11 رمضان

أبحث عن الهدوء. في كلّ شيء. أريد أن انصت لنفسي جيداً. أريد ألا أضيع الآن وقد وجدتني. أريد ألا يحجب الضباب عيناي من جديد. أريد أن تبقى قدماي على الأرض طويلاً، ولا مانع من ارتفاع رأسي للسماء. أريد إجابة لدعائي، أريد الرضا والسلام والسكينة. أريد أن ابتسم ولا أفكر في الآتي. أريد أن أكون ثابتة في اللحظة، مع نفسي، الآن.

حتى بي بي سي تخفق أحياناً.

 

shujaa

 

(أ)

الموسيقى التصويرية التي تسبق بدء نشرة الاخبار على قناة BBC WORLD لم تتغير منذ سنوات، حتى أنها تستخدم في القناة العربية كذلك، تمرّ الموسيقى وتبدأ عناوين الاخبار بالظهور بصوت المذيع، وخلال عدّ تنازلي حتى رأس الساعة، تتلاشى الموسيقى تدريجياً وتبدأ النشرة. ما حدث هذه المرّة مختلف، ظهرت المذيع بشكل مفاجئ وقبل انتهاء العدّ التنازلي، ارتبك وانهمك في تعديل جلسته ورفع الاوراق وفرزها في ثوانٍ هذه إشارة للمصور دائما اظن ذلكولكن خلال ثوان أيضاً اختفى المذيع وعادت الموسيقى التصويرية للظهور والعد التنازلي والعناوين، صوت المذيع مرتبك وهو يقرأ أهم الأخبار، لكنّه ما إن عاد للظهور ابتسم، المذيع الذي اعرفه منذ ١٧ عاماً، كان وسيماً آنذاك وكنت لا أفوت نشرة يقدمها، والآن أصبح أكثر وسامة بشعره الأبيض وتجاعيد عينيه الدقيقة، كيف يكبر الاعجاب معنا؟ يعني أفكر لو أنني عدت للوراء ١٠ سنوات وبقي المذيع على هيئته الحالية لأدرت القناة فوراً وبحثت عن مذيع وسيم آخر، الأخبار هي هي، المصائب والكوارث الطبيعية والاحصاءات الكاذبة، وابتسامات السياسيين البلاستيكية، سأخلط القنوات في رأسي وأكون نشرتي الخاصة على أية حال ولن يكون التلفاز مصدر المعلومة، لكن بينما احتسي قهوة العاشرة صباحاً أريد تأمل وجه جميلحتى بي بي سي تخفق، هذه الاخطاء الصغيرة التي تحدث بينما لا أحد ينظر، أو ينتبه، لا يحدث كارثة، قفزة صغيرة بعد هبوط اضطراري، نفض الغبار، والابتسام! حتى البي بي سي تخفق لذلك هوّنوا عليكم قليلاً وأنا سأهون على نفسي، لم نأتِ لهذه الحياة لنكون صورة للكمال. المتعة كل المتعة في العفوية، وتطبيق مبدأ الوابيسابي الذي حدثتكم عنه سابقاً.

(ب)

