أن تلتهم البسكويت في الظلام.

(أ)

شمس يوم الخميس على وشك الغروب، أعددت لي فنجان القهوة المعتاد وأخترت أكثر قطع البسكويت اكتظاظاً بالشوكولا المحلاة. إنّه من عجائب الفترة الأخيرة – مدة شهر أو تزيدأن أتمكن من الوقوف لأكثر من عشر دقائق في المطبخ، اتأمل القهوة وهي تقطر على مهل، استنشق رائحتها وهي تعبق في المكان تدريجياً، ثم اختار على مهل أيضاً طعاماً آكله بتلذذ وهدوء. قلت في تعليقي على الصورة أنني أحبّ عائلتي كثيراً، لكنني أيضاً أحبّ العزلة والهدوء. وصمتي، وقهوتي التي لا تلسعني وأنا اشربها وأفكر في ألف موضوع وفكرة تنتظرني على بعد خطوات. ليلة البارحة رأيت بول أوستر في الحلم، تحدثنا قليلاً، فكرت فيه بعمق عندما استيقظت، تذكرت أنّ النية مبيتة منذ شهور لقراءة كتابه اختراع العزلة“. جاءت الحاجة لقراءته مع تلذذي بالكلمة، أرددها بيني وبين نفسي، وأجزم خلال لحظات أن الأمر لن يتحقق بهذه السهولة، في هذه الفترة على الأقل.

أيضاً هذا هو الأسبوع الثاني من بدء المحاضرات الفعلية في الجامعة، سأعترف بأنني أشمّ رائحة إحباط خفيفة، أرجو ألا يستمر الوضع، ربما كانت الطالبات في حالة فوضى، ربما الاجازة القصيرة دمرت حماسهم، ورفعوا أقدامهم عن دواسة السرعة. المادة التي أقوم بتدريسها الآن لها جانبين نظري وعملي، لم نقتحم العملي بعد، لكن الامكانيات المادية قد تقلل أو تجعل التطبيق صعباً، أفكر في عدة حلول أرجو أن تنجح. كتاب أوستر رائع مع أنني لم انتهي منه بعد، قد تثير حماستكم المقالات التي تحدثت عنه هنا، وهنا، وهنا.

المكان غارق في الظلام الآن، واكتشفت أن أكل البسكويت في الظلام ممكن، عليكم التحقق لاحقاً من تناثر القطع على الارض، وإلا سيغزوكم النمل، انظر لمفتاح الاضاءة البعيد وأشعر بالاعياء، إعياء حقيقي، لم أشعر به منذ سنوات، رأسي يضج بالكلمات والخطط، أكتب يوميا في دفتر خصصته للكتاب الذي ولد بصورة مفاجئة بعد انتهائي من كتاب ستيفن كينغ عن الكتابة، لا أريد لهذه الفكرة أن تنضب. أنا متعبة، طبقة من التردد والخوف تغلّف قلبي لكن ثقتي وشجاعتي – التي أحسد نفسي عليهاأرجو من الله ألا تخذلاني.

متابعة قراءة أن تلتهم البسكويت في الظلام.

أنا لستُ أولمبية.

أتمنى منكم ترك أي توقعات مسبقة حول محتوى هذه التدوينة جانباً، هنا حكاية بطولة شخصية .

