نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الأولى)

nyc1-1

اعتدلت في كرسيي بعد مشهد وداع بلاستيكي مع موظفي الفندق الذي سكنته لأسبوعين، كنتُ وأختي حديث الصباح في المقهى وكل مساء عندما نعبر الباب ويُطرح علينا السؤال: كم مدة بقاؤكم معنا؟ وأجيب كل مرة: أسبوعين دون سؤال مقابل، لماذا؟

السيارة كانت فاخرة في نظري لأنها ستعيدني إلى بيتي، ومزعجة وبرودتها غير مضبوطة لأنها ستحملني خارج منهاتن. هذا التناقض الذي تعلمت التعايش معه كلّ يوم وأنا هناك. تغمرني فرحة شديدة لأنني هناك، ثم اشتاق لعائلتي، ثم أفكر في الهرب والبقاء هنا وعلى هذا المنوال، أفكار تسبب المغص والصداع والبهجة.

سائق السيارة لاتيني من ملامحة ومن اختياره الموسيقي كذلك. غيّر الموجة فور انطلاقنا، الرحلة بين مكان السكن والمطار من ٤٥ دقيقة إلى ساعة تقريباً. فرصة سانحة لاستعادة الأحداث وتشغيل شريط المشاهد السينمائي في رأسي. لكن الشوارع الراكضة والمطر على الأرصفة، وفكرة توديع نيويورك منعتني من ذلك. سألته عن طراز سيارته وسنة صنعها ولونها كذلك. أسئلة لا أطرحها في العادة على أخي، ولا تشغلني كثيراً فكرة سنة صنع المركبة بقدر سلامتها، وجودة تكييفها. نعود للصمت من جديد وأفكر في الساعات اللاحقة والرحلة الطويلة ورفيقة كرسيي التي قررت البقاء خلفي. لستُ جيدة مع الصمت، علاقتنا غرائبية، قد أتحدث مع نفسي لتقطيع الرحلة، وأتمنى وأدعو برجاء ألا يجلس إلى جانبي أحد. وفكرت أيضاً في هذه التدوينة -أو التدوينات بالضرورة- التي سأحدثكم فيها عن رحلتي الخاصة هذه المرة وعن التجارب والمذاقات الجديدة التي التقيت بها في نيويورك.

صحيح كانت السيارة كامري وسنة تصنيعها ٢٠١٢م مع نافذة سقف ولون أسود. لا أظنّ أن السائق اهتم كثيراً وجاوب أسئلتي أوتوماتيكياً. كان مشغولاً بالغناء مع الراديو، ولعن الازدحام وإثارة قلقي كل مرة يجتاز نفقاً، أتخيل النهر بكلّ ثقله فوقنا، واستعجل الطريق، أريد إدارة العجلات بسرعة حتى نخرج.

ولكن، هذا ليس مكان الحديث عن عقدي الدفينة!

هذه الرحلة كانت خاصة لأنني شاركت أختي حضور أسبوع الموضة لربيع وصيف ٢٠١٥م. لم اجتز درجات المركز لدخول العروض لكنني انتهزت الفرصة لتصوير المارة المتأنقين والذين يظنون أنهم كذلك. ملابس بكل الألوان وخطوات رشيقة، متثاقلة، متململة وتقفز من حماسها. ثم فكّرت في زاوية خاصة لالتقاط الصور، حيث أنني فشلت كثيراً في التقاط صور للمارة وهم يبتسمون أو ينظرون للعدسة. تحولت فجأة للأقدام، نعم الأقدام. وأصبحت محل تركيزي التامّ، أقف في حذائي المريح في نقطة ضوء مناسبة والتقط خطواتهم واحبسها. لم تعد تهمني الابتسامة، تعلمت يوماً بعد يوم ومع التقاط المزيد من الصور أنني يمكن وببساطة صناعة قصص كاملة من خطوة امرأة -أو رجل- . من مقاس الحذاء والتصاقه بالقدم، من الخدوش الظاهرة على الكاحل، أو الوشوم. من اختيار اللون المكمل للأجواء أو المناقض لها. “أقدام نيويوركية” فكرت هكذا، العام الماضي كانت الأبواب والآن الأحذية والأقدام.

