الفصل ٣٧: إعادة الإعمار

قضيت عدة دقائق صباح الأربعاء وأنا أحاول تذكر أي فرشاة أسنان تخصني؟ نسيت تمامًا ولوقت غير بسيط لون فرشاتي واحتجت للتأكد من أختي التي تشاركني غرفة الحمام. هذا النسيان المخيف يقابله عدة أسابيع عاصفة من ختام الأشياء، وبداياتها. خلال الأسابيع الماضية انهيت العمل على مشروع طويل المدى، توقعت الاستمرار فيه لكن خطة حياتي والتغيرات التي مررت بها حتمت التوقف وإعادة التفكير. كانت تجربة جميلة، وممتعة ولا أنكر: انقذت وضعي المالي. والآن تعود الأيام لمرونتها وانطلاقها. خلال الأسابيع الماضية احتفلت بعيدي السابع والثلاثين، كان يوم ممتع بصحبة الأحبة والأصدقاء واحتفلت به كما يجب. أيضًا ذهبت في رحلة قصيرة للندن بصحبة موضي أختي. كان الغرض من سفرها حضور ورش عمل إبداعية، وكنت الهاربة من كل شيء بحثًا عن سرير وثير، وأمطار تغسل روحي.

التدوينة أدناه مسودة طويلة بدأت العمل عليها قبل ثلاث أسابيع تقريبا، وكلما مررت بفكرة أضفتها حتى أصبحت مثل لحاف مرقع ومحبوب!

أردت العمل عليها في رحلتي، واكتشفت في الجو أنّ الملف الذي بدأته على جهازي في المنزل ولم أرفعه على الغيمة التي تحمل كل شيء. هذه المسودة التي قاومت قفل الجهاز المفاجئربما قُطعت الكهرباء في غيابي، قاومت النسيان والضجر والتردد الذي يزورني كلّ مرة أكتب فيها عن أي شيء. التردد الذي يبث الرعب في مسودة كتابي الأول وأطل عليه برجاء أن نتفق ويظهر للنور.

غرفة المكاتب

في طفولتي انتقلنا للعيش في منزل أرضي واسع. هذا البيت يزورني في الأحلام دائمًا، ربما لأننا قضينا فيه فترة طويلة مقارنة بالثمانية منازل الأخرى. وكل هذا فقط في الجبيل قبل انتقالنا للرياض. المنزل يتوسطه حديقة صغيرة يعلوها منوَر. حول المنور والحديقة تدور الغرف. من جهة صالة الجلوس، ومخزن صغير فيه ماكينة خياطة وأدوات وأقمشة بدأت منها والدتي مشروع حياتها. يجاوره غرفة والديّ الرئيسية، مخزن الألعاب، وثلاث غرف متجاورة كانت أكبر من احتياجنا بعد العيش في مساحات ضيقة. كانت غرفة نومنا مثل غرفة الدببة الثلاثة، أسرتنا وخزانة تكفينا أنا وأخواتي، والغرفة المجاورة في البدء كانت غرفة المكاتب! نعم هكذا كنا نسميها، فيها ثلاثة مكاتب لم تستخدم للواجبات المنزلية إلا مع حماس البدايات. لاحقًا أصبحت أرضية الصالة وقت الظهيرة مكان حل الواجبات، في المنتصف تمامًا أمام التلفزيون.

غرفة المكاتب كانت مسرح لأعمالنا الدرامية المرتجلة، وذات ليلة قررت الانفصال عن أخواتي والانتقال إليها بوضع اليد. فرشت الأرض واستخدمت أبجورة وتخيلت أنني كبيرة كفاية للعيش وحدي. كانت أطول ليلة أرق مرّت علي. أشجار الحديقة وظلالها أرعبني، أنفاس أخواتي التي افتقدتها كانت مثل تهويدة أغفو عليها. صباح اليوم التالي عدت للغرفة متحججة بصلابة الأرضية وعدم مناسبتها للنوم.

استمرت غرفة المكاتب طويلًا قبل أن تتحول لغرفة ضيوف. لكن هذا الشعور الذي يلازمني، الرغبة في مساحة للعمل، وأخرى للنوم. الحاجة التي جاءت من العمل المستقل والعودة لضيق المساحات مع انتقالنا لمدينة جديدة ومنزل مؤجر.

مع بداية السنة الماضية اقترحت موضي فكرة قد تساعد في تحسين مساحة عيشنا. انتقل لغرفتها وتكون مخصصة للنوم فقط، وتحويل غرفتي الأكبر إلى مساحة عمل وترفيه. الوضع السابق كان غرفة موضي الصغيرة جدًا، مع سرير وخزائن، وتلفزيون ضخم. نجتمع فيها للمشاهدة أو العمل على أجهزتنا المحمولة بينما غرفتي الأكبر نصف مكتب، ونصف مكتبة، ومساحة نوم وتخزين صغيرة ومساحات فارغة غير مستغلة. رفضت بشدة، والآن أحاول تذكر سبب رفضي ولم أجد غير الكسل للأسف. كنت في فوضى عارمة وأحببت أن أبقى فيها لأطول وقت ممكن. فالتمسك بحالة الفوضى المادية للغرفة، والأثاث المتراكم والأشياء كان يشغلني من فوضى نفسي. وهذا مريح.

خلال الشهور الماضية، وعندما تعاظمت حاجتنا للاسترخاء والعمل لساعات طويلة، بينما يرتاح أحدنا في غرفة أخرى. راجعت نفسي، ووافقت على الفكرة. نحتاج غرفة منظمة للعمل ومشاهدة التلفزيون في مساحة واسعة وليس على وسائد على الأرض. نحتاج أريكة مريحة للقراءة لساعات، واستقبال الصديقات الحميمات وأفراد العائلة بعيدا عن برودة مجلس الضيوف.

