٣٣: السنة العائمة

.
.

هذه محاولة جادّة للعودة إلى التدوين هنا. مضت عدة أشهر ووصلت لمرحلة مضحكة من ترقب عودة الكتابة، أفتح المدوّنة لأفاجئ نفسي؛ انتظر أيّ شيء مغري للكتابةقبل يومين احتفلت بعيدي الـ٣٤، احتفالية عجائبية إذ توافق التاريخ بزواج أصدقائي، العروس والعريس رفاق مكان عملي الأول في مدينة الرّياض، وأصبحا لاحقًا جزء من الوجه الجميل للمدينة. سأسمّي الفترة بين أكتوبر ٢٠١٥ – أكتوبر ٢٠١٦م السنة العائمة، هذا أكثر وصف صادق لما مررت به من الشهر العاشر العام الماضي واليوم. غادرت وظيفة كانت مثل الوحش الجاثم على صدري، نلت كفايتي من الراحة وانطلقت للعمل في ثلاث جهات بمهامّ وأفكار مختلفة، أطفو على السطح لا أشعر بعمق الأشياء كما يجب لكنني كنت بشكل عام سعيدة ومكتفية وراضيةأن تقطع أيامك عائمًا يعني أن تفكر في شيء وحيد أحيانًا وهو: النجاة. نجوت بنفسي مرات عديدة، من الكسل ومن الضجر ومن أي ثقب حاول ابتلاعي في الطريق.

أقول لنفسي بأنني لا أتغير لكنني أفعل، وكيف اكتشف ذلك؟ فكرة صغيرة راودني الشكّ تجاه التزامي بها. في نهاية كلّ شهر أجلس للإجابة على عدة أسئلة الهدف منها تقييم أدائي أمام نفسي ونفسي فقط. كان هناك سؤال محبّب انتظر نهاية الشهر لأجيب عليه: ماذا تعلّمت هذا الشهر؟ بسيط وواضح. تعلّمت أن أعوم، تعلمت ألا أغرقأقيس نجاحاتي برضا العملاء ونسبة إنجازي لمهامّ العمل، تغير كلّ شيء، كنت أقيس نجاحي بعدد التدوينات التي أنشرها هنا، أو الكتب التي أتمّ قراءتها قبل أن احملها يائسة إلى المكتبة. أكتب لأعمل لأحظى بنهاية أسبوع ممتعة، ولأجيب على أسئلة نهاية الشهر بفخر.