كان الزمان صيف ١٩٩٤م، في المنتصف تماماً بين برشلونة واتلانتا، وكنت طالبة في المركز الصيفي الذي يبعد عن بيتنا شارعين تقريباً، لماذا اشتركت؟ بسبب فضولي! تلك الهالة التي تصنعها الزميلات بعد كلّ صيف، والرموز والحكايات المشتركة بينهنّ، لماذا لا أكون جزءا من هذه المغامرة إذاً؟ وسجلت بعد صراع مع والدتي التي لا تصدق أنها استراحت من دوام الدراسة الرسميّ، حتى نطالبها بدوام جديد، ومن تمشيط الظفائر العنيدة لاختيار ملابس صالحة للارتداء في رحلتي اليومية، هنا ورطة لمن تمضي جلّ وقتها في ملابس المنزل، ولا تملك سوى مريول المدرسة وشرائطها البيضاء – لم يكن شيء آخر يهم-. في البدء قسّم الثلاثي المكون مني ومن أخواتي على ثلاثة فصول، في كلّ منها تُحشر الفتيات في فئات عمرية مختلفة، الكبير والصغير، المراهقة والطفلة، الأم، المدرسة، الخ . المهمّ هو أننا نجتمع وننهي المدة المطلوبة من الحضور والوصول لحفل الختام، والبوفيه! لم ابرع في شيء، لم اتمكن من حفظ النصوص المقررة من الشعر العربي، ولم احفظ القرآن، ولم احضر حصص الطهي التي تمّ استبعادي منها قسراً بلا سبب. وكلّ يوم تحاول والدتي اقناعي بالعدول عن الذهاب، والبقاء في المنزل ومشاهدة الكرتون، لا حياة لمن تنادي. لكن وفي إحدى الأيام كوفئت على صبري الطويل، وانتظاري لشيء محفز وايجابي أخرج به من المركز واتحدث عنه طويلاً بعد الصيف. لا .. لم اتأهل للحفل الختامي، ببساطة لم أكن امتلك الشخصية اللامعة والتأثير الذي يمنحني الحقّ في الامساك بالميكروفون والغناء – أو الانشاد في هذه الحالة ، ولا الاتزان الكافي لتوزيع المرطبات والحلويات على المدعوات، ولا الطول لحمل العلم أو اللوحات المصاحبة للعرض الحماسي. حدث أن شعرت مسؤولة النشاط في صفنا بالملل، وقررت تجربة شيء جديد، ابلغتنا أنها في الغد ستنظم سباق للعدو، خارج المبنى، حول المبنى بشكل أدقّ، وأننا سنحتاج لارتداء سراويل رياضية إنما تحت الفساتين والتنانير الطويلة التي نأتي بها للمركز، وأي طالبة ستخالف ذلك ستعرض نفسها لعقوبة : البقاء بالعباءة داخل المبنى. بلا تفكير، رفعت يدي عالياً وأعلنت بأنني سأشترك. لم أفكر في سروال الرياضة المطلوب، ولا قدرتي على المباراة، ولا شيء!

عدت للمنزل واخبرت والدتي، التي بالمناسبة تكره المفاجآت، تكره المفاجآت منذ استيقظت يوماً بعد قيلولة متعبة ووجدت بأنني منحت نفسي قصة شعر جديدة. أي مفاجأة اقدمها لها، ستكون من العيار الثقيل. لكنها على عكس ما توقعت قررت حسناً ستشاركين، لكن هيفا لا تملك سروال رياضة، على الاقل بحالة جيدة تسمح لها بالركض به أمام الجمهور. ماذا تفعل والدتي؟ تخيط لي سروالاً، وبسرعة جهزت السروال، الذي بعد ارتداءه تبين لي أنه شروالربما حدث خطأ في القياسات أو القصّ، لكنّ والدتي نادراً ما تخطئ في هذه الأمور، إنه حظي، واعلنت والدتي بأنه من الافضل تغيير رأيي وعدم المشاركة. لا لا لا .. سأشارك.

في الغدّ ارتديت فستان جميل يشبه رقعة الشطرنج خاطته أمي منذ زمن، وحملت شروالي الاسود في كيس، وانطلقت للصف، لم استمع للعظات، ولا نصائح الفتيات الهامة في ذلك اليوم، كنت انتظر متى تعلن خروجنا للباحة الخلفية، وكانت تتلكأ، خشيت أن تعلن فجأة أننا لن نتسابق، ولكن اللحظة حانت وخرجنا. طبعاً أخواتي على علم بالسباق، وكانوا متأهبين مثل بقية الصغيرات الواقفات قرب النوافذ المطلة علينا. اصطففنا وكدت افقد حماسي ووعيي عندما أعلنت الانسة سين والتي بالمناسبة أطول فتاة عرفتها في حياتي، كانت طويلة ونحن اطفال، طويلة في المدرسة، طويلة في الجامعة وربما طويلة في بيت زوجها الآن. اعرف أن خطوة الفتاة الطويلة طويلة ايضاً، وبقية المشاركات كنّ شهيرات بالعدو في وقت الفسحة بينما اصاب بالدوار وارفض تناول طعامي وأنا اتمشى، الآن تظهر الحاجة لجسد دائم الحركة، جسد نشيط، لا يختل توازنه، اتراه مرتبط بالحبو؟ أنا لم أحبو، أنا جلست طويلا، ثم وقفت ومشيت.