كان شهر رمضان هو الموعد المرتقب، لكن التأخير نقلنا للعيد، وسفري، والعودة للعمل والركض من جديد. حتى جاءت عطلة اليوم الوطني وقررنا أن تكون الموعد النهائي للانتقال. لم يكن لدي أي فكرة عن الخطة، هل ستكون جردة عظيمة؟ أو فقط نقل للأشياء بين ضفتين. لم تكن العطلة كافية بالتأكيد، لذلك بدأنا مبكرًا في جرد الأشياء في مكانها قبل نقلها. الملابس والكتب والذكريات وما بينها. لقد وصلت لمرحلة جديدة من العيش، ولو ركزت قليلًا ونظرت حولي ما هي حاجتي الأعظم الآن؟ مكان ممتع ومريح للجلوس. تبرعنا بالملابس والاكسسوارت، واقتنينا أريكة، وانتقلنا لنغفو ليلة الأحد في غرفة مشتركة جديدة.

ورشة عمل

قدمت بداية شهر أكتوبر ورشة عمل لأساسيات صناعة المحتوى الرقمي، وكانت أمتع من اسمها الطويل! هذه هي المرة الأولى التي أقدم فيها ورشة عمل شخصية بدون استضافة أي جهةوتحقق حضور ممتاز. قدمت الورشة على مدى ثلاثة أيام واستعرضت فيها محاور عدة. الحضور الذي قارب الثلاثين كان منعش وممتع. كل مشاركة لها قصة، لها مشروع، ولديها هدف نهائي ترغب بتحقيقه من خلال الورشة. جربت شيء جديد أيضًا، هو الواجبات المنزلية التي تعمل عليها المتدربات، وتساعدنا في فتح نقاشات في اليوم التالي. هذا الحضور والحماس دفعني للتفكير في نسخة لاحقة من الورشة، ربما متخصصة أكثر، أو موجهة لموضوع آخر انتبهت له من خلال الأحاديث.

كانت الورشة خير ختام لفصل طويل من العمل والركض، ومع أن تجهيزها لم يكن مرهق إلا أن فكرة العمل خلال النهار ومن ثم الوقوف لساعات للكلام كانت تمتص طاقتي لآخر قطرة.

ثلث مكتبة

بعد الانتهاء من ورشة العمل قررت بيع مجموعة كتب جردتها خلال عملية الانتقال العظيمة. عرضتها خلال عدة ساعات في يوم واحد وما تبقى ذهب للصديقات.

الجردة أتت على ثلث مكتبتي الحالية، والمجموعة كانت إما كتب انتهيت من قراءتها، أو لم أحبها، أو نسخ مكررة لكتب لدي. احتفظت بالكتب التي أحب إعادة زيارتها، وتلك التي تحمل إهداءات أو ملاحظات خاصة، وطبعًا مجموعة معرض الكتاب الأخير التي لم التهمها بعد. شكل الرفوف الخالية منعش، ولا أنكر أنه كان مغرٍ جدا شراء المزيد. والكتب التي وجدت بيوت جديدة، فكرت فيها قليلًا. مكتبتي الحالية حصيلة جردات متتالية منذ انتقالي للعيش في الرياض. أظنها لعنة المساحات المؤجرة والخيار الذي يلحّ عليك دائمًا: حتى تتسع الحياة للجديد، اطلق سراح القديم. التخفف من الأغراض المتنوعة والملابس والكتب هوّن علي قصة درامية قادمة.

هنري الأمريكي

أكثر أفراد عائلتي معاناة مع دراما السفر: أنا. لا أحد يعلم حقيقة ولا أنا ما السبب؟ هل يعمل عقلي بطريقة مختلفة خلال الرحلات؟ أو أن عواطفي مركزة ومتجهة بالكامل للبهجة والمشي والاكتشاف، وحساسيتي تجاه ما يحدث مضاعفة؟ لا أدري.

مايو الماضي وفي محطة الباص بنيويورك رفضت السائقة حمل حقائبي رفضًا تامًا، قبل حتى وزنها. اختارت أن الباص لا يتسع لي ولها. وبفضل دعائي وبكائي ساعدني مسؤول مصري كان متواجدًا حينها. وسافرت لأخوتي واحتجت لعدة أيام لأنسى الصدمة والهلع. نسيت أن لي في المدينة أصدقاء، وأن حسابي البنكي يمكنني من حجز غرفة فندق وربما تذكرة طائرة لبنسلفانيا. اختار عقلي الدراما أولًا. ومنذ ذلك الحين اعتدت البكاء في الأماكن العامة والانهيارات كلما واجهتني أي مشكلة، وهذا غير مناسب لعمري، وحجمي!

في اكتوبر كانت رحلتي التالية لنيويورك، يوم الوصول خرجت من الطائرة ونسيت هاتفي السعودي ورائي. حسابي البنكي ومراسلات العمل، وذكرياتي فيه. وبعد ساعة كاملة من الوصول للفندق اكتشفت نسيانه وعدت للمطار بعينين متورمة.

وفي ديسمبر وصلت لندن ولم تصل حقائبي وبقيت ورائي في الرياض، وفي يوم عودتي بعد رحلة ممتعة واستلام حقائبي طبعًاتم إلغاء حجزي وحجز أختي. بكاء ودراما وكمان حزين، وتمت معالجة المشكلة وعدنا سالمين.

