الحلقة الرابعة: هاروكي موراكامي


عندما يكتب هاروكي موراكامي رواية يستيقظ في الرابعة صباحاً ويعمل لخمس أو ستّ ساعات متواصلة. بعد الظهر يخرج للركض أو السباحة – أو كلاهما-، ينهي أعماله، يقرأ ويستمع للموسيقى. أما موعد نومه اليومي فيحلّ في التاسعة ليلاً. “التزم بهذا الروتين يومياً بلا تنويع” يقول موراكامي في لقاء مع باريس ريفيو 2004م “التكرار نفسه يصبح شيئاً مهماً، نمط علاجي، أعالج نفسي لأصل إلى حالة ذهنية أعمق”. يرى موراكامي أنّ الحفاظ على هذا الروتين الناجح لا يتطلّب جهداً ذهنيا وحسب، بل جهدا بدنيا كذلك. القوة الجسدية لدى موراكامي مهمّة كأهمية الحسّ الفنّي.

في العام 1981م، العام الذي كانت فيه بداية موراكامي الكتابية الفعلية بعد سنوات من إدارة نادي للجاز في طوكيو، لاحظ هاروكي أنّ نمط حياته يساهم في زيادة الوزن. موراكامي يقضي الساعات جالساً، يشرب الكحول، ويدخن حوالي 60 سيجارة يومياً. قرر حينها تغيير عاداته كلياً فانتقل مع زوجته إلى الضواحي واقلع عن التدخين وخفف من شرب الكحول. أما برنامجه الغذائي فتحول إلى نظام غنيّ بالخضروات والأسماك وحافظ على هذه التغييرات لحوالي ربع قرن!

الشيء السلبي الوحيد الذي وجده موراكامي في هذا النظام أنّه لا يسمح بحياة اجتماعية نشطة. “ينزعج الكثير من الناس عندما ارفض دعواتهم بشكل متكرر” كتب موراكامي في مقالة نُشرت في 2008م. لكنّه اكتشف علاقة ضرورية جداً مع قرّائه “سيرحب القراء بأي أسلوب حياة اختاره إذا كنت سأضمن لهم أنّ كلّ عمل اكتبه سيكون أفضل من السابق. أوليست هذه مهمتي الأولى كروائي؟”.

الحلقة الثالثة: هنري ماتيس


“استمتع بكلّ شيء، لذلك لا أصاب بالضجر أبداً” هنري ماتيس متحدثاً مع أحد ضيوفه 1941م خلال جولة في محترفه بجنوب فرنسا. أخذ ماتيس ضيفه في جولة حول مكان عمله. أراه أقفاص الطيور الاستوائية ومحمية النباتات بثمار اليقطين الضخمة والتماثيل الصينية الصغيرة، ثمّ جلس يحدثه عن طقوسه اليومية.

“هل تفهم لمَ لا أشعر بالضجر أبداً؟ خلال خمسين عاماً لم أتوقف عن العمل ولو للحظة. من التاسعة صباحاً وحتى الظهر، أجلس للمرة الأولى لوجبة الغداء وأتبعها بقيلولة ثم أحمل فراشي الرّسم في الثانية مساءا من جديد وحتى الليل. لن تصدقني! أيام الآحاد أبحث عن عذر جديد لعارضاتي كي أقنعهنّ بالبقاء حتى انتهي من عملي، وأنها المرة الأخيرة التي أجبرهنّ فيها على البقاء. ثم ادفع لهنّ ضعف الأجرة المقررة وإذا وجدت فيهنّ المزيد من التململ وفقدان الصبر اعدهن بأنني سأمنحهن يوم عطلة خلال الأسبوع. “ولكن يا سيّد ماتيس” تقول إحداهنّ “لقد مضى على هذا الوعد شهور ولم نحصل أبداً على يوم العطلة المنتظر” يا للمسكينات! إنّهن لا يفهمن وعلى أية حال لن أضحي بيوم الأحد لأنهنّ يردن البقاء مع أحبائهنّ”

