدسة. تحولت فجأة للأقدام، نعم الأقدام. وأصبحت محل تركيزي التامّ، أقف في حذائي المريح في نقطة ضوء مناسبة والتقط خطواتهم واحبسها. لم تعد تهمني الابتسامة، تعلمت يوماً بعد يوم ومع التقاط المزيد من الصور أنني يمكن وببساطة صناعة قصص كاملة من خطوة امرأة -أو رجل- . من مقاس الحذاء والتصاقه بالقدم، من الخدوش الظاهرة على الكاحل، أو الوشوم. من اختيار اللون المكمل للأجواء أو المناقض لها. “أقدام نيويوركية” فكرت هكذا، العام الماضي كانت الأبواب والآن الأحذية والأقدام.

في الرحلة كنت مساعدة خاصة لأختي موضي خلال تغطية أسبوع الموضة عبر مجلتها الإلكترونية، وتقمصت بالتالي لفترة وجيزة دور آن هاثاواي في فيلم “الشيطان يرتدي برادا”، الذين شاهدوا الفيلم سيتذكرون جيداً مهمّات أندي -آن هاثاواي-، تجهيز القهوة صباحاً، كي الملابس والركض الكثير من الركض والتذكير والدعم المعنوي طبعاً. لم أكن افعل ذلك على مضض. كانت تجربة ممتعة تعلمت منها الكثير، وقربتني من أختي، يقولون أنك تعرف الإنسان جيداً في السفر، وأشهد أنني فعلت!

لكن حتى لا استطرد كثيراً، وأنا ملكة الاستطراد ووالدي الملك، قلت بأنني سأهديه كتاباً ذات يوم وسأكتب : إلى ملك الاستطراد، والدي.

الفندق الحلم.

انتظرت سبتمبر طويلاً، ولعدة أسباب كادت هذه الرحلة ألا تكون ولكنها حدثت فالحمد لله. الفندق الذي سكنته كان الوصول إليه بلحظة سحرية، بعد أن انتهيت من حجز آخر قبل الرحلة بخمسة شهور تقريباً. كنت أتصفح حساباتي المفضلة على Instagram لأجد أحدها يعرض صورة لمقهى مميز في مدينة شيكاغو، بحثت أكثر عن المكان وقهوته وتخيلت رائحتها ومذاقها وازداد حماسي ثم بحثت عن فرع للمقهى في نيويورك. الفكرة كانت في زيارة هذا المقهى إن أمكن وشرب القهوة وشراءها كذلك. لكن الفرع الذي وجدته كان يقع بداخل فندق في تشيلسي افتتح في خريف ٢٠١٣م. الفندق له تاريخ طويل بعمر نيويورك القديمة، ومبناه لم يتغير كثيراً. يتكون من خمسة أدوار و٦٠ غرفة فقط، صممت كل منها وجُهزت بأثاث مختلف. المبنى الذي بني في منتصف القرن التاسع عشر كان مدرسة دينية وسكن لطلابها. أما قطعة الأرض التي بني عليها فكانت ضمن مزارع التفاح الشهيرة في القرن الثامن عشر، والتي يعتقد بأنها التي منحت اسم “التفاحة الكبيرة” لنيويورك. يقع الفندق في قلب تشيلسي الفنّي النابض بالناس والحكايات. باحاته على طراز فرنسي عتيق ومدخله وقاعاته كذلك. ستدهشكم مساحة الغرفة مقارنة بالنمط المعتاد في فنادق نيويورك والتي تتبع سلاسل عالمية. بعد جولة لعدة ساعات في الصور وقراءة مراجعات الزوار توكلت على الله وحجزت، مع اختلاف بسيط في السعر مع فندقي السابق -الذي وجدت صور مفزعة لحشرات تجوب غرفة لاحقاً- قررت اعتماد الــHigh Line Hotel مسكناً لرحلة نيويورك وتابعت الاستمتاع بحماس انتظار الوصول. كانت المراجعات تقول أنك ستنام على أكثر سرر العالم راحة وسترغب بشدة ألا تستيقظ! أعرف بأنّ مراتب الفنادق لها سحرها الخاصّ الذي لا يقاوم لكنني شككت قليلاً في المديح المبالغ به. والآن أقول لكم: أنا آسفة، كرهت سريري ومرتبته بعد عودتي. كانت ليلتنا الأولى في نيويورك مثل حلم. وأكثر. وجدنا مطعماً إيطاليا قرب الفندق، وصيدلية وسوبرماركت، صراف آلي، مكتبة 192 المصنفة من أفضل مكتبات نيويورك -خبر جيد وسيء للميزانية في نفس الوقت- هناك محطات مترو قريبة، ومخابز، ومواقع إفطار وغداء، والأكثر من هذا كلّه عروض أزياء تقام في مكان السكن ولا تحتاج موضي إلى أي مواصلات حينها. فقط ترتدي ملابسها وتحضر، كنا نلقي النكات ونقول: يمكن الحضور برداء النوم إن أردت فالمكان قريب.