قبل أسبوعين وصلت لندن وركزت جهدي كله قبل وخلال وبعد الوصول للانتباه لكل شيء. حزمت حقائبي بوزن مناسب يكفي لتسوق العودة والمباهج التي سأحملها معي للبيت. تأكدت من حجز كل شيء، دفعت كل شيء. وأمام الحزام المتحرك انتظرنا أنا وأختي التقاط حقائبنا بخفة. وصلت حقائبها وبقيت انتظر، وصلت حقيبتي الأولى وحملها والتالية كذلك. دفعنا العربات ببهجة ونظرت لمكتب الأمتعة المفقودة، عبست وتمنيت ألا أقف هناك مرة أخرى مع الحرص على أن تكون أمنية مسموعة ورددت أختي: آمين! في الطريق للفندق التقطنا صور اليوم المطير، ضحكنا، نظرت للمدينة بسعادة. وصلنا لفندق اكتشفناه وسيصبح وجهة دائمة المزيد عنه في تدوينة قادمة-. أخبرتنا الموظفة المسؤولة أن الغرفة لن تجهز قبل أربع ساعات كما هو معتاد. وقضينا الظهيرة في شرب القهوة، والعمل، وتناول الغداء. عندما جهزت الغرفة دخلنا واقترحت على موضي أن ننتهي من ترتيب الحقائب وتفريغ الأغراض قبل القيلولة لنبدأ رحلتنا. فتحت الحقيبة لتنتثر محتوياتها أمامي مثل خزانة ألعاب. غضبت، لأنني أذكر جيدًا كيف أقفلت الحقيبة وكيف كانت مرتبة بعناية. في تلك اللحظة بدأت محتويات الحقيبة تتضح، قمصان زرقاء، قمصان مخططة، مربعات صغيرة، وفي يدي حقيبة أدوات حلاقة، ورائحة عطر رجالي رخيص وعرق! موضي كانت تشاهد المنظر لكن الدهشة عقدت لسانها حتى صرخت: هذه ليست حقيبتي! واكتشفت أنّني حملت حقيبة بالخطأ، وقبل أن تستعجلوا للومي: نعم كنت مغيبة ولم اقرأ البطاقة عليها، فقط شددتها نحوي لأنها مطابقة لحقيبتي النادرة ليست نادرة جدًا بعد الآن.

الآن أنا في دوامة من الأنفاس المتسارعة وشلل الحركة من الصدمة. بحثت عن حافة السرير لأجلس قليلًا وأفكر. لمن هذه الحقيبة؟ طبعا ليست لي. قرأت البطاقة تحمل اسم هنري الذي نسيت عائلته الآن. هنري مسافر معي على نفس الرحلة وحقيبته تشبه حقيبة شخص فوضوي أو هارب. اقفلتها بصمت. وبعد اتصالات مع مسؤولي الخطوط، قررت الذهاب بنفسي للمطار وتسليمها عسى أن يكون تنبه للخطأ وأعاد حقيبتي بالمقابل.

في هذه اللحظة كانت الساعة تشير للثالثة عصرًا، لم أنم منذ الليلة الماضية، والرحلة كانت مزعجة. الشيء الوحيد الجيد أني تناولت وجبة الغداء، وضحكت واستقبلت الرحلة بحماس. الشيء الثاني الكلمات التي رددتها موضي على سمعي وهدأت من روعي، إنها مجرد أشياء، ليست ملابسك المفضلة حتى! ويمكنك استبدال كل محتوياتها.

خرجت من الفندق للمطار وبكيت، حاولت التوقف لكن لم استطع. أنا في صراع حقيقي الآن، تقولين لا تهمك المقتنيات المادية كثيرًا لكنك تبكين؟ كيف؟ سائق التاكسي باكستاني تأثر من بكائي ومن قصتي وأصرّ أن الحقيبة ستصل. فقط رددي: لا حول ولا قوة إلا بالله. وصلت المطار، وسلمت الحقيبة على نفس المكتب الذي دعوت ألا أعود إليه، وانفجرت بالبكاء عندما وقفت هناك من جديد وأخبرني الموظف أن هنري أمريكي، ولا يوجد له بريد إلكتروني أو هاتف ويبدو أنه مسافر على رحلة مواصلة. دراما!

كانت الكلمات تتشابك على الورق، واللغة الإنجليزية التي أجيدها أصبحت مثل رموز مجمعة وغير مفهومة. سألته بلطف: أرجوك أنا أجيد القراءة، لكن الآن لا استطيع. هل يمكنك قراءة المكتوب على مسمعي لأتمكن من ملء الاستمارة؟ ساعدني وانتهيت وبدأ بإلقاء النكات: تخيلي زوجة هنري وهو يفتح الحقيبة لتجد ملابس نسائية بين أغراضه. تجاوزت مرحلة البكاء في تلك اللحظة وقررت البدء برحلتي، سواء عادت الحقيبة أو تخلص منها هنري الغاضب في شارع بعيد. بدأت بفرشاة أسنان وأدوات عناية شخصية وخرجت لمواقف التاكسي. قابلني مايك البشوش ليسألني عن وجهتي وانطلق إليها، اكتشف بعد عدة أمتار أنني لا أحمل حقائب سفر. سألني كيف؟ وبدأت القصة. مايك من جنوب لندن وأصله جامايكي، كان السبب في ضحك متواصل ل٤٥ دقيقة، ومزاج جديد وحماس أكبر للندن.

قلت له أن والدتي وموضي ينصحون بتقسيم الملابس بين الحقائب لتكن مستعدًا لأي شيء، وطبقت النصيحة لذلك لست بحاجة للكثير. وزاد من عنده: اشتري حقيبة لها لون صارخ. مضحكة لا أحد يريد الاقتراب منها أو حملها من الحزام المتحرك. والنصيحة الثانية التي منعتني غفلتي عنها: قراءة البطاقة والاسم ومطابقتها مع التذكرة.

الخبر الجيد، الحقيبة وصلت بعد ٤٨ ساعة تقريبًا، ووصلت لباب الغرفة. ومايك أصبح سائق العودة المعتمد وحصلنا على صفقة توصيل مناسبة لميزانية نهاية الرحلة.

رواية هذه القصة فتح شهيتي لتدوينة قادمة، أحدثكم فيها عن أيامي الملونة في لندن.

.

.

.

معكم من العام ١٩٨٥

هناك نوع من الضيق لا يمكن لأحد اقتسامه معك، يبقى بداخلك حتى تقرّر في لحظةٍ ما القضاء عليه وتفكيكه وتجاوزه. وأحيانًاوهذا كابوسي الحاليتحمله معك لمسافات طويلة. مرت الثلاثة أشهر الماضية وأنا أشعر بثقل مثبت في كاحلي، معنوي وفي أيام كثيرة جسدي. اجلس لدقائق في الصباح في محاولة لإقناع نفسي: هيّا خطوة واحدة إلى الأمام ويمر كلّ شيء. كوني شجاعة!