اصطففنا، بشكل مائل، شيء يشبه سباق العدو الذي شاهدته في التلفاز مراراً، شددت على أسناني والتفت باتجاه أخواتي الصغيرات لن أخيب ظنكم اليوم“. 1 استعداد، 2 انتباه، 3 انطلاق، وانطلقنا، كل شيء رمادي، توقفت عن الاستماع لشيء آخر سوى انفاسي، وارتطام الحصى الصغير بحذائي الجلدي الذي ارتديته بلا جوارب – يا الهي – . ركضت كأننى طريدة أمام حيوان مفترس. ركضت حتى نسيت التنفس، ركضت حتى بدأ الشروال بالانزلاق، وبدأ كل شيء يتهاوى، التركيز الآن يتشتت، يداي طليقتان، تساعدني في الاسراع، لكن في حالة فكرت الامساك بصديقي الذي ينزلق ستتراجع سرعتي وقد افشل. تجاهلت الموضوع ركضت وركضت، ولم استطع التوقف حتى بعد الوصول لخط النهاية.

بعد هدوء عاصفة الغبار خلفي، وترتيب نفسي، صفقت لنا المسؤولة بحماس، رائع رائع، أحسنتم، والآن توزيع الجوائز. ما زلت ابحث عن رئتي، وصوتي، وعيناي، بعد كل هذا الركض أعلنت النتائج وكنت في المركز الرابع، ضمن سبعة متسابقات، والجائزة علبة بيبسي. . حار.

يتحرّك الزمن ببطء رحيم.

(أ)

يمكنني الحديث عن أيامي بأنها تطابق رهيب مع عنوان هذه التدوينة، الذي بالمناسبة اقتطعته من حديث طويل لجون أبدايك. كلّ صيف، صيف انتظار بالنسبة لي، لكن هذه السنة الأسوأعلى الاطلاق، أعوذ بالله من السوء، السوء هنا سوء الانتظار وسطوته على ذهني، لا استطيع الانشغال بشيء دون السقوط مرة أخرى في هاوية انتظار. انتظار أن تتضح الرؤية بخصوص عمل جديد. وانتظار انفراج في واجباتي الاكاديمية. الانتظار والبطء جيّدان، ربما هي الفرصة لأستعد للتغييرات التي ستحدث في حال حدثت، أو تمرين إضافي لتمارين الصبر التي نجحت فيها طوال حياتيأقرأ، أمضي ساعات اليوم في التنقل بين الدور العلوي والسفلي، شرب الكثير من الماء، لا أنسى أن حبة الفيتامين بعد وجبة الافطار أفضل لأنّ وقت امتصاصها مثالي، أحارب النسيان بتدوين يومياتي بسرعة، أكافح للالتزام بمشروع السنة ورسائلي لهيفا الصغيرة، يتوعك والدي قليلاً ثم يجتاز الوعكة، تتوعك والدتي قليلاً ثم تجتاز الوعكة، وبين هذا الوقت وذلك أدعو الله أن يحفظهما ويطيل بقاءهما، لا شيء يسندني في توعكي وتعثري مثلهما. أتابع الأخبار على أربعة قنوات اخبارية، أقرأ صحيفة واحدة لكلّ يوم، ولا أعود لقراءتها حتى يدور الاسبوع من جديد، أتابع أخبار ثلاثة ولايات أمريكية، اقرأ في كتابين، والثالث احتياطي لو غضبت منهما. أكتب وأشطب. أنام جيداً، اتبع حمية منذ ٣٦ يوماً، ونجحت في تقليل أرقي وشعوري بالكسل، تناولت حبوب الافطار الكاملة مع الزبيب، اتسوق للمنزل مرتين اسبوعياً بينما ينتظر والدي في السيارة، استمع للموسيقى الكلاسيكية، اكتشف لطفي بوشناق في حفلة ولا يتوقف الالبوم من الدوران. أفكر في مدونتي، افكر فيها كل يوم، افتح الصفحة أريد أن أقول شيئا ولا أجد. احضر مفاجأة لأخوتي في بلاد العمّ سام، وانتظر، يفتحون الصناديق أفرح وأعود لدوامتي من جديد، هذه الحياة، يجب أن يتوقف هذا الانزعاج سريعاً قبل أن يقتلني.