قبل شهر ذهبت في رحلتي السنوية لنيويورك لكن هذه المرة اختلف الأمر، أقول دائمًا أنّ تجربة السفر وحيدًا تقرّبك من نفسك بشكل مدهش. والآن أقول أن السفر مع طفلة بعمر الخامسة عشرة تصنع منك بطلكيف ترفّه عن شخص يصغرك بعشرين عام دون أن يقتل أحدكما الآخر من الضجر؟ كيف تغير خطة عطلة كاملة لتتناسب مع مزاجه ومع ملاءمة الأشياء له، قررت العوم من جديد والاستفادة من السفر للاسترخاء وترك خططي الشخصية على الانتظار. بدأت بتهيئة نفسي قبل موعد السفر بشهر تقريبًا، رفقتي الصعبة كما تخيلت تحتاج تفهّم وانتباه. طلبت منها البحث عن أماكن تشدّ انتباهها وتصنع قائمة بها. استقبلت الخبر بسعادة ووجدت للصيف معنى أخيرًا. تذكرت الآن وأنا أكتب بأنني اصطحبتها للعمل معي عدة مرّات وطلبت منها إنجاز بعض المهام التي تفخر بها حتى اليوم. هل كنتُ أعدّ نفسي للوقت الذي سنقضيه معًا؟ جاء سپتمبر وفاجأت نفسي بقدرتي على إنجاز المهامّ المستحيلة قبل سفري بعدة ساعات، وتعرضت قدمي لإصابة خشيت أن تمنعني من السفر قبل الرحلة بست ساعات. آمنت بأن هذه الإصابة قد تكون القوة الخفية التي ترغمني على الراحة، وكان أول أسبوع من السفر مزيج من الآلام والتطبيب والحسرة وأنا أنظر لشوارع المدينة من الطابق ١٧، تمدّ لي لسانها، كنتِ تخططين لرحلة مشي هاه؟ الخطّ الزمني للرحلة كما أراه اليوم: إصابة، استعادة القدرة على المشي بلا ألم، اجتماع الأخوات بعد سنة، الكثير من السمك، ومسرح وسينما وموسيقى، القهوة والورق. الفكرة كانت الاستمتاع بكلّ لذائذ الحياة المتاحة وبأقصى درجات التركيز والاهتمام.  لو كان فيه لوح عظيم أجمع فيه نجمات الحياة لكلّ شيء مميز يمر بي، سيكون لهذه الرحلة النصيب الأكبر في المرات الأولىحضرت عرض مسرحي موسيقي على برودواي للمرة الأولى وهذه هي زيارتي الخامسة لنيويورك. كانت المسرحية الكوميدية عازف الكمان على السقفالمسرحية تحكي قصة قرية صغيرة يسكنها اليهود في أوكرانيا وتدور أحداثها حول التقاليد والحياة الريفية والتحولات التي يمرّ بها العالم بحجمه الصغير داخل القرية والعالم أجمع.  تجربة جديدة أخرى كانت مع مشاهدة فيلم سينمائي بينما تعزف أوركسترا نيويورك الفيلاهارمونية موسيقاه التصويرية على الهواء مباشرة! الفيلم الأول كان قصة الحي الغربيالتي وضع موسيقاها ليونارد بيرنستين. قصة الفيلم لم تكن جديدة فقد حضرت عرض مسرحي موسيقي خارج برودواي في دبي ٢٠١١م. رافقتني حصّة لحضور العرض وكانت المرة الأولى التي تشاهد فيها أوركسترا حيّة. التفتت باتجاهي وعبرت عن مشاعرها بعد مضي أسبوعين من وصولنا: شكرًا هيفا. شعرت بانتصار! إنها المرة الأولى التي تشكرني فيها، إذا استثنينا اللحظة التي سبقت غفوتها ذات ليلة وكانت تقول بانفعال بأنها لا تريد شيء من هذه المدينة، ولا تطمح لأي شيء سوى المشي معي لساعات وبلا هدف. تريد رؤية نيويورك التي أحبها كما رأيتها. لا أنكر بأنني حظيت بكثير من اللحظات الخاصة لنفسي، مشيت وتأملت، وقرأت، والتقيت بصديقي القديم مايكل سايدنبرغ صاحب المكتبة السرية في منهاتن. العام الماضي تواصلت معه خلال زيارتي للمدينة ولم يصلني منه ردّ حتى يوم عودتي وكان مقتضب ومحبط قليلًا: المكان القديم لم يعد هنا، والجديد لم يجهز بعد. كنت أتوقع هذه اللحظة فقد حدثني في ٢٠١٤م عن مشكلة الايجار والمبنى الذي تحاول إحدى ساكناته إخراجه منه.  هذا العام وصلت وانتظرت حتى نهاية الأسبوع الأول من وصولي، وغرقي في سلسلة من المزاجات السيئة، حتى وصلتني رسالته المبهجة: نستقبلك في مكاننا الجديد، وندعوك لقضاء أمسية السبت معنا. ذهبت لتجربة جديدة، الجلوس والحديث وترك شراء الكتب جانبًا – اشتريت ثلاثة كتب في النهايةتعرفت على وجوه جديدة ومتميزة تتحدث بتواضع عن قصص مدهشة.

كان هناك بيل فقدت اسمه الأخير من ذاكرتيمعدّ ومنتج لوثائقيات من كاليفورنيا. وسط صمت المكان اللحظي التقطت اسم ماركيز وتحولت كلّي إلى برج مراقبة انتظر أن ينتهي من حديثه مع إحدى الزائرات لأطرح سؤالي الأهم: ماركيز؟ غابرييل غارسيا ماركيز؟ قال نعم وتحولت الأمسية إلى غيمة حملتني فوق سماء منهاتن. تحدث بيل عن لقاءه بالمايسترو وحضوره لورشة كتابة السيناريو التي أقامها في ٢٠١٣م. تحسون بهذه المشاعر؟ عندما يحدثكم شخص عن تجربة عظيمة وتتأثر كل خلاياكم من الحماسة؟ لم يكن بيل وحده المدهش هناك، كانت سيمونا اللطيفة أستاذة جديدة في كلية بكوينز وأعطيتها نصائحي القليلة والذهبية لما يجب فعله لتفادي موت روحك من التدريسصارحني مايكل تلك الليلة بأنّ التدوينة التي كتبتها قبل سنوات عن مكتبته السرية أوصلته وعشرات المهتمين من جزء الكرة الشرقي، تمنيت لو أنه يحتفظ بسجل تواقيع للمكتبة، وسعدت أيضًا وهو يحكي لبقية الزوار تلك الليلة عن المدونة السعودية التي أطلقت سيلًا من الاستفسارات والرسائل.  