لكنني أعلم، أن الأمر لا يتطلب شجاعة فقط، أحيانًا تحتاج دفعة لتذكيرك: لماذا أعيش؟ ماذا أفعل هنا؟ وكيف أتقدم للأمام؟

هناك نوع من الضيق لا يمكنك الحديث عنه مع أحد، ولا حتى لوحة المفاتيح.

أكتب هذه الصفحة، ولا أدري هل ستكون تدوينة أم سأضمها للمجلد الإلكتروني الذي امتلأ برسائل افتراضية اكتبها من شهور لشخص واحد، ولا أرسلها. أكتبها إلكترونيًا لأن إمكانية حذفها بالكامل مريحة.

لا أظن بأنه سيقرأها، غير صالحة للقراءة والرؤية، تشبه الأفعوانية التي أمر بها هذه الأيام. فيها نكات سمجة، وقصص مرعبة، واعترافات غريبة في حالة ذعر. مثل غابة أغصان شائكة. وإن وعدتك بالعبور إلى حديقة جميلة، قد تخرج منها بإصابة قاتلة.

قبل أسبوعين كنت في الطائرة عائدة من رحلة جميلة بشكل عام. أطبق عليّ ذلك الضيق الذي لا يمكنني شرحه واجتمع مع تعب السفر، والوقوف والكلام لساعات طويلة، والخوف من المطبات التي لم تحدث بعد. على غلاف مجلة الطائرة قرأت العبارة معكم من العام ١٩٨٥موانهمرت الدموع من عيني بلا توقف، كيف يمكنني شرح ما يحدث لصديقتي التي تحاول تبديد خوفي الجديد من الطائرة بكل ما يمكنها من قوة. تفتح الصور في هاتفها، وتشارك خطط مشاريع مستقبلية ولا اسمع شيء لأن صوت ارتطام أفكاري أعلى.

معكم من العام ١٩٨٥مأفكر في موضي، هذه هي سنة ميلادها، وهي معي من ذلك العام، حاضرة مهما كانت الظروف. تذكرت حلقة من النمر الوردي Pink Panther، وهو يثني شريحة سوداء كبيرة (أظنها حاجز مظلم أو كرتون) ويثنيها حتى تصبح بحجم مربع صغير ويبتلعها ثم تنفجر بداخله وتعود لحجمها الطبيعي. لا أدري لماذا تذكرت هذه الحلقة أو الفاصل وللأسف لم أجد لها نسخة في يوتوب لأشاركها معكم. أعوّل على هذا الاستطراد لشرح فكرتي السابقة. كيف يقتسم إخوتي الضيق معي، يمسكون قلبي ويغسلونه، ينفضونه مثل سجادة ليعود منتعشًا. لكنّ طاقاتهم الجبارة تقف دائما عند حاجز أخير، عند الضيق الذي لا يمكن اقتسامه مع أحد.

* * *

الأسبوع الماضي رافقت موضي إلى عيادة طب العيون لتجري عملية ليزر، كنت أحاول اخفاء توتري وكأنني أنا التي ستجري العملية. حاولت الضحك والمزاح لكن وحش القلق كان أقوى مني. جلسنا سوية في غرفة الانتظار وجاءت الممرضة لتجهزها. بدأت بقطرة التخدير، ثم نظفت المنطقة وألبستها الملابس الخاصة بالعمليات.

موضي ترتدي النظارة من عمر الثامنة إذا لم تخني الذاكرة. فكرة أنها تستيقظ وتبدأ يومها بدون نظارة مستحيلة، فبصرها بدونها مشوش جدًا. ارتديت النظارة في عمر متأخر نسبيًا (٢١ سنة) واليوم تزعجني فكرة ارتداء العدسات مثلا. أذهب لبعض المناسبات ولا ارتديها وألعب لعبة التخمين مع الناس. في مرات اقتربت من فتاة وابتسمت وناديت عليها بصوت عالٍ، لاكتشف لاحقًا بأنها لا تعرفني وأفزعتها.

بانتظار العملية بدأت ملامحي تتداخل أمام بصر موضي المشوش، وصرحت بأنّني أصبحت أشبه سمكة. طلبت منها تحديد أي نوع من السمك، يهمني معرفة ذلك. قالت: سمكة بذقن عريض. مخيفة جدًا الآن ولا يمكنني النظر إليك.

ساعديني! لجأت لمحرك البحث وكتبت Fish with big chin في نفس الوقت طلبت منها مزيد من التوضيحات، لتخبرني بأن هذه السمكة في وقتٍ ما من حياتها تغير جنسها من أنثى إلى ذكر ومع هذا التغيير تتغير ملامحها ويكبر حجم فكها ووجهها. عدت لتحديث جملة البحث: Fish with big chin that changes gender. وظهرت سمكة الكوبوداي Kobudai. الأكيد أنّ ملامحي مفزعة الآن، وطلبت منها أن تغمض عينيها لتستريح.

تقضي موضي أيامها في نظارة شمسية داكنة، وغرفة معتمة تمامًا. أحمل لها الطعام والقهوة ونشاهد التلفزيون بالصوت، لأتركها في نهاية اليوم تستمع لكتاب صوتي حتى تغفو. أحب فكرة إن موضي ستقرأ هذه التدوينة بعنين جديدة إن شاء الله.

اللحظة التي ستترك فيها النظارات إلى الأبد قريبة.

* * *

أشياء جيدة في الأسبوعين الماضية:

.

.

 

الميل الأول

أحد قرارات السنة الجديدة التي حرصت على العمل بها: التعامل مع الأشياء بشكل مختلف.

اليوم وبعد مضي شهر وعشرة أيام من الشهر التالي وجدت أنّ هذا القرار هو الأكثر مرونة والأحب إلى قلبي. كلّ سنة كان الحماس يغمرني وأضع الخطط والأهداف والتزم بها لشهر أو اثنين ثم انزلق بعيدًا. ما السبب؟ تساءلت. محاولة حشر كلّ شيء في سلة واحدة، أو محاولة ترويض نفسي على تغيير كبير دفعة واحدة. وما يحدث بعد ذلك يدفعني للاحباط والفشل.