(ب)

سأتوقف عن الغضب من التوافهتوقفت عن محاسبة الاخطاء، الاخطاء تمحى لا شعورياً، مثل الغبار في غرفتي، اذا تجاهلته انزلق للخارج دون أن انتبه.الغضب من الشامبو الذي يقتحم عيني بعنف ويحرقها، هذا الغضب تافه، خصوصاً إذا عكر مزاجي، وتخيلت أن الارض كلها تقف ضدي بسببه، ما هذا؟ توقفت عن الغضب عندما خرجت يومها لأجد رسالة من صديقتي تخبرني بأن والدتها غادرت الحياة بعد صراع قصير مع السرطان، وددت لو أنّ سكب علبة شامبو كاملة في عيني ومقاومة غضبي سيعفيني من شعوري القاتل بالذنب. اغضب ويتعكر يومي لسبب تافه. بينما تعالج صديقتي قلبها المفجوع.

(ج)

أمرّ بكثير من الاشياء الجميلة، وأملك الوقت الكثير للحديث عنها، لكنني لا أجد الكلمات.

(د)

هذه التدوينة تطمين لي بأن مدونتي ما زالت على قيد الحياة، وربما رسالة لمن يقرأ، سأعود قريبا بالمزيد – ان شاء الله – شاهدت وثائقيات رائعة، وفيلم سينمائي، وقرأت كتاباً، ولديّ مجموعة من الروابط الالكترونية وتوصيات شرائية! لكن الكلمات ناقصة.

عفشك .. هويّتك !

التقطت هذه الصورة قبل عدة أيام، ما إن فعلت ذلك حتى استعدت من ذاكرتي قصيرة المدى مشهداً في مسلسل كوميدي أتابعه، صديقه تتحدث مع صديقتها عن برنامج رائع على التلفزيون، فكرة البرنامج أن يأتي المشاركون بحقائبهم المعنويةويتحدثون عنها من الأكبر للأصغر، ما الذي يحمله المسافر – عبر الحياة – ويشكل ثقلاً على كاهله ؟ الفكرة الرائعة لمعت في ذهني، وقاومت التدوين على الرغم من أنني وفي بعدي عن المنزل اتيحت لي فرصة استخدام الحاسب الشخصي لقريبتي. القصة ليست هنا تحديداً، القصة أنني تخيلت نفسي في صالة انتظار لا نهائية في مطار رحلات الحياة، وحولي حقائبي عفشيالمعنويّ، مضحك المنظر، تذكرت تأملاتي للمسافرين بينما يعبرون أمامي بالعربات وحقائبهم كومة فوضى، ويزيد عليها صناديق مغلفة كيفما أتفق، صناديق أغذية، أكياس صغيرة متناثرة، هذه الفوضى التي تزعجني في المسافرين، وخصوصاً عندما يركبون الطائرة ويبدؤون بضغط امتعتهم بقوة لحشرها في الصناديق العلوية. هذه الامتعة – الفوضى العارمة – هي بالتحديد حقائب حياتي التي أحملها، فكرت فيها وعددتها حتى تعبت من العدّ، لا أشعر بالفخر أبداً، وزاد تركيزي على هذه النقطة بعد أن سألت أختي عن حقائبها التي تحملها وفاجأتني بأنها اثنتين، واحدة ضخمة تكلفها رسوم الامتعة الزائدة كل مرّة، وأخرى خفيفة تحملها في يدها، يا ليت كنت كذلك ! المثير للاهتمام أنّ عفشي الافتراضي عندما عرّضته للنقد والبحث وركزت جهدي في تأمله، وجدت أنّ بعضه حقائب صغيرة ما إن تفتحها ستجد أوراق بيضاء صغيرة وفارغة، لا شيء مهمّ ! لماذا هذه المساحة ولماذا كاهلي المُثقل ؟ بالأمس وبينما صحبني والدي للمنزل من المطار كان يفكر بصوت مرتفع، ويروي لوالدتي خططه المستقبلية – المرتبطة بي – وكلما سمعت نبرة الحماس في حديثه كلما تحسست أكبر الحقائب التي احملها الآن، آماله هو، تطلعاته هو، والسيناريو الذي يعيش وينتظر أن يحققه من خلالي، تخيفني طريقتي في تصنع الحماس أحيانا، برغم معرفتي بحجم المطب الذي أمرّ من فوقه. حقائبي الأخرى وفوضاها لم تتراكم إلا بسبب كسلي أنا، هناك أيضا الأمتعة التي يتركها الآخرون ويرحلون، ما جعلني أعلن قبل عدة أيام أيضاً الرجاء من المسافرين الانتباه لحقائبهم، قفلنا مكتب المفقودات “.

