الفصل ٣٧: إعادة الإعمار

قضيت عدة دقائق صباح الأربعاء وأنا أحاول تذكر أي فرشاة أسنان تخصني؟ نسيت تمامًا ولوقت غير بسيط لون فرشاتي واحتجت للتأكد من أختي التي تشاركني غرفة الحمام. هذا النسيان المخيف يقابله عدة أسابيع عاصفة من ختام الأشياء، وبداياتها. خلال الأسابيع الماضية انهيت العمل على مشروع طويل المدى، توقعت الاستمرار فيه لكن خطة حياتي والتغيرات التي مررت بها حتمت التوقف وإعادة التفكير. كانت تجربة جميلة، وممتعة ولا أنكر: انقذت وضعي المالي. والآن تعود الأيام لمرونتها وانطلاقها. خلال الأسابيع الماضية احتفلت بعيدي السابع والثلاثين، كان يوم ممتع بصحبة الأحبة والأصدقاء واحتفلت به كما يجب. أيضًا ذهبت في رحلة قصيرة للندن بصحبة موضي أختي. كان الغرض من سفرها حضور ورش عمل إبداعية، وكنت الهاربة من كل شيء بحثًا عن سرير وثير، وأمطار تغسل روحي.

التدوينة أدناه مسودة طويلة بدأت العمل عليها قبل ثلاث أسابيع تقريبا، وكلما مررت بفكرة أضفتها حتى أصبحت مثل لحاف مرقع ومحبوب!

أردت العمل عليها في رحلتي، واكتشفت في الجو أنّ الملف الذي بدأته على جهازي في المنزل ولم أرفعه على الغيمة التي تحمل كل شيء. هذه المسودة التي قاومت قفل الجهاز المفاجئربما قُطعت الكهرباء في غيابي، قاومت النسيان والضجر والتردد الذي يزورني كلّ مرة أكتب فيها عن أي شيء. التردد الذي يبث الرعب في مسودة كتابي الأول وأطل عليه برجاء أن نتفق ويظهر للنور.

غرفة المكاتب

في طفولتي انتقلنا للعيش في منزل أرضي واسع. هذا البيت يزورني في الأحلام دائمًا، ربما لأننا قضينا فيه فترة طويلة مقارنة بالثمانية منازل الأخرى. وكل هذا فقط في الجبيل قبل انتقالنا للرياض. المنزل يتوسطه حديقة صغيرة يعلوها منوَر. حول المنور والحديقة تدور الغرف. من جهة صالة الجلوس، ومخزن صغير فيه ماكينة خياطة وأدوات وأقمشة بدأت منها والدتي مشروع حياتها. يجاوره غرفة والديّ الرئيسية، مخزن الألعاب، وثلاث غرف متجاورة كانت أكبر من احتياجنا بعد العيش في مساحات ضيقة. كانت غرفة نومنا مثل غرفة الدببة الثلاثة، أسرتنا وخزانة تكفينا أنا وأخواتي، والغرفة المجاورة في البدء كانت غرفة المكاتب! نعم هكذا كنا نسميها، فيها ثلاثة مكاتب لم تستخدم للواجبات المنزلية إلا مع حماس البدايات. لاحقًا أصبحت أرضية الصالة وقت الظهيرة مكان حل الواجبات، في المنتصف تمامًا أمام التلفزيون.

غرفة المكاتب كانت مسرح لأعمالنا الدرامية المرتجلة، وذات ليلة قررت الانفصال عن أخواتي والانتقال إليها بوضع اليد. فرشت الأرض واستخدمت أبجورة وتخيلت أنني كبيرة كفاية للعيش وحدي. كانت أطول ليلة أرق مرّت علي. أشجار الحديقة وظلالها أرعبني، أنفاس أخواتي التي افتقدتها كانت مثل تهويدة أغفو عليها. صباح اليوم التالي عدت للغرفة متحججة بصلابة الأرضية وعدم مناسبتها للنوم.

استمرت غرفة المكاتب طويلًا قبل أن تتحول لغرفة ضيوف. لكن هذا الشعور الذي يلازمني، الرغبة في مساحة للعمل، وأخرى للنوم. الحاجة التي جاءت من العمل المستقل والعودة لضيق المساحات مع انتقالنا لمدينة جديدة ومنزل مؤجر.