أحد المشاكل التي عانيت منها خلال السنوات الماضية، هي المحافظة على نظام غذائي صحي خلال ساعات العمل، والامتناع عن الاعتماد الكلي على الأكل في الخارج. كانت البداية قوية وحماسية ولكن خلال أيام الضغوط والفوضى أعود للعادات الغذائية السيئة: وجبات سريعة، وكميات هائلة من السكر والدهون.

بعد دراسة الوضع تنبهت لعدة أشياء:

  • لدي استعداد جدّي للالتزام والدليل أنني ابدأ بشكل جيد.

  • لدي الوقت للتهيئة لكنني أفضل الكسل عندما تغمرني الفوضى.

  • تجهيز خيارات أكل أبسط للغداء يعني التزام أطول بالخطة.

  • اختلال نشاطي الرياضي وزيادة الوزن مرتبطان بشكل كبير بوجبة الغداء.

  • هناك رابط واحد واضح جدًا بين هذه العقبات، وهذا الرابط هو أنا!

إذًا، وبالعودة إلى الفكرة الأساسية في بداية التدوينة، التعامل مع الأشياء بشكل مختلف يعني هذه المرة اعتماد تغيير بسيط سيمتد تأثيره تدريجيًا على بقية نواحي حياتي.

وكانت التحليلات مرعبة! كيف وجبة الغداء فقط قادرة على صنع كل هذه الفوضى؟

بدأت أولًا باتفاق مع نفسي: ٣ أيام من الأسبوع التزم بتناول طعام محضر من المنزل (أعمل على تجهيزه يوم السبت أو الأحد)، واليومين الباقية وفي حال الضرورة والاضطرار يُسمح لي باختيار وجبة محضرة في مطعم أو مقهى.

هذا الترتيب مريح جدًا لي، ولميزانيتي. وجرّبته لمدة أسبوعين لكنني اكتشفت الثغرات التالية:

  • الأطعمة المعدّة في مطعم / أو مقهى قريب من مكان العمل صحية فعلا، لكنها مرتفعة السعر وهذا غير مناسب لخطتي المالية.

  • الخروج للمطعم / المقهى والمشي فرصة للنزهة والتفكير، لكنها تقتطع من يوم العمل واحتاج معها لتعويض الوقت الذي غادرت فيه المكتب.

الحل الثاني للمشكلة هو تغيير قائمة الوجبات التي أتناولها على الغداء وتبسيط طريقة تجهيزها، يعني يمكن أن تكون عبارة عن طبق سلطة مع زيتون وجبنة، أو شابورة وشاي، أو زبادي وفواكه وغرانولا.. إلخ. وأقول بسيطة لأنني التقط مكوناتها وأنا في طريقي للعمل. مثل جولة تسوق سريعة من ثلاجة المنزل، وقد أجد أيضًا بقايا من وجبة عشاء اليوم السابق وأقرر لاحقًا ما يمكنني إضافته إليها.

وفي المكتب لاحقا يتوفر لدي: فواكه طازجة، زبادي، خبز، وسخانة ماء وميكرويف. وهذا كافٍ لحلّ مشكلة حيرة الغداء.

الأمر الوحيد الذي ساعدني على نجاح الحلّ: الاستيقاظ قبل موعدي اليومي بـ ٣٠ دقيقة، نعم فقط ٣٠ دقيقة ساعدتني وغيرت نظامي تماما. انتهي من الاستعداد للخروج وأذهب للمطبخ وأعدّ وجبة الغداء، والفطور كذلك.

طبّقت الفكرة لما تبقى من شهر يناير، والأيام الأولى من فبراير والمفاجأة:

لم احتج لتناول الطعام من الخارج، وخسرت كيلوين خلال ١٥ يوم!

وما حدث أنني تدريجيًا تخلصت من مشكلة الغداء دون الحاجة لتجهيز مكثف للوجبات، وبلا خلل في ميزانيتي.

وبنفس الفكرة سأنتقل لمعالجة مشاكلي العالقة تدريجيا، أولا بإيجاد القاسم المشترك بينها، ثم اختيار تغيير بسيط، ومعالجتها بطريقة مختلفة لم اعتمدها من قبل.


قرأت خلال الأيام الماضية مقال لطيف عن كيفية التعرف على أصدقاء جدد عندما تنتقل لمدينة جديدة وأعتقد بأننا جميعًا وفي وقت معين من حياتنا احتجنا لمثل هذه النصائح. قد لا يكون الانتقال بالضرورة لمدينة جديدة، يمكن أن يكون مكان عمل جديد، أو حيّ. الفكرة هي كيف تجد أصدقاء ومعارف بعد انتقال جديد.

والكاتب يقترح التالي:

  • استكشف الصلات القديمة أو كما يسمّيها (العلاقات الخاملة) ويُقصد بها معارفك من فترة سابقة في حياتك. سواء خلال سنوات الدراسة، أو العمل، أو الشبكات الاجتماعية (صداقات افتراضية) فقد يكون من ضمن هؤلاء أشخاص تودّ تعزيز معرفتك بهم ولقاءهم في مدينتك الجديدة.

  • يمكن أن نجهز أنفسنا قبل الانتقال للمدينة بسؤال الأصدقاء والمعارف وطلب مساعدتهم في التعرف على أصدقاء جدد. قد يكون لهم زملاء أو أقارب في وجهتنا التالية وسيساعدوننا في التعرف عليهم واللقاء بهم.

  • استكشف الأنشطة والفعاليات التي قد تقابل من خلالها أشخاص يشاركونك نفس الاهتمامات والهوايات. الأمر الجميل في هذا أنّك لن تكون في وسط معارف مقرّبين، وخلال هذه الفعالية ستتحدث وتقترب من أشخاص جدد بلا انشغال أو خطط مسبقة.

  • لا تتوقف عن التواصل بمجرد إيجاد أصدقاء أو معارف. وهذه النصيحة بالذات طبقتها شخصيًا مع أنني كنت محظوظة بأنّ انتقالي للمدينة جاء على مراحل، وكان لدي مجموعة طيبة من الأصدقاء. مع ذلك، حافظت على فضولي واهتمامي بالتعرف على أشخاص جدد.