طبعاً ، لم استطع مقاومة البحث أكثر في موضوع الامتعة هذه، ووجدت تدوينة باللغة الانجليزية سأحاول باختصار نقل بعض محتوياتها عن الموضوع. في الجزء الأول منها تتحدث عن تنوع مصادر الامتعة التي نحملها وفي المجمل تحصرها في ثلاثة مصادر : ١معتقداتنا حول أنفسنا والآخرين والعالم ، ٢مشاعر وقيم نحتفظ بها لأنفسنا بسبب خوفنا من التعبير عنها ، ٣المهارات التي طورناها واتقناها لتساعدنا في العيش مع الآخرين وتحقيق أهدافنا .

ثمّ تقترح علينا إعادة تنظيم هذه الأمتعة عن طريق طرح بعض الاسئلة على أنفسنا: ماذا نحمل معنا؟ منذ متى نحملها؟ هل قمنا بتوظيبها بأنفسنا أم وظبها آخرون؟ هل ما زالت هذه الأمتعة تؤدي الغرض الذي نحملها من أجله؟ ويمضي المقال لوصف شكل الحقائب الخارجي الذي يشي بأهميتها ونوعية محتواها. ثمّ في الجزء الثاني تفصّل الكاتبة المحتوى وتتناول المعتقدات والأفكار التي نحملها وبعض الأمثلة عليها، والمشاعر وعبئها الخاصّ . في الجزء الثالث تطرح فكرة رائعة وحقيقية تتلخص في استخدام العربات المدولبة، لحمل كلّ هذه الأمتعة والعربة مجازاًقد يُقصد بها الإدمانات أو أي شيء نهرب إليه للتخلص من كل هذه الأعباء.

والآن بعد هذا العرض أعلاه، ومحاولة تقريب الفكرة، أتمنى أن تحدثوني عن عفشكم الخاصّ

العلامة الفارقة: ثلمة في الوجه !