هل تشمّ ما أشمّه؟

في الحديث عن الفندق نسيت الحديث عن المقهى، أو آثرت الانتظار للحديث هنا. في الصباح الأول خرجت لشراء أكواب القهوة، وما إن فُتح باب المصعد حتى داهمتني الرائحة، شعرت بتسارع في نبضي، وكأنني عدت إلى البيت، أو ذهبت إلى جنة القهوة! هبطت مسرعة، وبدأت حيرتي، وتذكرت بأننا قلنا سنجرب كلّ مشروبات القائمة خلال فترة السكن. لم نشرب ربعها. لكننا شربنا وكانت قهوة Intelligentsia زاد الكافيين اليومي. الندل يتغيرون مع ساعات اليوم لكنني تعرفت عليهم جميعاً، واصبحنا شيئا فشيئا نتبادل الأحاديث عن الأيام والاهتمامات وعن وطني، وخوفي من الكلاب التي وجدت في هذا الفندق منزلاً لها. فالفندق يسمح باستضافة حيوانات ساكنيه الأليفة ويخصص لهم مكانا في الغرف وفي الباحات وماء وطعام وغيره. عبرت عن اندهاشي من رائحة القهوة التي صعدت للطابق الرابع فأجابت إحدى النادلات في صباحي الأول بأنّها لا تشم شيئاً وأنها اعتادت هذه الرائحة حتى لم تعد تؤثر بها. في المقهى يعدون القهوة بالتقطير، والكبس، وقليلا بالماكينة التقليدية، أياديهم خفيفة، وقهوتهم كثيفة وفتاكة.

على جانب آخر من المقهى أطباق مغطاة بالزجاج يعرض فيها كل يوم مخبوزات طازجة من مخابز محلية ومعامل لصنع البسكويت، وكل شيء ينفذ في وقت محدد. اذا تأخرت عن السابعة صباحاً سيفوتك الكروسون المعجون بجبن الماعز والأعشاب وستفوتك دعابات الصباح الباكر من ندل المقهى.

ماء عادي؟ معلّب؟ أم غازي؟

في نيويورك يمكنك شرب الماء بأي كمية تريد: مجاناً. لكن سيتعين عليك تحديد ما إذا كان هذا الماء عادي – من الصنبور- أو معلب أو غازي وهذا سيكلفك مبلغاً لا بأس به. المرة الأولى التي سألني بها أحد الندل -العام الماضي- وقال: Still water؟ ترجمتها حرفياً وتخيلت ماء راكد ملوث وترددت حتى طلبت التوضيح واخبرني بأنّ الماء العادي من الصنبور مجاني، وأي تفضيلات أخرى ستدفعين عنها. في السوبرماركت أيضاً أسعار المياه متفاوتة، علبة المياه المعدنية -قبل الضريبة- وبسعة لتر قيمتها حوالي ٩ ريالات! لكن العطش جبّار. لذلك أصبحنا نشرب الكمية الأكبر من المياه خلال زيارة المقاهي والمطاعم، فكرة ذكية لكن لا تقتل نفسك بالتسمم المائي بحجة الماء المجاني. في المقاهي يقدمون لك الماء مجاناً وحتى في أكثرها جشعاً ستحصل على الماء مع الثلج مجاناً. اذا كان من الصنبور مباشرة. في إحدى السهرات مع الصديقات تكلمن عن قصص المياه في نيويورك وبعض الإشاعات والأساطير حولها. هناك قصص عن ربيان مجهريّ وعن مواد كيميائية. لكنني لا أجد نيويوركياً واحداً توقف عن شرب الماء العادي على الأقل خلال جلوسي في المطاعم ومشاهدة من حولي. وعلى كلّ حال قول: بسم الله. قبل شربها منحني السكينة والراحة.

بقشيش غير الزامي؟ لا اعتقد!

في هذه الرحلة تجاوزت جهلي السابق بعدم حمل دولارات مفرقة لتقديمها كبقشيش لكل من يطلبه -أو لا يحتاج لطلبه- أنت هنا مطالب به بصورة غير رسمية، في التاكسي يحدد لك ثلاث خيارات من البقشيش وتختار إحداها وتدفع مع مبلغ الرحلة. وفي المطعم بعد تقديم الفاتورة تكافئ الموظف ببقشيش جيد تحدده نسب معينه من مبلغ طعامك ككل. منى هذا العام لم تكن معنا خلال رحلتنا وكانت هي المنقذة بحكم دراستها وعيشها في أمريكا. هذه المرة اعتمدت على نفسي من ملء استمارة الوصول في الطائرة إلى استجواب موظف الجوازات وحتى احتساب البقشيش اللازم. لكنّها وبعد زيارة مكوكية قصيرة لنيويورك أعطتني خلاصة التجربة بقولها: ضعي قيمة طبق من أطباق وجبتك كبقشيش وهكذا لن تضطري لاحتساب نسب وجمع وطرح النتائج. هناك من الندل من يجبرك على دفع قيمة طبقين بسبب أدائه الجيد وبشاشته والاحاديث الصغيرة التي يديرها معك بانتظار طعامك. وآخر تود لو تسكب ما تبقى في طبقك على رأسه بسبب امتعاضه وتصرفاته الغير مبررة. عندما وصلت للفندق لم املك مبلغاً مناسباً للبقشيش وانتهى بي الأمر إلى دفع بقشيش كبير نسبياً، اعتقد أن الموظف حدث زملاءه بكنزه الصغير، وأصبحوا يتسابقون على خدمتي حتى نهاية الرحلة.

القادم؟

هذه تدوينة افتتاحية لسلسلة قصيرة أو طويلة بحسب ما تحتاجه المواضيع سأستمر بالكتابة عن ما شاهدته وعايشته خلال ١٤ يوماً. عدت بأقل كمية من المقتنيات المادية، اقتنيت بروحي وعينيّ صور وحكايات، ووعدت نفسي بتغيير شامل، تركت هيفا غريبة هناك على شاطئ المحيط الأطلسي وعدتُ خفيفة ومتجددة.

سأتحدث في الغد عن جغرافيا المترو، والمـظلات انتظروني.