الربع الثاني

بعد يومين من الآن ينتهي الربع الثاني من السنة، وبالنسبة لي شخصيًا ستة أشهر كاملة مضت وأنا بنصف وعي! ومع أنّ الحياة تعود تدريجيًا لما كانت عليه قبل أن تغمرنا عاصفة الجائحة، وتغمر العالم بأكمله. إلا أنني أقولها بصراحة: لا أشعر أنني بخير.

ممتنة للصحة، والأمان، والعمل الذي يوقظني كلّ يوم، ممتنة لكل الأشياء التي أذكرها ولا أذكرها. لكنّ شعورًا بانعدام الجدوى والتراخي يحيط بي منذ مطلع الشهر. ألقيت باللوم على منازل القمر، وهرموناتي وتقلباتها الشهرية، والتركيز الشديد في العمل وتعلم لغة جديدة ثلاثة أيام في الأسبوع. لكن لا، لو كانت هذه كلها السبب لاستطعت وضع يدي على المشكلة. استيقظ في الصباح وعزيمتي صفر، أودّ لو كنت أختي التي تنتظر تسجيل الجامعة، أو طفل الجيران الذي يعبر عن كل شيء بالبكاء ورفس الأرض وتلبّى كل رغباته. أود لو بقيت ساكنة اتأمل السقف حتى أصل لأساس مشاكلي وضعفي. لكنني استيقظ واعبر الغرفة للباب وتبدأ حياة الروبوت. اسمع بودكاست Before Breakfast مع لورا فاندركام في محاولة لإشعال حماسي لليوم. أرتب فراشي وأثني اللحاف بزاوية مضبوطة، أضرب الوسائد وأعود للسرحان من جديد: هشة وباردة تنتظر عودتيأطحن القهوة، أغلي الماء، أحمل طبق الفطور والكوب وأصعد الدرج. الشيء الذي يلفت انتباهي شاشة الأسهم أمام والدي، يوم خضراء ويوم حمراء. جلسته هي نفسه، وتركيزه ونظارته، وامتعاضه، لكن شيئا ما يختلف كل يوم. أعمل بين العاشرة والثانية، آخذ استراحة، أعدّ غدائي واستمتع عندما تنتصر وصفتي وتحوز على إعجاب حصة فنأكل سويةفي أيّام ينتصر الوعي لأجرب أشياء مختلفة، أخرج لزيارة ربى، أو السوبرماركت، وأعود لغرفتي من جديد. تصلني باقة ورد هدية من صديقة أخرى والتقط لها الصور من كافة الزوايا. احتفل بها قليلًا ثمّ أعود لحالة النظر في الفراغكتاب ممتع على طاولة بجوار السرير لكنني لم أتمكن من اتمامه، وأوجّه لنفسي كل يوم نفس الأسئلة: حسنًا، إذا كان هذا ضجر كيف يمكنك التغلب عليه؟ لكنه ليس كذلك. هذا ليس ضجر، هذا انعدام دوافع. ولن ينفع معه تغيير وقت العمل، أو البحث عن هوايات جديدة، أو تناول وجبة الغداء بدلًا وجبة الفطور مثلا.

لكن، من جهة أخرى قدرتي على المضي في الأيام تدهشني، هل هذه أنا أمّ ظلي؟ هل هذه أنا أو نسخة احتياطية مني؟

نهاية الأسبوع الماضي دعوت قريباتي لنلتقي للمرة الأولى منذ ثلاثة أشهر أو خمسةما عدت أذكر، وكان حماس الاستعداد لوصولهم وقود أسبوعي. أنجز العمل، وأفكر في التحلية التي سأقدمها، وطبق الأجبان، والمحمّرة التي أعدها بحب. غرقت في سعادة ممتدة لعدة ساعات، وما إن استيقظت في اليوم التالي وتأملت السقف من جديد، أدركت أنني عدت للدائرة نفسها. أعرف أن هذه الحالة تزورني كل عدة سنوات، عندما أفقد كل خططي وتضيع البوصلة. لكنها تحدث هذا العام، وتضاعف أثرها لأسباب كثيرة منها الجائحة والحجر الطويل. واليوم، والحياة تعود تدريجيًا لسابق عهدها، أمرّن نفسي من جديد على التواصل الاجتماعي، وأحاول التخفف من قلقي وهلع التواجد في أماكن عامة بعد أن دربت نفسي على البقاء وحيدةأكتب كلّ يوم، وأدون مشاعري لكن في أحيانٍ كثيرة أشعر بأن التأمل الهادئ والغفوة أفضل من اجترار أفكاري المؤذية. كتبت هذه التدوينة لأنفض عني هذا الانزعاج، وأمارس حيلة قديمة مع نفسي: كلما تحدثت عن الأشياء المزعجة غادرت أسرع.

أريد ألوان كثيرة، ووجوه أليفه والكثير من القصص والأحاديث، أريد دعوات فناجين قهوة لأن الحديث معي مختلف، أريد رسائل مكتوبة بحبّ واهتمام، أريد أن أكون أقلّ افتراضية، وأقرب لنفسي وللعالم.

.

.

.

26 تعليقا على “الربع الثاني”

  1. انتظر دائما تدريناتك بشغف ❤️
    ماأجمل مرحلة الوعي التي تعيشينها،
    جيد أن يفهم الانسان نفسه جيداً ويحلل المرحله التي يعيش بها، أظن أن أهم نقطة ان يصل الانسان للسبب .

  2. “أريد أن أكون أقلّ افتراضية” مستني بعمق ربما لأني يوميا اصحو وأنام وأنا أفكر فى هذا الجزء من حياتي تحديدا..محبة كبيرة هيفا

  3. عظيم عظيم عظيم 👏🏻
    طريقة كتابة احداث الصباح كل يوم ملفتة رغم انها اشبه بحالة ميتة إلا انها حيّة بك ، طحن القهوة ، حصة ، الاستماع الى البودكاست ، كل هذه تبقى اشياء “واو” عند آخرين

    مقال رهيب يحكي حال الفترة 💯

  4. شكرًا هيفاء، شكرًا جدًا 🌷
    التدوينة التي تجيء في وقتها المُفترض تمامًا كضمادة تربّت على القلب الذي حسب نفسه غريبًا بما يشعر.
    مرّت علي الفترة الأولى من الحجر وأنا أباهي -غالبًا بيني وبين نفسي- أنّ شيئًا لم يتغيّر علي، طبعي الانطوائي والبيتوتي لم يتأثر وكنت في هدوء جميل.
    لكن منذ شهر وإلى الآن؛ تتخبّطني أمواجٌ لا أجد لها تفسيرًا أبدًا، وأنا التي ظننتني عرفت شواطئي!
    في محاولة لركوبها.. قصصت شعري الذي طال لـ١٥ سنة ولم يكن عقلي ولا قلبي يسمحان بمسّه.
    أغيّر غرفتي، أقلبها فراغًا بعد شُغل.
    ولا يزال الإبهام والضيق يحتلّان داخلي.

    أظنّنا بالغنا حين ادّعينا بِدءًا أن القعود في البيت ومفارقة الوجوه لا تضرّنا. أنفسنا هشّة دون الآخرين، الروح منكمشة دون “صباح الخير”، ولو من عابر، دون أن يتجنّب الإقتراب شبرًا. أشتاق كلّ شيء، ولا أستطيع تحديد هذا الشيء حتى!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.