في الرحلة كنت مساعدة خاصة لأختي موضي خلال تغطية أسبوع الموضة عبر مجلتها الإلكترونية، وتقمصت بالتالي لفترة وجيزة دور آن هاثاواي في فيلم “الشيطان يرتدي برادا”، الذين شاهدوا الفيلم سيتذكرون جيداً مهمّات أندي -آن هاثاواي-، تجهيز القهوة صباحاً، كي الملابس والركض الكثير من الركض والتذكير والدعم المعنوي طبعاً. لم أكن افعل ذلك على مضض. كانت تجربة ممتعة تعلمت منها الكثير، وقربتني من أختي، يقولون أنك تعرف الإنسان جيداً في السفر، وأشهد أنني فعلت!

لكن حتى لا استطرد كثيراً، وأنا ملكة الاستطراد ووالدي الملك، قلت بأنني سأهديه كتاباً ذات يوم وسأكتب : إلى ملك الاستطراد، والدي.

الفندق الحلم.

انتظرت سبتمبر طويلاً، ولعدة أسباب كادت هذه الرحلة ألا تكون ولكنها حدثت فالحمد لله. الفندق الذي سكنته كان الوصول إليه بلحظة سحرية، بعد أن انتهيت من حجز آخر قبل الرحلة بخمسة شهور تقريباً. كنت أتصفح حساباتي المفضلة على Instagram لأجد أحدها يعرض صورة لمقهى مميز في مدينة شيكاغو، بحثت أكثر عن المكان وقهوته وتخيلت رائحتها ومذاقها وازداد حماسي ثم بحثت عن فرع للمقهى في نيويورك. الفكرة كانت في زيارة هذا المقهى إن أمكن وشرب القهوة وشراءها كذلك. لكن الفرع الذي وجدته كان يقع بداخل فندق في تشيلسي افتتح في خريف ٢٠١٣م. الفندق له تاريخ طويل بعمر نيويورك القديمة، ومبناه لم يتغير كثيراً. يتكون من خمسة أدوار و٦٠ غرفة فقط، صممت كل منها وجُهزت بأثاث مختلف. المبنى الذي بني في منتصف القرن التاسع عشر كان مدرسة دينية وسكن لطلابها. أما قطعة الأرض التي بني عليها فكانت ضمن مزارع التفاح الشهيرة في القرن الثامن عشر، والتي يعتقد بأنها التي منحت اسم “التفاحة الكبيرة” لنيويورك. يقع الفندق في قلب تشيلسي الفنّي النابض بالناس والحكايات. باحاته على طراز فرنسي عتيق ومدخله وقاعاته كذلك. ستدهشكم مساحة الغرفة مقارنة بالنمط المعتاد في فنادق نيويورك والتي تتبع سلاسل عالمية. بعد جولة لعدة ساعات في الصور وقراءة مراجعات الزوار توكلت على الله وحجزت، مع اختلاف بسيط في السعر مع فندقي السابق -الذي وجدت صور مفزعة لحشرات تجوب غرفة لاحقاً- قررت اعتماد الــHigh Line Hotel مسكناً لرحلة نيويورك وتابعت الاستمتاع بحماس انتظار الوصول. كانت المراجعات تقول أنك ستنام على أكثر سرر العالم راحة وسترغب بشدة ألا تستيقظ! أعرف بأنّ مراتب الفنادق لها سحرها الخاصّ الذي لا يقاوم لكنني شككت قليلاً في المديح المبالغ به. والآن أقول لكم: أنا آسفة، كرهت سريري ومرتبته بعد عودتي. كانت ليلتنا الأولى في نيويورك مثل حلم. وأكثر. وجدنا مطعماً إيطاليا قرب الفندق، وصيدلية وسوبرماركت، صراف آلي، مكتبة 192 المصنفة من أفضل مكتبات نيويورك -خبر جيد وسيء للميزانية في نفس الوقت- هناك محطات مترو قريبة، ومخابز، ومواقع إفطار وغداء، والأكثر من هذا كلّه عروض أزياء تقام في مكان السكن ولا تحتاج موضي إلى أي مواصلات حينها. فقط ترتدي ملابسها وتحضر، كنا نلقي النكات ونقول: يمكن الحضور برداء النوم إن أردت فالمكان قريب.