شاركت للمرة الأولى في سحب على سيارة أمريكية من شركة فورد، لم أخطط لذلك، لكن حدث أن كنت في السوبرماركت المحليّ ذات مرة وثقبت ميزانيتي بالتسوق ومدّ لي الموظف ستة كوبونات للمشاركة، اخبرني بالاجوبة مسبقاً ولم يمنحني الفرصة للتفكير حتى! وقال ضعيها هناك في الصندوق والسحب بعد حوالي شهرين، فعلت ذلكوكنت في كل رحلة تسوق اسبوعي التفت باتجاه السيارة وأخبرها أنها لي وأننا سنلتقي قريباً، وانتظرت الرابع عشر من مارس، وعشت قصة شبيهة بقصة جرة الحليب على رأس البائعة المتحمسة لمستقبلها، واشتريت البيض وبعته، واشتريت بقرة حلوب ودجاجات، وسافرت، وتسوقت، واعطيت لصديقاتي مبلغاً محترماً ولعائلتي، وانتظرت كل يوم، حتى وصلت لليوم المحدد للسحب، وعشت حالة من التوتر الغريب الذي لم أشعر به من قبل حتى بانتظار نتائجي الدراسية، اتصلت بالاستعلامات لطلب رقم السوبرماركت وقال الموظف بأنه لم يسجل في النظام، عدت لفواتيري وكان الرقم المسجل بها عبارة عن أصفار متراصة، ما الذي يحدث؟ الكون كلّه يتفق على منحي المزيد من القلق والترقب. مر المساء سريعاً لأنني فكرت باستضافة صديقتي التي تجيد التهام الوقت معي، شعرت فجأة بأنني تخليت عن الانتظار، لم أعد لمراقبة الهاتف الذي احتفظ ببطاريته مشحونة طوال اليوم تحسباً لاتصال أو رسالة من إدارة السحب. ذهبت للسوبرماركت في الصباح بعد يومين، وتبضعت، وثقبت ميزانيتي من جديد، تذكرت أيضاً أنني اقتنيت من نفس المكان في المرة السابقة انبوب معجون أسنان بنكهة النعناع النقي، وفوجئت بعد فتحها واستخدامها أن المعجون بالقرفة، جربته عدة مرات وشككت في قدرات تذوقي، وجربته مع أفراد العائلة، فعلاً المعجون بالقرفة وليس بالنعناع النقي كما تظهر الانبوبة! قلت للبائع بينما كان يزحلق المشتريات بامتعاض لقد اشتريت منكم معجون اسنان بطعم النعناع ولكنّه لم يكن كذلك، كان بطعم القرفةقال:”وأين المعجون؟كانت ردة فعله مستفزة للأمانة، والقى السؤال بسخرية، فرددت عليه بذات اللهجة هل تعتقد بأنني سأحمل انبوب معجون اسنان في حقيبتي أينما ذهبت؟، أنا اخبركم لتراقبوا المنتجات فقط“. وبعد هذا الاحتقان فوجئت بأن الفاتورة أكبر من المبلغ النقدي الذي أحمله، واعتذرت وبينما كنت ابحث عن حلّ سريع كان يرسل نظرة سخرية أخرى، شعرت بأنني أريد ترك مشترياتي والركض للشارع، لكن الفراولة الطازجة عزيزة على قلبي، وعلبة العصير، وشرائح اللحم البقري والخبز الالماني بالحبوب! دقيقة لدي الحلّ، اخرجت بطاقتي البلاستيكية المنقذة، أعظم اختراع بشري بعد مسكن الألم والانترنت. ودفعت ما تبقى، لم تنتهي الحوارات بيني وبين الموظف، وقبل خروجي قلت له: هل انتهى السحب على السيارة؟ قال: نعم، وكان هناك فائز محظوظ. ما لم يقله وقالته عيناه: فائز محظوظ ليس أنتِ!

(ج)

الصورة أعلى التدوينة التقطها أخي خارج منزله في بنسلفانيا الامريكية، أحبّ أنه يحب التصوير، وأحبّ أيضاً الاشارة لحبّ التصوير وجمع الصور والذكريات كجينة عائلية مميزة ومهمّة لديّ. الصورة جعلتني أفكّر في الأمر الذي انتهجهأو أحاول المحافظة عليهالتركيز على اللحظة الحالية، التركيز على تفصيل واحد، التفصيل الأكثر وضوحاً في الصورة، وترك الهامش في الخلفية، الهامش عديم الوضوح، نقص التفاصيل دائماً يربكني، وبدلاً من التركيز على الصورة الواضحة القريبة المتاحة والبعيدة كلّ البعد عن القلق، تشغلني التفاصيل المغيبة في الخلفية. وهذا متعب، أعرف أنّني لم آتي بجديد، لكن أظنّ أن الوقت لم يتأخر لأتخذ قراراً حاسماً بالتخلي عن الصورة المهزوزة حتى تقترب، والتفاصيل التي لم تأتِ بعد ستأتي في وقتها المناسب.

(د)

كونشرتو التشيلو هذه استثنائية، ليست لأنّ مؤلفها إلغار Elgar كتب تحفة فنيّة، بل لأنّها اصبحت مرتبطة بالعازفة جاكلين دو بري بسبب أدائها المذهل وترجمتها للموسيقى لتصبح قطعة من روحها. التصوير أيضاً يُظهر زوجها دانييل بارنبويم عازف البيانو وقائد الاوركسترا الشهير، الذي بقي متزوجاً بها حتى وفاتها في العام ١٩٨٧م بعمر الـ ٤٢، جاكلين انهت حياتها الموسيقية باكراً بسبب اصابتها بالتصلب اللويحي، وبقيت هذه المقطوعة لتذكر بروعة ما كان ينتظر المستمعين لو استمرت.