حضرت عرض موسيقي آخر مع نيويورك فيلاهارمونيك، هذه المرة كان الأمر مدهش لأن الفيلم منهاتنيحوي واحدة من أحبّ المقطوعات الموسيقية لدي “Rhapsody in Blueلـ جورج غيرشوين. بالإضافة إلى أنّه من أجمل أفلام وودي آلن التي أجلت مشاهدتها.

المحافظة على رأسي فوق الماء يعني عدم الالتفات للمنغصات اليومية الصغيرة التي واجهتني خلال عطلتي، يعني أيضًا عدم التردد واتخاذ القرارت بسرعة. كل مرّة أعود من رحلة سفر أو إجازة ممتعة أحصى تجاربي المعنوية وأحتضنها، المقتنيات المادية دائمًا تأخذ مكانها في المقعد الخلفي ويكفي أن تكون محببة جدًا وقريبة لتذكرني بعطلتي السابقة وتملأني بالحماس لما هو قادم. جلست للكتابة عن مشاعري حول عيدي الرابع والثلاثين وتذكرت بأنني لم أحدثكم عن رحلتي حتى الآن وهكذا وُلدت تدوينة.

.

.

.

.

وثائقيات: أمريكا اللاتينية.

Wildest-Latin-America-Cover

قضيت نهاية الاسبوع في مشاهدة سلسلة وثائقية عن طبيعة أمريكا اللاتينية المذهلة. كل حلقة من السلسلة مدتها حوالي الساعة وتتحدث عن وجه من وجوه الطبيعة الملونة هناك. البدء بالأمازون العظيم، ثم باتاغونيا مرورا بالانديز والسهول والغابات. كل حلقة تحمل قصة بالاضافة لصورها الجميلة العالية الجودة، قصص عن الكائنات في تفاعلها المستمر فيما بينها ومع الطبيعة. كما تستعرض الحلقات صور تدمير الطبيعة الذي يأتي مع الحضارة وتأثيره على مناخ القارة بشكل خاص وعلى الكوكب كله. كنت أجلس على طرف الكرسي غير مصدقة للمعلومات التي اتعرف عليها للمرة الأولى، واتذكر دائماً قوله سبحانه وتعالى: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.”- الاسراء ٨٥

كيف تمكنت من مشاهدته؟

يُعرض على نتفلكس النسخة الأمريكية، ويتوفر على شكل دي ڤي دي، كما وجدت عدة روابط للمشاهدة المباشرة غير أنها تتطلب الاشتراك قبل ذلك. بحثت عن تورنت لأشارككم إياه لكني لم أجد!

.

.

.

71KPDUIiurL._SY445_

وثائقي آخر شاهدته عن صوت أمريكا اللاتينية والثائرة الارجنتينية مرسيدس سوسا. أن تشاهد هذا الوثائقي بعد دراسة وجه القارة الطبيعي يعني أن تسمع الانهار العظيمة والجبال والغيم في صوتها. غنّت لكل شيء، لكنّها غنت للشعب وهذا ما وضعها في القائمة السوداء وبدأ مطاردتها العظيمة التي نقلتها للمنفى. لقّبت مرسيدس بأم أمريكا، والسمراء، وصوت الأرض. واستمرت مسيرتها من خمسينات القرن الماضي وحتى وفاتها في ٢٠٠٩م . الوثائقي مشحون بالذكريات والصور والاغنيات وشهادة أفراد عائلتها وأصدقاءها، هناك أيضا تسجيلات للقاءات معها ومقتطفات من حفلاتها. سيحملكم في رحلة لا ترغبون في الانتهاء منها. كنت قد اقتنيت عدة ألبومات موسيقية لمرسيدس خلال السنوات الماضية، لكنني لم أتعرف عليها عن قرب حتى شاهدت هذا الوثائقي. يمكنكم مشاهدته عبر نتفليكس كذلك.

.

.

.