عندما سكنا بيتنا الحالي كانت الغرفة الأكبر غرفة البطات الثلاث أنا وأخواتي، لا يمكن أن تكون تلك الأيام قد مضت بلا فائدة تذكر. تعلمت فيها الكثير، ضبط جدول النوم مثلاً، التعامل مع المساحات الضيقة، والمزاجات الضيقة إذا تطلب الأمر ذلك. وكانت الفترة التي اكتشفن فيها كوابيسي وهلعي من الفقد. الشيء الوحيد الذي لم نتمكن من تجاوزه أو التفاهم معه، اختلاف اذواقنا الموسيقية. العلامة الفارقة الأولى في منزلنا والتي لم تنجح ضربات الطلاء الثلاث في اخفاءها هي قطرات البيبسي التي التصقت بالسقف عندما ألقيت العلبة المعدنية – في صيف ١٩٩٦م تحديداًباتجاه أختي عندما رفضت إغلاق الراديو وواصلت الاستماع لأغنية ” Faith ” لجورج مايكل، ذات الاغنية بعد تلك الحادثة أصبحت ما نسميه بـ أغنيتنا ! تم طلاء الجدران ثلاث مرات خلال السنوات التي مضت، ولم يفكر أحدٌ في طلاء السقف الذي كان لونه المبهم متناسقاً مع كل طبقة. وكلما نظرت لزاوية الغرفة أذكر ذلك اليوم وعلبة البيبسي التي أخطأت رأسها وأصابت رأس الغرفة. في كلّ بيت علامات فارقة، مثل الوشم، مثل الجرح الغائر، لا يمكن أن يطالها التغيير، بل إنّ ساكنيه يكبرون ويتغير كلّ شيء في حياتهم وتبقى تلك العلامة شاهدة. في الصورة أعلاه، جدار المطبخ، الذي يشكّل خلفية لماكينة القهوة التي تدور حولها أحاديث الصباح، والعصر، وما بينهما، في كلّ مرة يقف أحدنا ليعدّ لنفسه القهوة سينظر لهذه الخطوط الخضراء ويتذكر، كانت هنا قطعة خشبية تعلّق ويعلق عليها ورق القصدير، وورق التغليف البلاستيكي، ثبتتها والدتي بالغراء الساخن، وثبتت طويلاً، حتى جاء يوم حار في أغسطس وتهاوت، لم يبقَ من تلك المنصة إلا هذه البقع الخضراء، وبقايا الغراء الذي لا يفكر أحد في إزالته، حيث أنّ ذلك ممكن، أفكر هل هو الانشغال، أم أنّ البقع نجحت أخيراً في تسجيل نفسها ضمن العلامات الفارقة للمنزل. في استراحة الدرج المؤدي للدور العلوي، ستجدون ثلمة واضحة في أسفل الجدار، في قطعة الرخام التي تربطه بالدرجات، وسببها كان عندما كانت العاملة المنزلية ومعها أخي ينقلون سريراً مفككاً إلى قطع خشبية للدور السفلي انزلقت منهم القطعة الخشبية الاثقل وهوت باتجاه الجدار، وكُسرت قطعة الرخام، في كل مرة نقترب من الانحناءة السريعة ننظر للشق ونتخيل أنّه يسرب حكاياتنا للخارج كلّ مساء ! في صغرنا أيضاً كنّا نخترع اللعب، أعتقد أنّ اللعبة التي سأحدثكم عنها الآن والتي تركت علامة هي الأخرى ليست من اختراعنا تماماً، اختراع الفضول، اللحظة تلك ربما، كنا نبلل مناديل الورق ونرمي بها لأعلى نقطة في المنزل، الصالة الرئيسية في الدور السفلي تفتح على مدى ارتفاع البيت، وتمتد للدور العلوي، كانت المناديل تصل لأبعد نقطة ، ينزلق بعضها ويسقط سريعاً، البعض الآخر يصمد ليوم أو يومين ثم يجف بفعل هواء المكيف، ويقع أخيراً. وهناك القطع العجائبية التي صمدت لأكثر من عشرة أعوام ، وهذا هو الجزء المخيف من القصة، أذكر أنّ والديّ امتعضا بسبب الفوضى والهمجية في تلك اللعبة، لكن لاحقاً وفي كل مرة يرتفع فيها نظرنا للجدار الأعلى نجد المناديل صامدة، كل يوم ننتظر وقوعها، ومرت الأيام، والسنوات كذلك ! وما زالت في مكانها ، وأزيلت بأداة كشط عندما صبغنا الجدران مؤخراً. كان يمكننا توديعها في طقس مهيب، كنا كمن أزال شامة جميلة من وجهه للأبد . من العلامات الأخرى، المسامير التي حفرت بشكل خاطئ، اللوحات المائلة للأبد، الإنارة المعطوبة الغير قابلة للإزالة، أخطاء البناء الخارجي التي احتاجت لعين ثاقبة لتستدل عليها، الخربشات الصغيرة على جدران الأماكن التي لا يرتادها الضيوف، متعة العثور على هذه العلامات وتسجيلها للتاريخ أحببت الحديث عنها في هذه التدوينة، وهي فرصة كذلك لاستدراجكم لمشاركتي بما وجدتموه في بيوتكم .