مع بداية السنة الماضية اقترحت موضي فكرة قد تساعد في تحسين مساحة عيشنا. انتقل لغرفتها وتكون مخصصة للنوم فقط، وتحويل غرفتي الأكبر إلى مساحة عمل وترفيه. الوضع السابق كان غرفة موضي الصغيرة جدًا، مع سرير وخزائن، وتلفزيون ضخم. نجتمع فيها للمشاهدة أو العمل على أجهزتنا المحمولة بينما غرفتي الأكبر نصف مكتب، ونصف مكتبة، ومساحة نوم وتخزين صغيرة ومساحات فارغة غير مستغلة. رفضت بشدة، والآن أحاول تذكر سبب رفضي ولم أجد غير الكسل للأسف. كنت في فوضى عارمة وأحببت أن أبقى فيها لأطول وقت ممكن. فالتمسك بحالة الفوضى المادية للغرفة، والأثاث المتراكم والأشياء كان يشغلني من فوضى نفسي. وهذا مريح.

خلال الشهور الماضية، وعندما تعاظمت حاجتنا للاسترخاء والعمل لساعات طويلة، بينما يرتاح أحدنا في غرفة أخرى. راجعت نفسي، ووافقت على الفكرة. نحتاج غرفة منظمة للعمل ومشاهدة التلفزيون في مساحة واسعة وليس على وسائد على الأرض. نحتاج أريكة مريحة للقراءة لساعات، واستقبال الصديقات الحميمات وأفراد العائلة بعيدا عن برودة مجلس الضيوف.

كان شهر رمضان هو الموعد المرتقب، لكن التأخير نقلنا للعيد، وسفري، والعودة للعمل والركض من جديد. حتى جاءت عطلة اليوم الوطني وقررنا أن تكون الموعد النهائي للانتقال. لم يكن لدي أي فكرة عن الخطة، هل ستكون جردة عظيمة؟ أو فقط نقل للأشياء بين ضفتين. لم تكن العطلة كافية بالتأكيد، لذلك بدأنا مبكرًا في جرد الأشياء في مكانها قبل نقلها. الملابس والكتب والذكريات وما بينها. لقد وصلت لمرحلة جديدة من العيش، ولو ركزت قليلًا ونظرت حولي ما هي حاجتي الأعظم الآن؟ مكان ممتع ومريح للجلوس. تبرعنا بالملابس والاكسسوارت، واقتنينا أريكة، وانتقلنا لنغفو ليلة الأحد في غرفة مشتركة جديدة.

ورشة عمل

قدمت بداية شهر أكتوبر ورشة عمل لأساسيات صناعة المحتوى الرقمي، وكانت أمتع من اسمها الطويل! هذه هي المرة الأولى التي أقدم فيها ورشة عمل شخصية بدون استضافة أي جهةوتحقق حضور ممتاز. قدمت الورشة على مدى ثلاثة أيام واستعرضت فيها محاور عدة. الحضور الذي قارب الثلاثين كان منعش وممتع. كل مشاركة لها قصة، لها مشروع، ولديها هدف نهائي ترغب بتحقيقه من خلال الورشة. جربت شيء جديد أيضًا، هو الواجبات المنزلية التي تعمل عليها المتدربات، وتساعدنا في فتح نقاشات في اليوم التالي. هذا الحضور والحماس دفعني للتفكير في نسخة لاحقة من الورشة، ربما متخصصة أكثر، أو موجهة لموضوع آخر انتبهت له من خلال الأحاديث.

كانت الورشة خير ختام لفصل طويل من العمل والركض، ومع أن تجهيزها لم يكن مرهق إلا أن فكرة العمل خلال النهار ومن ثم الوقوف لساعات للكلام كانت تمتص طاقتي لآخر قطرة.

ثلث مكتبة

بعد الانتهاء من ورشة العمل قررت بيع مجموعة كتب جردتها خلال عملية الانتقال العظيمة. عرضتها خلال عدة ساعات في يوم واحد وما تبقى ذهب للصديقات.

الجردة أتت على ثلث مكتبتي الحالية، والمجموعة كانت إما كتب انتهيت من قراءتها، أو لم أحبها، أو نسخ مكررة لكتب لدي. احتفظت بالكتب التي أحب إعادة زيارتها، وتلك التي تحمل إهداءات أو ملاحظات خاصة، وطبعًا مجموعة معرض الكتاب الأخير التي لم التهمها بعد. شكل الرفوف الخالية منعش، ولا أنكر أنه كان مغرٍ جدا شراء المزيد. والكتب التي وجدت بيوت جديدة، فكرت فيها قليلًا. مكتبتي الحالية حصيلة جردات متتالية منذ انتقالي للعيش في الرياض. أظنها لعنة المساحات المؤجرة والخيار الذي يلحّ عليك دائمًا: حتى تتسع الحياة للجديد، اطلق سراح القديم. التخفف من الأغراض المتنوعة والملابس والكتب هوّن علي قصة درامية قادمة.