هل تشمّ ما أشمّه؟

في الحديث عن الفندق نسيت الحديث عن المقهى، أو آثرت الانتظار للحديث هنا. في الصباح الأول خرجت لشراء أكواب القهوة، وما إن فُتح باب المصعد حتى داهمتني الرائحة، شعرت بتسارع في نبضي، وكأنني عدت إلى البيت، أو ذهبت إلى جنة القهوة! هبطت مسرعة، وبدأت حيرتي، وتذكرت بأننا قلنا سنجرب كلّ مشروبات القائمة خلال فترة السكن. لم نشرب ربعها. لكننا شربنا وكانت قهوة Intelligentsia زاد الكافيين اليومي. الندل يتغيرون مع ساعات اليوم لكنني تعرفت عليهم جميعاً، واصبحنا شيئا فشيئا نتبادل الأحاديث عن الأيام والاهتمامات وعن وطني، وخوفي من الكلاب التي وجدت في هذا الفندق منزلاً لها. فالفندق يسمح باستضافة حيوانات ساكنيه الأليفة ويخصص لهم مكانا في الغرف وفي الباحات وماء وطعام وغيره. عبرت عن اندهاشي من رائحة القهوة التي صعدت للطابق الرابع فأجابت إحدى النادلات في صباحي الأول بأنّها لا تشم شيئاً وأنها اعتادت هذه الرائحة حتى لم تعد تؤثر بها. في المقهى يعدون القهوة بالتقطير، والكبس، وقليلا بالماكينة التقليدية، أياديهم خفيفة، وقهوتهم كثيفة وفتاكة.

على جانب آخر من المقهى أطباق مغطاة بالزجاج يعرض فيها كل يوم مخبوزات طازجة من مخابز محلية ومعامل لصنع البسكويت، وكل شيء ينفذ في وقت محدد. اذا تأخرت عن السابعة صباحاً سيفوتك الكروسون المعجون بجبن الماعز والأعشاب وستفوتك دعابات الصباح الباكر من ندل المقهى.

ماء عادي؟ معلّب؟ أم غازي؟

في نيويورك يمكنك شرب الماء بأي كمية تريد: مجاناً. لكن سيتعين عليك تحديد ما إذا كان هذا الماء عادي – من الصنبور- أو معلب أو غازي وهذا سيكلفك مبلغاً لا بأس به. المرة الأولى التي سألني بها أحد الندل -العام الماضي- وقال: Still water؟ ترجمتها حرفياً وتخيلت ماء راكد ملوث وترددت حتى طلبت التوضيح واخبرني بأنّ الماء العادي من الصنبور مجاني، وأي تفضيلات أخرى ستدفعين عنها. في السوبرماركت أيضاً أسعار المياه متفاوتة، علبة المياه المعدنية -قبل الضريبة- وبسعة لتر قيمتها حوالي ٩ ريالات! لكن العطش جبّار. لذلك أصبحنا نشرب الكمية الأكبر من المياه خلال زيارة المقاهي والمطاعم، فكرة ذكية لكن لا تقتل نفسك بالتسمم المائي بحجة الماء المجاني. في المقاهي يقدمون لك الماء مجاناً وحتى في أكثرها جشعاً ستحصل على الماء مع الثلج مجاناً. اذا كان من الصنبور مباشرة. في إحدى السهرات مع الصديقات تكلمن عن قصص المياه في نيويورك وبعض الإشاعات والأساطير حولها. هناك قصص عن ربيان مجهريّ وعن مواد كيميائية. لكنني لا أجد نيويوركياً واحداً توقف عن شرب الماء العادي على الأقل خلال جلوسي في المطاعم ومشاهدة من حولي. وعلى كلّ حال قول: بسم الله. قبل شربها منحني السكينة والراحة.

