Je ne parle pas français

بعد انتهائي من التدوينة الماضية بدأت صحتي بالتحسن تدريجيًا. قال جسمي توقفي عن محاولة الهرب. استلقيت ليوم كامل في الفراش مع زيارات قصيرة للنافذة والعودة مجددًا للنوم. موجات حمى وسعال، وأدوية مضبوطة انضباط الساعة. قالت لي الموظفة في الصيدلية أن التعافي يحتاج لأسبوع كامل وقلت في نفسي الراحة والدعاء ستساعدني بالتأكيد! عادت أختي مساءً للغرفة وأخبرتها بأن متحف رودان ينتظرني صباح الغدّ. اشتريت التذكرة التي ذكرت بوضوح: سارية لمدة سنة كاملة! يعني في حال سقطت في هوة التعب ستكون التذكرة سارية لبقية الأسبوع.  

كان الجو غائمًا يومها وتذكرت أن الجمعة كانت المدينة تغتسل بالشمس وفاتني ذلك. وصلت المتحف قبل منتصف النهار والسماء تمطر ولم أتمكن من الوقوف في الحديقة وتأمل المنحوتات فيها. تجولت في الأروقة وتعرفت على أعمال رودان عن قرب. أتساءل دائمًا عن التدفق الإبداعي ومتى يصل إلى الذبول؟ لا شيء هنا يقول ذلك. دخلت غرفة كاملة خُصصت لنماذج الأيدي والأقدام. وأخرى للقطع غير المكتملة. اقترب من المنحوتات كثيرًا وأودّ لو أغافل الموظفين وأمرر يدي على انحناءات الأجساد المحفورة بعناية وجنون.

بينما شُغلت بالأعمال الداخلية تنبهت لخيوط الشمس تتسلل بهدوء داخل المكان. توقيت جيد لأنني انتهيت من زيارة كلّ الغرف. وركضت باتجاه الحديقة. الآن يمكنني رؤية الخريف. الأوراق بتدرجات الذهبي والبني والكراميل. والتماثيل مغطاة برذاذ المطر الأخير.

سأذكر هذه المشاهد في أحلامي الأسابيع القادمة. وسيساعدني هاتفي في التذكر.

تركت متحف رودان واتجهت في شارع طويل خالٍ من المارّة. اتحقق من الطريق كل عدة دقائق غير مصدقة كلّ هذا الهدوء والعزلة. صحيح اليوم الأحد. لكن لماذا لا يمتلئ الشارع بالناس؟ توقفت عند الأبواب الجميلة وهي سمة باريس التي لفتت انتباهي بالإضافة للمعمار الأنيق الذي حافظ على وجهها التاريخي. التقطت صورة لباب أخضر كبير، وبجانبه اسم الروائية النيويوركية التي أحبّ: إديث وارتون. تحت اسمها كُتبت عبارة: «قضيت سنوات حياتي في باريس بالكامل في شارع دي فارين – سنوات غنية، ومزدحمة وسعيدة».

شارع دي فارين هو الشارع الذي قطعته في مشيتي الهادئة. مصادفة جديدة أن التقي بزاوية سكنها كاتب مفضّل. هذه الرسائل التي لا تكف عن زيارتي: ما الذي تحبينه في هذه الحياة؟ وما الذي ترغبين قضاء بقية حياتك في فعله؟

أكملت السير وتوقفت في مقهى صغير للتزود بالكافيين. بدأت أشعر بالتعب من جديد، وعلى الرغم من جمال هذا اليوم ولطفه إلا أنني لم أرغب استنفاد طاقتي على النهوض في اليوم التالي.

أنا لا أتحدث الفرنسية!

لست ممن يفضلون تلقي النصائح والتوجيهات قبل الرحلات. أقبلها بلطف وأشكر أصحابها لكنها لا تشكل شريحة كبيرة من جدولي المقرر للزيارة. ولهذه القاعدة استثناءات عندما يرتبط الأمر بقريباتي أو الأصدقاء المقربين. هذه الرحلة جاءت كمفاجأة من حيث التوقيت والتسهيل لكنها كانت تطهى على نار هادئة لسنوات! لدي قائمة أمنيات طويلة أضفت عليها زيارة باريس لوحدي. ومن بين الخطط التي وضعتها: محاولة الحديث بالفرنسية ولو قليلًا. وبالفعل بدأت الدراسة خلال فترة الحجر الشامل الذي تزامن مع جائحة كورونا. بعد نهاية المقرر أصبحت أعرف الجمل الأساسية كالتحية والتعريف بنفسي. وأيضًا تمكنت من قراءة النصوص ونطق الكلمات بشكل صحيح.