هنري الأمريكي

أكثر أفراد عائلتي معاناة مع دراما السفر: أنا. لا أحد يعلم حقيقة ولا أنا ما السبب؟ هل يعمل عقلي بطريقة مختلفة خلال الرحلات؟ أو أن عواطفي مركزة ومتجهة بالكامل للبهجة والمشي والاكتشاف، وحساسيتي تجاه ما يحدث مضاعفة؟ لا أدري.

مايو الماضي وفي محطة الباص بنيويورك رفضت السائقة حمل حقائبي رفضًا تامًا، قبل حتى وزنها. اختارت أن الباص لا يتسع لي ولها. وبفضل دعائي وبكائي ساعدني مسؤول مصري كان متواجدًا حينها. وسافرت لأخوتي واحتجت لعدة أيام لأنسى الصدمة والهلع. نسيت أن لي في المدينة أصدقاء، وأن حسابي البنكي يمكنني من حجز غرفة فندق وربما تذكرة طائرة لبنسلفانيا. اختار عقلي الدراما أولًا. ومنذ ذلك الحين اعتدت البكاء في الأماكن العامة والانهيارات كلما واجهتني أي مشكلة، وهذا غير مناسب لعمري، وحجمي!

في اكتوبر كانت رحلتي التالية لنيويورك، يوم الوصول خرجت من الطائرة ونسيت هاتفي السعودي ورائي. حسابي البنكي ومراسلات العمل، وذكرياتي فيه. وبعد ساعة كاملة من الوصول للفندق اكتشفت نسيانه وعدت للمطار بعينين متورمة.

وفي ديسمبر وصلت لندن ولم تصل حقائبي وبقيت ورائي في الرياض، وفي يوم عودتي بعد رحلة ممتعة واستلام حقائبي طبعًاتم إلغاء حجزي وحجز أختي. بكاء ودراما وكمان حزين، وتمت معالجة المشكلة وعدنا سالمين.

قبل أسبوعين وصلت لندن وركزت جهدي كله قبل وخلال وبعد الوصول للانتباه لكل شيء. حزمت حقائبي بوزن مناسب يكفي لتسوق العودة والمباهج التي سأحملها معي للبيت. تأكدت من حجز كل شيء، دفعت كل شيء. وأمام الحزام المتحرك انتظرنا أنا وأختي التقاط حقائبنا بخفة. وصلت حقائبها وبقيت انتظر، وصلت حقيبتي الأولى وحملها والتالية كذلك. دفعنا العربات ببهجة ونظرت لمكتب الأمتعة المفقودة، عبست وتمنيت ألا أقف هناك مرة أخرى مع الحرص على أن تكون أمنية مسموعة ورددت أختي: آمين! في الطريق للفندق التقطنا صور اليوم المطير، ضحكنا، نظرت للمدينة بسعادة. وصلنا لفندق اكتشفناه وسيصبح وجهة دائمة المزيد عنه في تدوينة قادمة-. أخبرتنا الموظفة المسؤولة أن الغرفة لن تجهز قبل أربع ساعات كما هو معتاد. وقضينا الظهيرة في شرب القهوة، والعمل، وتناول الغداء. عندما جهزت الغرفة دخلنا واقترحت على موضي أن ننتهي من ترتيب الحقائب وتفريغ الأغراض قبل القيلولة لنبدأ رحلتنا. فتحت الحقيبة لتنتثر محتوياتها أمامي مثل خزانة ألعاب. غضبت، لأنني أذكر جيدًا كيف أقفلت الحقيبة وكيف كانت مرتبة بعناية. في تلك اللحظة بدأت محتويات الحقيبة تتضح، قمصان زرقاء، قمصان مخططة، مربعات صغيرة، وفي يدي حقيبة أدوات حلاقة، ورائحة عطر رجالي رخيص وعرق! موضي كانت تشاهد المنظر لكن الدهشة عقدت لسانها حتى صرخت: هذه ليست حقيبتي! واكتشفت أنّني حملت حقيبة بالخطأ، وقبل أن تستعجلوا للومي: نعم كنت مغيبة ولم اقرأ البطاقة عليها، فقط شددتها نحوي لأنها مطابقة لحقيبتي النادرة ليست نادرة جدًا بعد الآن.

الآن أنا في دوامة من الأنفاس المتسارعة وشلل الحركة من الصدمة. بحثت عن حافة السرير لأجلس قليلًا وأفكر. لمن هذه الحقيبة؟ طبعا ليست لي. قرأت البطاقة تحمل اسم هنري الذي نسيت عائلته الآن. هنري مسافر معي على نفس الرحلة وحقيبته تشبه حقيبة شخص فوضوي أو هارب. اقفلتها بصمت. وبعد اتصالات مع مسؤولي الخطوط، قررت الذهاب بنفسي للمطار وتسليمها عسى أن يكون تنبه للخطأ وأعاد حقيبتي بالمقابل.