قدم هنا وقدم هناك

New York -Spetember 2014

لقد فعلتها!
انتقلت رسمياً إلى الرياض، وقبل نهاية العام. الآن انتظر انتقال بقية العائلة. واستمتع بالبدايات في عمل جديد. جديد كلياً علي. لم يسبق لي العمل خارج نطاق التعليم والتدريب وإن تعددت أشكال الوظائف التي استمر العمل فيها أكثر من ثلاثة أشهر. عملت لفترات متقطعة في الصحافة. لكن العمل الذي لم أتوقف عن أداءه أبداً كان: الكتابة. انضممت في نهاية ديسمبر لشركة ريز للتسويق الالكتروني، وهي شركة سعودية متخصصة في التسويق عبر الشبكات الالكترونية. فريق العمل في ريز مبدع وفي الرحلة بين التاسعة والخامسة مساء من كلّ يوم الهام جديد ومنعش! إنها المرة الأولى التي أحمل فيها مسمى وظيفي “كاتبة” لو استثنيت طبعا فترة العمل بالصحافة التي لم تكن وظيفة رسمية لي. هل يهمني ذلك؟ نعم جداً، هذا يؤكد أن الكتابة كعمل شيء مهم كالتنفس والغذاء والعلاج. ولو تحدثت عن مجال عملي بالتحديد كلّ الحملات التسويقية تعتمد على الكلمة قبل الصور والموسيقى. وبعد البدء بالعمل جاءت مرحلة شرح. طبيعة العمل لمن حولي وأخذت الطريق الأسرع: ابحثوا في غووغل عن مصطلح “كاتب اعلاني”. أو شاهدوا مسلسل Mad Men.

فعلتها.

قدم في الرياض وقدم في الجبيل حالياً. والسبب؟ قطتي هناك، ومكتبتي. اعتقد أن المرء لا يغادر المدينة تماماً، لا ينتقل بالكامل حتى يحمل كتبه معه. كتبي وحصاد السنوات من الورق والذكريات والصور وكل قصاصة دسستها لأعود إليها لاحقاً. قدمي الأخرى هناك حتى تصبح كل الصناديق معي.

مضى أكثر من أسبوع على آخر وثائقي شاهدته، على آخر فكرة عشوائية بدأت بها بلا استعداد. منذ بدء العمل وانتقالي للرياض كل شيء محسوب بدقة. أحاول استخدام كل الاسرار والنصائح التي ستساعدني في تنظيم وقتي. ما زلت ابحث عن توازن. أنام بشكل جيد، آكل بشكل متوسط، وتوقفت عن ممارسة الرياضة للأسف. أريد مزيد من الترتيب وأخشى على نفسي من الانزلاق في دوامة العمل ثم النوم ثم العمل من جديد.

انتهيت من رواية لرينيه الحايك بعنوان “صلاة من أجل العائلة” كنت بحاجة لشيء لطيف لملء وقتي ولتفاصيل، الكثير من التفاصيل الحميمة لحياة أحد. هل كنت أبحث عن مخرج من قلقي الحالي وانتظاري لانتقال عائلتي إلى جانبي؟ نعم بالتأكيد. الرواية جميلة جداً ولغتها ممتعة. اعتقد بأنني سأبحث عن كتب أخرى لرينيه وأتمنى أن تكون بنفس مستوى المتعة.

شاهدت قبل نهاية ديسمبر المسلسل الذي أُنتِج من قبل استديوهات أمازون “Mozart in the Jungle” المسلسل يتناول موضوع الموسيقى الكلاسيكية في نيويورك، تحديدا نيويورك فيلاهارمونيك. في المسلسل عدة شخصيات سترون من خلالها الأدوار التي يلعبها كل من المايسترو، العازفين، الإداريين في أوركسترا نيويورك. الموسيقى حاضرة بقوة في المسلسل بالإضافة للعلاقات العاطفية ونيويورك طبعاً. سيناريو المسلسل كتبه رومان كوبولا وجايسن شوارتز واليكس تيمبرز، واقتبس عن الرواية “Mozart in the Jungle: Sex, Drugs, and Classical Music” لبلير تيندال. تيندال سجلت تجربتها في هذه الرواية، حيث كانت عازفة لآلة الأوبو Oboeإحدى آلات النفخ. وهذا يذكرني بشخصية هايلي – التي قامت بدورها لولا كيرك-عازفة أوبو واعدة تبحث عن طريق للدخول للأوركسترا. المسلسل يستعرض آمال وطموحات العازفين الجدد، الحرب الدائرة بين المحترفين، وكيفية التجهيز والاستعداد لعروض السنة في نيويورك. أحببت مشاهدة المسلسل كثيراً لعدة أسباب: 2013م كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها عرض موسيقي حيّ وكان مع أوركسترا نيويورك. كل شيء شاهدته في المسلسل ملأ فراغات في ذاكرتي ومنحني مزيد من الدهشة. السبب الآخر: أي عمل لغاييل غارسيا بيرنال – الممثل المكسيكي الذي يلعب دور رودريغو المايسترو في المسلسل-أي عمل له مهمّ جداً بالنسبة لي ولا تفوتني مشاهدته. نسيت أن أخبركم نقطة مهمة عن المسلسل ستشاهدون فيه صراعات بين القديم والجديد، المايسترو القديم توماس – يلعب دوره مالكولم مكداول-يصطدم كثيراً مع رودريغو في البدء. مع أن الآخر يعتبره معلمه وملهمه. وعلى مدى الحلقات سنشاهد التغييرات التي ستحدث وكيف ستؤثر في الأوركسترا والعمل بشكل عام. الحلقات قصيرة وأتوقع أن تشاهدوها متتالية!