المحادثة لم تكن ممتازة أبدًا.

من بين النصائح التي تلقيتها عندما صرحت برغبتي في زيارة باريس وفرنسا عمومًا: ننصحك بتغيير الوجهة! باريس سيئة، والأشخاص يعاملون السياح بفظاظة ولا يتكلمون غير الفرنسية.  ومن جهة أخرى سمعت: ستحبينها كثيرًا هذه المدينة تشبهك وستصبح وجهتك الدائمة.  هذا المزيج من الآراء المتطرفة مثير للاهتمام. لكنه لم يمنعني من المحاولة والتجربة.

قرأت تجارب المدونين الذين أحبهم ومن بينهم المصورة الأمريكية جيمي بيك، والمدونة ريبيكا بلوتنك، بالإضافة لساعات وساعات من فيديوهات جولات يوتوب التي يقوم بها محبو التسوق والطعام.

لخصت التجربة في التالي:

  • تعلّم مفردات وعبارات فرنسية بسيطة تبدأ بها الحديث مع الفرنسيين واعتذر بلطف عن عدم قدرتك المواصلة بالحديث بالفرنسية. وجدت تقريبا في كلّ مكان من يتحدث الإنجليزية والعربية كذلك. ويحبون هذا الجهد الذي تبذله في تحدث لغتهم وقد يتحول الموضوع لنكات ومرح.
  • يحب الفرنسيون القاء التحية دائمًا وقد يجدون في تجاهلك تحيتهم قلة ذوق. كلما دخلت مكان رفعت صوتي: بون جوغ! مع ابتسامة.
  • شاهدت امتعاض الموظفين في محلات الملابس من العملاء الصاخبين الذين يرمون بالأشياء في كلّ مكان أو يتحدثون بطريقة غير لائقة مع الموظفين والآخرين.
  • طلب المساعدة دائمًا سواء لمعرفة الاتجاهات أو التعرف على مكونات طبق في مطعم.
  • الناس بشوشين بشكل عام. وحتى خارج أماكن الخدمة كالمطاعم والمحلات والفندق كان المارة يبتسمون ويحيونني.
  • الانتباه دائمًا، أين تمشي؟ ومع من؟ وكيف ترتدي ملابسك. أنا مثلا تخففت من الحلي واكتفيت بأقراط ناعمة وسلسلة ارتديها دائمًا. لم أحاول المبالغة في الملابس أو التزين حتى لا ألفت الانتباه واندمجت تمامًا بكل ما هو حولي.
  • واجهت بعض الصعوبات في اختيار المطاعم. ربما لأنني لم أفضل زيارة المطاعم الشهيرة التي تتكرر في القوائم. أردت أطباق فرنسية أصلية بالإضافة لطعام دافئ بينما استعيد شهيتي بعد المرض. الفكرة هي البحث والاطلاع على قائمة الطعام قبل التوجه للمكان وترجمة المكونات إن أمكن.

في الجزء القادم والأخير من تدوينات باريس: زنابق مونيه، التسوق، والموناليزا.

.

.

.

.

.

3 تعليقات على “Je ne parle pas français”

  1. التجارب تُضفي الاختلافات في حياتنا لكي نتميز ، وتُحدد مسار ذوقنا
    فتتضح الشخصية
    آمل أنك اصبحتي بخير واتمنى لك في ما تبقى من رحلتك الاستمتاع
    في انتظار الجزء القادم

  2. مستمعتين -كالعادة- برحلاتكِ ولَفَتاتكِ هيفاء،
    وأحبّ أنّ لكِ دائمًا تجربةً خاصةً تسمحين لنفسكِ بخوضها مهما تكاثفت حولكِ الإنطباعات والآراء.
    بانتظار التدوينة القادمة، والرحلات القادمة على خيرٍ وسلامة ❤

  3. تدوينة جميلة أستاذة هيفاء

    كنت اتردد لوحدي على باريس كثيراً، بحكم اقامتي بقربها لفترة طويلة.. اذكر ان احدى الزميلات قالت لي كي تستمتع بباريس ، امش في الجانب المشمس من الشارع!
    من بعدها اكتشفت وجهاً آخر فعلاً لشوارعها وللحياة فيها!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.