  • إذا تعرفت على زملاء عمل أو معارف عبر صداقات مشتركة لا تكتفي بمعرفة جانب محدد من حياتهم. مثلا زملاء العمل ونظرًا لرسمية المكان وضغط المهام قد تبدو علاقات مملة وغير قابلة للتطور. لكن لو اكتشفت جوانب أخرى من حياة الآخرين ستصبح رفقتهم محببة ومثيرة للاهتمام.


إذا كانت لديّ سمة شخصية لم تغادرني منذ أن تعلّمت الكتابة، ستكون تدوين أفكاري ويومياتي. هذا الأمر واضح لكل من يعرفني عن قرب، من زميلات الدراسة حتى رفاق العمل والسفر ولن تخلو حقيبة من حقائبي من قلم ودفتر.

أكتب خلال الاجتماعات، أكتب هواجسي، ومخاوفي، واهتماماتي. أكتب خطط السنة ويوميات السفر، وأكتب خلال جلسات العصف الذهني التي أصبحت لصيقة للعمل في مجال الكتابة الإبداعية.

خلال السنوات الخمسة الماضية ملأت مئات الصفحات بالتفاصيل، من تغريدات التسويق للمنتجات، ونصوص وسيناريو الفيديوهات الإعلانية وصولًا لمحتوى المواقع الإلكترونية وكلمات رؤساء الشركات والمسؤولين في قطاعات مختلفة. هذه الدفاتر كنزي، وذاكرتي المحفوظة ولوحة إنجازاتي في حال تعثرت التقنية.

كنت استقبل نظرات الاستغراب من مدراء المشاريع وزملاء العمل: لماذا تحبّ هيفا سلوك الطريق الأطول؟ اكتبي على طول في الملف، وهذا متعب حقًا! وكنت لا أملّ شرح وجهة نظري: أريد حفظ هذا كله لنفسي، بالإضافة إلى أن الكتابة بالقلم مسودتي الأولى وتساعدني على جمع الشذرات وترتيبها.

هذا التدوين قوّتي عندما يصر أحد ما على سرقة فكرة أو نسبها لنفسه، عندما تضيع جهودي في عمل الفرق الكبيرة ولا يلتفت أحد لما قدّمته. وهذا ما قد يصادفكم للأسف في مجالات تتطلب العمل الإبداعي لكنك لا تستطيع تسجيل الناتج النهائي باسمك.

قبل سنة أو أكثر طُلب مني كتابة محتوى رقمي لعدة منصّات لأحد العملاء. وضعت فيه قلبي وجهدي وساعات طويلة من البحث. ما حدث أن العميل استلمه لكنّه لم ينشر، لم ينشر حرف واحد من كل هذا الجهد. وعلى الرغم من أنني استلمت المقابل المالي كاملًا بلا نقص، لكنني لم أحصل على العائد المعنوي الذي انتظرته.

لم أجد أثر إلكتروني للمحتوى، والعميل لا ينوي نشره أو الاستفادة منه، ولم يكن هناك تنازل خطّي عنه من قبلي.

إذا يمكنني استخدامه لنفسي. لكن أين الملفات؟

عدت لدفاتري خلال نهاية الأسبوع الماضي، وبحث بلا توقف حتى وصلت للصفحات المطلوبة. وجدتها كاملة!

النصوص، وبطاقات الملاحظات، وأفكاري التي ساهمت ببناء المنتج النهائي.

موقف كهذا يذكرني بحبي للتدوين، تدوين كلّ شيء حتى وإن لم تكن تعتقد بأهميته الآن. خاصة إذا كنت تعمل في مجال يتطلب العودة للكلمات والصور. وقد يكون التدوين ضرورة قصوى إذا كنت تعمل في مجال يتفاوت فيه الالتزام بالأخلاقيات المهنية.

اتطلع دائمًا لقراءة تعليقاتكم ونصائحكم المجربة حول المواضيع المطروحة.

وأتمنى لكم بداية أسبوع طيبة ومُنتجة.

.

.

.

لِتهدأ نفسي

في مثل هذه الأيام وقبل عشر سنوات تحديدًا كنت احتفل ببداية جديدة في حياتي. بداية بعد عاصفة طويلة توقعت ألا تكون هذه نهايتها. انتقلت حينها للرياض لبدء دراسة الماجستير. والكثير منكم يعرف كيف انتهت تلك المرحلة المدهشة. لم أحصل على الدرجة، لكن حياتي كلّها تغيرت وقد يكون لدي الوقت الجيد لحكاية التفاصيل الطويلة لتلك الأيام.

سبقت هذه النقلة فوضى عارمة في حياتي، لم يكن أمامي أيّ طريق. كل شيء معتم ويطبق على قلبي ضجر عظيم. فكرت في الانتقال للرياض للعمل لكنّ الفكرة لم تنل استحسان والدي، خصوصًا وأني حينها كنت أعمل بشكل مستقل ولأربعة سنوات! حاولت من جديد ولكن ماذا لو انتقلت للرياض للدراسة؟ جهزت نفسي للتقدم وحملت أوراقي وسافرت. كان قبولي مستحيلا باعتقاد الكثيرين خصوصًا وأنّ المتقدمات لبرنامج الماجستير بالآلاف سنويًا، وفي تخصص تقنيات التعليم بالتحديد كان العدد في ذلك العام ٢٥٠ متقدمة. اجتزت الاختبار الأولي مع أكثر من خمسين متقدمة وكانت الشكوك لدي ولدى عائلتي عظيمة، هل سيتم قبول طالبة من الجبيل ويتركون طالبات الرياض؟ مرّ الصيف على مهله وقد وضعت كلّ شيء على حالة الانتظار. لم ابحث عن عمل. غرقت في النوم والقراءة. وصلت لمرحلة المقابلة الشخصية وكانت مقابلة هاتفية سريعة. بعد شهر تقريبًا ظهرت النتائج وقُبلت مع ١٦ طالبة في التخصص. أصبح حلم الهروب من حبسة رتابة الحياة حقيقة. حتى لو كان سيأتي مصحوبًا بالانتقال لمدينة جديدة، حياة اجتماعية جديدة، دراسة وعمل في نفس الوقت.