على صعيد آخر.

وصلتني عدة استفسارات على البريد الالكتروني وسأحاول الرد عليها إما بشكل مباشر أو من خلال المدونة. وأحببت مشاركات المتابعين على الاستبانة الخاصة بقراء المدونة التي نشرتها في نهاية العام. سأحاول دائما العمل بالاقتراحات وزيادة كثافة التدوين ما استطعت.

الاطلاع على تحديات القراءة التي وضعها الأصدقاء في الشبكات الاجتماعية مغري جداً، لكنني سأتبع طريقة جديدة مع نفسي لقراءة الكتب. تخطيط وبدون تخطيط. كيف؟ سأضع قائمة قصيرة لكل شهر واقرأ ما استطعت منها واترك مجال لمواضيع عامة أخرى في حالة أدهشني كتاب ولم أتمكن من مقاومته.

في مذكرة العمل تركت آخر عدة صفحات لتسجيل أسماء المقطوعات الموسيقية التي تعجبني واستمع لها خلال العمل. هذه السنة سنة العودة للورق، وأعرف بأنني إذا تركت المقطوعات في المفضلة على جهاز الكمبيوتر ستذهب للنسيان. تسجيلها في مذكرة أو دفتر خاص سيحفزني للعودة إليها والاستماع من جديد بمزاج آخر ومشاركتها كذلك. اسمعوا هذه معي:

2014م.

كانت سنة مدهشة بحقّ. قبل عدة أيام زرت الصفحة الخاصة برواية “كل شيء يمضي” على موقع غودريدز ولاحظت وجود عدة مراجعات باللغة العربية. في نوفمبر 2013م وبينما كنت ابحث عن المراجعات الخاصة بالكتاب لم أجد أي مراجعة عربية. كلها باللغة الإنجليزية. أكبر إنجازات العام كانت إتمام هذه الترجمة والاحتفال بنشرها ثمّ العودة لقراءة المراجعات الخاصة بها. كوني وضعت محتوى عربي متاح للقراء شيء منعش ويمنحني سعادة لا محدودة لا يمكن تقديرها بثمن.

أيضاً.
سافرت، تعلمت، وسيطرت على مخاوفي قليلاً.
وهذا ما أريده.

تولستوي باكياً.

.
.

“…لقد عبّر تولستوي عن رغبته في لقائي. إنّه شديد الاهتمام بالموسيقى. وبالطبع قمت بمحاولة ضعيفة لإخفاء نفسي لكن من دون نجاح. جاء إلى معهد الموسيقى وأخبر روبنشتاين بأنه لن يغادر إلا إذا هبطت للقائه. إن موهبة تولستوي الهائلة موهبة أجد نفسي في انسجام تام معها. إن معظم القوم سيعتبرون مقابلته إطراءً وتناغماً، ولم يكن ثمة طريقة لتفاديها. وحين قدم أحدنا إلى الآخر شعرت، بالطبع، بأنني موضع إطراء وسرور، لذا قلت إنني مبتهج، وإنني شاكر، في الحقيقة، كل الهراء المحتوم وليس فيه ما هو حقيقي. أريد أن أعرفك بشكل أفضل –قال لي-: أريد أن أتحدث معك عن الموسيقى. واستنادا له، فإن بيتهوفن يفتقر إلى الموهبة. وكانت تلك هي نقطة انطلاقه. هكذا بدأ، هذا الكاتب العظيم، هذا الدارس الألمعي للطبيعة البشرية، بنبرة قناعة قصوى، بأن تفوه بملاحظة كانت بلهاء وعدائية لكل موسيقي. ما الذي يفعله المرء في ظروف كهذه؟ يحاجج؟ طيب، لقد بدأت المحاججة فعلا، لكن أيمكن للمرء أن يواصلها جديا؟ ففي نهاية الأمر، كان الشيء الملائم الواجب عمله هو أن ألقي عليه محاضرة. لربما فعل هذا بالضبط شخص آخر. لكنني كتمت عذابي وواصلت التمثيل، أعني تظاهرت بأنني مجامل جدا وودّي. لقد زارني عدة مرات منذ ذلك الحين. ورغم أن معرفتي لتولستوي أقنعتني بأنه متناقض ظاهرياً، لكنه رجل طيب ومستقيم، بل إنه بطريقته الخاصة، حساس للموسيقى، مع ذلك فإن معرفتي به، كما هي مع أي شخص آخر، لم تجلب لي شيئاً سوى القلق والعذاب.