الحلقة الثانية: فريدريك شوبان


خلال علاقته بالروائية الفرنسية جورج ساند – كانت لوسيل دوبان تستخدم هذا الاسم الحركي-كان فريدريك شوبان يقضي غالبية الصيف في منزلها الريفي في “نوهانت” وسط فرنسا. كان يحبّ المدن ويصبح ضجراً مزاجياً في الريف، لكن قلة الانقطاعات والملهيات ساعدته في تأليفه الموسيقي هناك. في كثير من الأيام يستيقظ متأخراً ويتناول فطوره في الفراش، ثم ينصرف للتأليف. يتخلل وقته فاصل يقضيه في تعليم سولانج ابنة الروائية العزف على البيانو. عند السادسة مساءا يجتمع المنزل لتناول العشاء الذي يقدم عادة في الخارج، يتبعه الموسيقى والاحاديث والترفية. بعد كلّ ذلك يذهب شوبان للنوم وتذهب ساند لطاولة الكتابة. في المنزل الريفي كانت مسؤوليات شوبان معدودة إلا أنّ عملية التأليف لم تكن بالمهمة السهلة. كتبت ساند عن عاداته:

“كانت إبداعاته عفوية وعجائبية. يجدها بلا بحث أو تتبع، تزوره فجأة. كاملة ورفيعة يغنّيها في رأسه وهو سائر فيفقد صبره ليعود للبدء ويبدأ العمل المضني. كان عمله مجموعة من المحاولات والتجارب حتى يصل للثيمة التي سمعها في رأسه. يحلل كثيراً ويدقق ويبحث ويكتب مرّة بعد مرّة وفشله في الوصول للصيغة المثالية كان يقوده لليأس. يغلق باب غرفته لأيام، يبكي، يمشي، يكسر أقلامه، يكرر العزف مئات المرات، يكتب ويعدّل. ذات مرّة قضى ستة أسابيع على صفحة واحدة وكتبها أخيراً بنفس الصيغة التي بدأ بها.”

الحلقة الأولى: جين أوستن

لم تعش جين أوستن وحيدة أبداً، لذلك لم تتحقق لها أبسط مقوّمات العزلة التي رغبت بها. حتى بيتها الأخير الذي عاشت به في قرية تشاوتون عاشت فيه مع والدتها وأختها وصديقة مقرّبة، بالإضافة إلى ثلاثة من الخدم. في ذلك المنزل استقبلت العائلة الكثير من الزوار بلا موعد مسبق. لكن الانشغال والحياة المزدحمة لم يمنعا جين من الكتابة، فالفترة ما بين بدء استقرارها في تشاوتون –من 1809م- وموتها كانت فترة منتجة بشكل ملحوظ. راجعت فيها كتابتها الأولى لــ “عقل وعاطفة” و”كبرياء وتحامل” استعدادا للنشر. كما كتبت ثلاث روايات جديدة “مانسفيلد بارك” و”إيما” و”الإقناع”. جين أوستن كانت تكتب في غرفة جلوس العائلة، مُعرّضة لكل أنواع المقاطعة. حرصت أيضاً على ألا تلفت انتباه الخدم والزوار وأي شخص لا ينتمي لعائلتها المقربة لما كانت تقوم به من كتابة. لذلك كانت تكتب على قصاصات ورق صغيرة يسهل إخفاءها، وتدفع بها تحت مفرش الطاولة أو ورقة تجفيف الحبر عند دخول أي غريب.

بين الباب الرئيسي للمنزل ومكان الجلوس باب متأرجح يصدر صريراً كلّما فُتح، وكانت أوستن ترفض إصلاحه لأنّه كان يعطيها إعلاناً بدخول أي أحد إلى المكان.

تبدأ أوستن يومها باكراً قبل بقية أفراد العائلة، تعزف البيانو، وتعدّ الفطور للجميع في التاسعة صباحاً وهي مهمّتها الرئيسية في المنزل. ثمّ تجلس للكتابة برفقة والدتها وأختها وهم يخيطون، وعندما يقتحم ضيف المكان تتوقف عن الكتابة وتنضم إليهم في الخياطة.

وجبة العشاء هي الوجبة الرئيسية في منزل أوستن وتقدّم بين الثالثة والرابعة عصراً. وبعد العشاء تجلس العائلة لشرب الشاي ولعب الورق والاحاديث. ثم تقضي أوستن بقية ليلتها في القراءة الجهرية للروايات، وقد تقرأ بعض أعمالها التي لم تكتمل للعائلة. كانت عائلة جين تحترم عملها وأختها كاساندرا تساعدها في المنزل وتحمل عنها الكثير من الأعباء لتتفرغ هي للكتابة.

على أنها لم تحصل على الحرية والخصوصية التي حظيت بها الكاتبات المعاصرات، كانت جين أوستن محظوظة بالسكن في ذلك المنزل.