لماذا أحكي لكم هذه القصة؟

ربما هي محاولة مني لفهم ما أمرّ به من جديد بعد عشر سنوات. لكنني الآن في الرياض، أعمل واحمل مسؤوليات أكبر من رغبتي بالهرب والانتقال. أهرب للنوم، للقراءة، للجلوس بصمت، للطبخ. هذا ما يمكنني فعله الآن. ينتهي يوم العمل وأترك كل شيء ورائي وأعود للمنزل. أطفئ قلقي ما استطعت. وأتذكر أنّ هذه هي الحياة التي انتظرتها طويلًا، وأنّ الحياة ليست نزهة ممتعة على مدار الساعة، وأن شعور الجلوس على كرسي غرفتي في الخامسة والنصف والنفس الطويل وكوب القهوة مع العائلة علاج يومي.

أقرأ في يوميات ٢٠٠٨، في المدونة هنا وفي المذكرات المكتوبة بخطّ يدي، اتصفح الصور، اتحدث مع من عايشوا تلك الأيام. هذه هي الطريقة المثلى لعلاج ما أشعر به.

* * *

بعيدًا عن فوضى الروح الموسمية أقضي أيامي بين العمل الإبداعي والإداري، الاستجمام اليومي، الاهتمام بصحّتي والهدوء والتخفف، الكثير منه.

اقرأ كتاب الطباخ – دوره في حضارة الإنسانمن تأليف بلقيس شرارة. كتاب ضخم وممتع ولم انتهي من ربعه حتى الآن. لكنني وجدت نفسي أدون الملاحظات وأقضي الساعات بعد كل عدة فقرات لاكتشف التاريخ والصور. السرد ممتع على الرغم من أنّ الكتاب يأتي كدراسة مليئة بالمصطلحات والتواريخ والهوامش. وأعرف من الآن أنني سأعود كثيرًا له.

الاهتمام بالطبخ والمطبخ ليس بجديد، منذ عدة سنوات وأنا أجد في المطبخ مساحة لنفض الهموم والقلق. أحبّ الطبخ لأنه كما وصفته المدونة الأمريكية ديب بيريلمان التي كتبت مقالًا طويلًا عن الطهي في المنزل وجاء فيه هذا المقطع الذي يمثّلني:

«أحبّ الطريقة التي تخفف بها وصفة طبخ من ضغط يوم طويل مليء باتخاذ القرارات. أحب الطريقة التي أطبق بها وصفة وجبة يحبها الجميع، هذا الحدث قادر على تغيير يومي.

تجهيز وجبة شهية حتى وإن لم تتوقع ذلك من نفسك؛ الطريقة الأسرع لتشعر بالانتصار. أحب الوقوف بجانب الفرن، أكيل اللعنات لكاتب الوصفة الذي يقترح كرملة البصل لعشر دقائق، أنهمك تمامًا. لستُ مشغولة برسائل الهاتف الجماعية، أو لحظة غاضبة على تويتر. إني أحصل على فترة قصيرة من الراحة والتزود بالوقود. هذا الشيء، هذا التركيز، هذا الهدف والمكافأة اللذيذة والنادرة التي التهمها كلما سمحت لي الفرصة

إلى جانب القراءة أتابع/تابعت عدة مسلسلات في آن: Ozark ، Bodyguard، Succession.

واستمع لراديو نيويورك الكلاسيكي وقائمة موسيقى طويلة لإيلا فيتزجيرالد، سيمون وجارنفكل، وبوب ديلون.

أحبّ سبتمبر، ويذكرني بعطلاتي السنوية التي بدأتها منذ سنوات، هذا العام مختلف لأن الصيف مرّ وسبتمبر وأنا في المدينة أركض.

أذهب في عطلة جديدة قريبًا مليئة بالمغامرات، وأنوي تجربة مشروع ممتع هذه المرّة وسأروي لكم تفاصيله لاحقًا بإذن الله.

* * *

أكتب مجموعة مقالات حول العمل المستقل، الإنتاجية، العمل الإبداعي والعمل بشكل عام في مدونة تسعة أعشار، بدأت قبل ثلاثة أسابيع وأتمنى متابعة هذا المشروع الممتع.

أيضًا بذكر العمل المستقل تذكرت اللقاء الثالث والأخير لهذا العام للمستقلات، سيقام اللقاء في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة فرع خريص للسيدات. وسيكون محور حديثنا إيجاد التوازن وحلّ المشكلاتسأشارككم رابط التسجيل ما إن يتم اعتماده من المكتبة، والحضور مجاني بالطبع.

* * *

تحدثت عن الطهي والوصفات أعلاه وتذكرت أننا في المنزل استبعدنا تتبيلة السلطة الجاهزة تمامًا، وخلال الأربعة أشهر الماضية اعتمدنا تتبيلة زيت الزيتون والبلسمك والليمون والثوم الطازج. تتغير السلطات والمحتويات وهذه التتبيلة الطازجة والنظيفة هي المفضلة. لم نكن نشتاق لأي تتبيلة أخرى. لقد اكتشفت أن الثلاجة تخلو من الصلصات الخاصة بالسلطة حين توقفت قبل أسبوع في ممر الصلصات العضوية وأعجبت بواحدة لسلطة السيزر واشتريتها. لقد وفرنا عشرات الريالات وقللنا من استهلاك السعرات دون أن نشعر وتلذذنا بالخضروات والتتبيلة البسيطة لأطول فترة.

ما هي تتبيلة سلطتكم البسيطة؟ أحبّ تجربة شيء جديد

* * *

أتعلم خبرة جديدة مرتبطة بصناعة المحتوى، والتعلم يشبه المشي لأول مرة أو تذوق الأشياء ورؤية الأعاجيب! أقضي ساعات في القراءة يوميًا، ومشاهدة مقاطع الفيديو على يوتوب. مضى وقت طويل على آخر مرة تعلمت فيها شيء من الصفر. تراكم المعرفة والخبرات أمر عظيم وقد نغفل عنه أحيانًا. كيف تتعلمون مهارة جديدة؟ شاركوني في التعليقات.