حين التقيت تولستوي تملكني الرعب والإحساس بالخرق. بدا لي أن أعظم دارسي الطبيعة هذا سيخترقني، بنظرة مفردة، إلى المواطن الأعمق في روحي. إنني لم أستطع، كما ظننت، النجاح في أن أخفي عنه كل الهراء الذي يقع في قعر روحي وأن لا أريه سوى الجانب المشرق من الأشياء. إذا كان عطوفاً كما فكرت، كما ينبغي له أن يكون وبالطبع كما هو عليه، كطبيب يفحص جرحاً ويعرف كل المناطق المؤلمة، فإنه سيتجنب برقة ورهافة لمسها وإشارتها، لكنه بتلك الحقيقة –بالذات- سيجعلني أعرف أنه من غير الممكن إخفاء شيء عنه، وإن لم يكن ودياً على الأخص فإنه سيطعن بإصبعه مصدر الألم تماماً. كنت خائفاً إلى حد مروع من كلا الاحتمالين. لكن لا الأول ولا الثاني حدث فعلاً.

في أعماله يظهر هذا الدارس الأكثر تعمقاً في الطبيعة البشرية، في تعاملاته الاعتيادية مع الناس بصفته رجل البساطة، والتماسك والإخلاص، لا يكشف إلا عن القليل حقاً من تلك القدرة الكلية التي كنت أخشاها كثيراً. إنه لم يتجنب اللمس لكنه لم يسبب الألم المقصود. كان من الواضح أنه لا يعتبرني موضوعاً لأبحاثه بل أراد ببساطة أن يتحدث عن الموسيقى، التي كانت تهمه في ذلك الوقت. لكنني ربما لم أكن في حياتي قط موضع إطراء وتأثر في غروري كمؤلف موسيقي كما حدث حين وجدت تولستوي وهو يجلس بالقرب مني ويصغي إلى الحركة المعتدلة البطء في رباعيتي الأولى، يتفجر باكياً.

في الشتاء كان لدي العديد من الأحاديث المثيرة مع الكاتب الكونت تولستوي، لقد كشفت لي الكثير وأوضحت الكثير. لقد أقنعني بأن الفنان الذي يعمل ليس باستجابة إلى دافع داخلي بل بحساب حريص للتأثير الذي سيحققه، الذي يقسو على موهبته بهدف الإرضاء، والذي يجبر نفسه على إشباع الجمهور، أن رجلا كهذا ليس بفنان حقيقي، وأن أعماله لن تدوم وأنّ نجاحه وقتي. لقد تحولت بالكامل إلى حقيقة هذا الرأي…”

– من كتاب سيرة تشايكوفسكي الذاتية لـ ألكسندرا أورلوفا.

الحلقة 26: إيغور سترافنسكي

tumblr_mg0iaup5pA1qaxihzo1_500

“استيقظ في الثامنة صباحاً، أتمرّن قليلاً، ثم أبدأ العمل بلا توقف من التاسعة حتى الواحدة بعد الظهر.” سترافنسكي متحدثاً إلى صحفي في 1924م. بشكل عام كانت تلك الثلاث ساعات أقصى ما يمكنه عمله يومياً. بالإضافة إلى ذلك كان يقضي يومه في كتابة الرسائل، نسخ النصوص الموسيقية، ويتدرّب على البيانو. إذا لم يكن سترافنسكي في رحلة فنية، فإنه سيعمل كل يوم على موسيقاه، بوجود الإلهام وعدم وجوده. كان يتطلب العزلة ونوافذ مسدلة الستائر قبل البدء. يقول سترافنسكي بأنه لم يتمكن أبدأ من العمل على موسيقاه حتى يتأكد أن أحداً لن يسمعه. إذا شعر إيغور بأنه عالق، يسترخي قليلاً ويريح رأسه.