في هذه اللحظة كانت الساعة تشير للثالثة عصرًا، لم أنم منذ الليلة الماضية، والرحلة كانت مزعجة. الشيء الوحيد الجيد أني تناولت وجبة الغداء، وضحكت واستقبلت الرحلة بحماس. الشيء الثاني الكلمات التي رددتها موضي على سمعي وهدأت من روعي، إنها مجرد أشياء، ليست ملابسك المفضلة حتى! ويمكنك استبدال كل محتوياتها.

خرجت من الفندق للمطار وبكيت، حاولت التوقف لكن لم استطع. أنا في صراع حقيقي الآن، تقولين لا تهمك المقتنيات المادية كثيرًا لكنك تبكين؟ كيف؟ سائق التاكسي باكستاني تأثر من بكائي ومن قصتي وأصرّ أن الحقيبة ستصل. فقط رددي: لا حول ولا قوة إلا بالله. وصلت المطار، وسلمت الحقيبة على نفس المكتب الذي دعوت ألا أعود إليه، وانفجرت بالبكاء عندما وقفت هناك من جديد وأخبرني الموظف أن هنري أمريكي، ولا يوجد له بريد إلكتروني أو هاتف ويبدو أنه مسافر على رحلة مواصلة. دراما!

كانت الكلمات تتشابك على الورق، واللغة الإنجليزية التي أجيدها أصبحت مثل رموز مجمعة وغير مفهومة. سألته بلطف: أرجوك أنا أجيد القراءة، لكن الآن لا استطيع. هل يمكنك قراءة المكتوب على مسمعي لأتمكن من ملء الاستمارة؟ ساعدني وانتهيت وبدأ بإلقاء النكات: تخيلي زوجة هنري وهو يفتح الحقيبة لتجد ملابس نسائية بين أغراضه. تجاوزت مرحلة البكاء في تلك اللحظة وقررت البدء برحلتي، سواء عادت الحقيبة أو تخلص منها هنري الغاضب في شارع بعيد. بدأت بفرشاة أسنان وأدوات عناية شخصية وخرجت لمواقف التاكسي. قابلني مايك البشوش ليسألني عن وجهتي وانطلق إليها، اكتشف بعد عدة أمتار أنني لا أحمل حقائب سفر. سألني كيف؟ وبدأت القصة. مايك من جنوب لندن وأصله جامايكي، كان السبب في ضحك متواصل ل٤٥ دقيقة، ومزاج جديد وحماس أكبر للندن.

قلت له أن والدتي وموضي ينصحون بتقسيم الملابس بين الحقائب لتكن مستعدًا لأي شيء، وطبقت النصيحة لذلك لست بحاجة للكثير. وزاد من عنده: اشتري حقيبة لها لون صارخ. مضحكة لا أحد يريد الاقتراب منها أو حملها من الحزام المتحرك. والنصيحة الثانية التي منعتني غفلتي عنها: قراءة البطاقة والاسم ومطابقتها مع التذكرة.

الخبر الجيد، الحقيبة وصلت بعد ٤٨ ساعة تقريبًا، ووصلت لباب الغرفة. ومايك أصبح سائق العودة المعتمد وحصلنا على صفقة توصيل مناسبة لميزانية نهاية الرحلة.

رواية هذه القصة فتح شهيتي لتدوينة قادمة، أحدثكم فيها عن أيامي الملونة في لندن.

.

.

.

4 تعليقات على “الفصل ٣٧: إعادة الإعمار”

  1. فوضى البدايات .. غرفة المكاتب .. الضجيج حتى ينتظم هديره في أُذنك .. دوافع و معنى الحياة.

    الحياة الصاخبه اللي تحدَّت قُدرتك و رغبتك و دعَتك و كسلك و أثقلتكَ همّاً تنوء به الجبال .. أو منحتكَ مرةً فرحاً لـ فرطِ شعوركَ به انهمرت أدمعك .. هِيَ ما يصنعك .. هي ما أنت اليوم.

    الحياة الهادئة المنتظمة طويلاً .. لا يُعول على مآلاتها ، نترقب لندن الملونه.

  2. آحب التدوينات اللي كيذا تدخل القلب من اوسع ابوابه و بالنسبة لقصص الشنط ، كنت ماسكة قلبي و انا اقرا المواقف. صراحة مواقف صعبة

  3. شكرًا لكِ هيفاء وأسعدكِ الله لقد حزنت ثم ضكحت كثيرًا وعشت وكأني أنا وأرجوا من الله أن لاتضيع حقائب هيفاء مرة أخرى 🙂 سعيييدة جدًا بهذه المقالة وانتظر جديدك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.