.

.

.

الإبداع التعاوني | Collaborative Creativity

خلال أربع سنوات من العمل في مؤسسات وإدارات إبداعية تعرفت على الكثير من نقاط ضعفي وضعف زملائي وزميلاتي. ربما كان أكثرها وضوحًا: صعوبة العمل في مجموعة! كثير من المبدعين بالضرورة يميلون إلى انتاج أعمالهم بشكل مستقل. يميلون للعزلة وحجب جهودهم حتى ينتهون من المنتج الأخير ويطلقونه أو يعرضونه للجمهور أو المتابعين أو العملاء. هذا مقبول جدًا إذا كنت لا تتبع فريق أو مؤسسة. مناسب إذا لم يكن هناك من ينتظر مساهمتك لاستكمال بناء فكرة أو مشروع. في المؤسسات التي عملت بها كان كاتب المحتوى الفرد الأول في فريق التتابع، ننتهي من النصوص ونمررها للمصمم الذي ينفذها ويمررها لمدير المشروع وإلى العميل في المحطة الأخيرة. عملية نقل الرسالة هذه تمر بمطبات كثيرة يمكن حلّها بمزيد من التفهّم والانتباه.

وأفكر دائما وأذكر نفسي ومن معي: لا يمكن أبدًا تطبيق ما أسميه نموذج حصة الإملاء عندما ينكفئ كل طالب على دفتره ويخفي ما يكتبه حتى لا ينقل زميله عنه. في العمل الإبداعي نحنُ مجموعة من مكعبات الليغو نصنع تجربة متراكمة تظهر بشكلها الأفضل ونتفوق جميعًا.

التواصل

البديهي في العمل أننا نتكلم، نتراسل، نحضر الاجتماعات. لكن هل نحن نتواصل بشكل جيد؟

نحتاج اليوم لرسائل أوضح، وصف للمشاريع أو ملخصات إبداعية أفضل. نحتاج للتواصل بأسئلة ذكية ومجدية لا تضيع وقت المجموعة أو تهدف للتنصل من مسؤولية ما.

الثقة

الثقة في أنّ العمل سيظهر بأحسن حالة دون تدخل منّا أو عنف أو تقريع للزملاء في حين اخفقوا. الثقة أنّ زميلك أو مدير المشروع لن يخذلوك. الثقة في أنّ أهدافكم مشتركة، لن يدهس أحدكم الآخر حرفيا.

رؤية مشتركة

نحتاج نعرف دائما ما هي المحصلة النهائية من كل هذا؟ كيف يأثر عملي اليوم على نجاح المؤسسة والفريق؟ ما هي الصورة الكاملة؟ نحتاج إجابة لكل لماذا؟في المشروع أو الفكرة الإبداعية التي نعمل عليها سوية. ويجب أن كون جميعًا إما متفقين أو مستعدين لمناقشة إجابات هذه الـ لماذا“.

الالتزام

في سباقات التتابع يلتزم كل عضو في الفريق بأداء أسرع ركضة في ١٠٠ متر. يركض بسرعته القصوى ويقدّم أجود خطواته للوصول لزميله وتسليمه العصا. تخسر الفرق التي لا يبذل كل فرد فيها أفضل ما عنده!

في مجال التسويق بالمحتوى مثلا: عندما يعبث الكاتب ويقدم محتوى ركيك، مهما كانت قوة التصميم سيتنبه العميل للخلل. ومدير المشروع بالضرورة لا يمكنه بيع الفكرة أو تمريرها إذا كانت مليئة بالثغرات.

تعلمت بالطريقة الصعبة كيف أن كسلي أو ترددي أو انتاج المحتوى بنصف حماسي أدّى إلى نتائج كارثية وإحباط لكافة فريق المشروع.

مشاركة المصادر والمعلومات

كيف يقدم كل عضو من أعضاء الفريق أفضل ما لديه إذا كان هناك تفاوت في مصادر المعلومات؟ هذا ما أحرص عليه دائمًا عندما يُطلب مني تنفيذ مهمة: أحتاج كل المصادر التي يمكنني الوصول إليها. وبعد الانتهاء من كتابة المحتوى، أمرره للمصمم مع أمثله مشابهة للنموذج التي أفكر فيها. أو أي ملف أو مصدر قد يحتاجه لتعديل أو ضبط الفكرة.

مراعاة اختلافات البشر

عملت في مجموعات كنت أشعر وسطها بالاضطراب والتردد والتوتر. وفي مرات أخرى كنت أجد نفسي قائدة ومتمكنة لا أخاف من شيء ولا يعرقلني أحد.ما فهمته من حالاتي هذه ساعدني على تفهم الآخرين. قد يمتنع البعض عن الكلام في جلسات العصف الذهني بسبب الخجل أو التردد وحتى لا نظلمهم نطلب منهم إرسال أفكارهم بالبريدالإلكتروني لاحقًا. أو نتبع منهج الجلسات المنفردة مع كل عضو one-on-one حتى نسمح لهم بالتعبير بكل أريحية.

للإبداع التعاوني فوائد عظيمة تنقل حتى أكثر المؤسسات ومجالات العمل ضجرًا إلى مكان جديد. ما تعمل عليها لشهور حتى تصل لنسخته الأفضل، يمكنك إنجازه مع فريق متعاون خلال بضعة ساعات. وأنا هنا لا أقلل من فائدة العمل المستقل أو استقلال المبدع بأفكاره ومشاريعه، لكن تجربة العمل المشترك شيء لن أتركه في الوقت القريب.

.

.

.

* هذه التدوينة كانت في البدء مجموعة ملاحظات قدمتها في حديث أسبوعي داخل الشركة. قد يتبعها تدوينات منوّعة في مجال الكتابة والعمل الإبداعي بشكل عام. تولد كل أسبوع من حوارنا داخل غرفة الاجتماعات. والسؤال هو كيف تصبح تجربة العمل المشترك أسهل وأمتع بالنسبة لكم؟

.

.