بقشيش غير الزامي؟ لا اعتقد!

في هذه الرحلة تجاوزت جهلي السابق بعدم حمل دولارات مفرقة لتقديمها كبقشيش لكل من يطلبه -أو لا يحتاج لطلبه- أنت هنا مطالب به بصورة غير رسمية، في التاكسي يحدد لك ثلاث خيارات من البقشيش وتختار إحداها وتدفع مع مبلغ الرحلة. وفي المطعم بعد تقديم الفاتورة تكافئ الموظف ببقشيش جيد تحدده نسب معينه من مبلغ طعامك ككل. منى هذا العام لم تكن معنا خلال رحلتنا وكانت هي المنقذة بحكم دراستها وعيشها في أمريكا. هذه المرة اعتمدت على نفسي من ملء استمارة الوصول في الطائرة إلى استجواب موظف الجوازات وحتى احتساب البقشيش اللازم. لكنّها وبعد زيارة مكوكية قصيرة لنيويورك أعطتني خلاصة التجربة بقولها: ضعي قيمة طبق من أطباق وجبتك كبقشيش وهكذا لن تضطري لاحتساب نسب وجمع وطرح النتائج. هناك من الندل من يجبرك على دفع قيمة طبقين بسبب أدائه الجيد وبشاشته والاحاديث الصغيرة التي يديرها معك بانتظار طعامك. وآخر تود لو تسكب ما تبقى في طبقك على رأسه بسبب امتعاضه وتصرفاته الغير مبررة. عندما وصلت للفندق لم املك مبلغاً مناسباً للبقشيش وانتهى بي الأمر إلى دفع بقشيش كبير نسبياً، اعتقد أن الموظف حدث زملاءه بكنزه الصغير، وأصبحوا يتسابقون على خدمتي حتى نهاية الرحلة.

القادم؟

هذه تدوينة افتتاحية لسلسلة قصيرة أو طويلة بحسب ما تحتاجه المواضيع سأستمر بالكتابة عن ما شاهدته وعايشته خلال ١٤ يوماً. عدت بأقل كمية من المقتنيات المادية، اقتنيت بروحي وعينيّ صور وحكايات، ووعدت نفسي بتغيير شامل، تركت هيفا غريبة هناك على شاطئ المحيط الأطلسي وعدتُ خفيفة ومتجددة.

سأتحدث في الغد عن جغرافيا المترو، والمـظلات انتظروني.

6 تعليقات على “نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الأولى)”

  1. جميل السرد و القفز من تله لأخرى يا هيفاء، دائماً منتظرون.

    بالمناسبه أفكر بأنشاء مدونة لتدوين بعض من الامور ما الذي تنصحيني به، ماهي المواقع الأفضل لكي أنشئ بها مدونة؟

  2. حسنا إذن أنا تشكلت عندي صورة لك. كل ما أتيت أزور مدونتي الناشئة أمر على مدونتك لا لشيء فقط لتلهمني.
    يقابلني مختصر موضوع يومياتك الرمضانية الأخيرة في صفحة بحث قوقل. وأقول في نفسي من هذه الكسولة؟

    الآن لم تعودي كذلك مدونتك هذه نسفت كل أحكامي. علي الأعتراف الآن أنتي ميريل ستريب من فيلم جولي أند جولي وأنا إيمي آدامز. لكن لازلت لا أعرف وصفاتك الشهية

  3. لغتك في الوصف مُدهشة وجذابة
    حتى وجدت نفسي مندفعة في الإنغماس في خطوط
    حديثك .. إنها نيويورك الحياة
    وأنتِ زاهية السرد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.