هُما.

(أ)

يحبّ من عملها شيئاً واحداً، أنها مساء السبت تمدّ له القلم الأحمر وتطلب منه ترك ملاحظات على أوراق الطلبة الكسالى، فيبدأ بالارتجال وفقاً للدرجات التي حصلوا عليها. يفعل ذلك بينما يتخيل وجوههم وهم يستلمون الاوراق، الخجل البادي عليهم، أو الغضب، ويعود ويتحقق منها هل ما يفعلونه صائب؟ نعم تجيبه وهي تبتسم ابتسامة التردد التي يحبّ.

(ب)

تنهره في كلّ مره يعطس ولا يتبع العطاس بـ الحمد لله، تنقصك الكثير من العادات الطيبة تقول له، حسناً إذا كنت لا تبحث عن الدعاء لك، على الأقل لن تفزعني بالتفكير ماذا حصل؟ هل اختنقت؟ هل أنت هنا؟ احتاج لما يكسر صمتنا الطويل بينما ابحلق في الاوراق المكدسة وتنهمك مع برامجك السمجة.

(ج)

إنها مصابة بوساوس كثيرة، من بينها حبّ التنظيم، إنها تفسد حياتها بالتنظيمكان يحدّث نفسه بينما يراقب كيف تجمع الاوراق الصغيرة وتصفها فوق بعضها حسب المقاس، واللون، ثم تعود لوضعها في مظاريف، ماذا ستفعلين بها؟يسأل بصوت عالٍ، وتردّ بامتعاض سأنثرها على الأرض”يتذكر كيف تحول الصالون إلى ساحة معركة، مهما بدا الأمر مضحكاً إلا أنه تحول تدريجياً إلى الجدّ ولا شيء غيره، فبعد سهرة طويلة في مشاهدة مباريات مسجلة متتالية، تحولت السجادة حول كرسيه الوثير إلى احتفالية بالقشور، وأغطية زجاجات البيرة، قلامة اظافره، شعر الهرّة والكثير من الغبار. لم تغضب كعادتها، ولم توبخه كما لو كان أحد طلبتها، أحضرت شريطاً لاصقاً وبدت منهمكة في مخطط سرّيلم يبق طويلاً كذلك– . قسمت الصالون إلى قسمين وأشارت باتجاه مكتبها ومدخل المطبخ وطاولة الطعام، هذه منطقتيحذّرته، والآن استمتع بمهرجانك اللطيف”يعلق الضيوف أحياناً أن تغيراً طفيفاً في لون السجاد يفصل الصالون إلى ناحيتين، طبعاً هي لا ترغب في إحراجه وإحراج نفسها، في كلّ مرة يزورهم ضيف تزيل الشريط وتعود لوضعه لاحقاً، ألم يقل لكم أنها مصابة بوساوس كثيرة؟

(د)

تمنعه من التدخين في المنزل، وتستمتع بمنظره وهو يرتعد في ليالي الشتاء ليدخن سيجارة في الشرفة، يشبه كلب حزين، تضحك قليلاً ثمّ تحزن معه.

(هـ)

يمنع نفسه من السعال بصوت مرتفع داخل المنزل، يعرف جيداً أنه ما إن يفعلها ستعلّق بغضب، وستبحث عن صور مخيفة لمدخنين مخضرمين، ولن تتوقف حتى تشاهده يرمي بآخر علبة سجائر بنفسه في صندوق القمامةيمنع نفسه من السعال في المنزل ويستغل وصوله المبكر لعمله، ويسعل كأنها فرصة رئتيه الوحيدة للكلام، يرتد صدى سعاله ويضحك، إنه يفزع المراجعين، والعصافير على النافذة ويثير حنق مديره المنافق.

(و)

تحبّ كاحليه المتورمين، هذا منظر رجل كادح، تحبّ لعبة اخفاء اللحف الثلاثة التي لا ينام بدونها، وكلما اختصرت عددها لأن الجو لا يستدعي ذلك، ذهب خصيصاً للمتجر وابتاع المزيد منها. تحبّ قمصانه التي قصت أكمامها ليرتديها كلما ثارت الاكزيما في ثنية ذراعه.

(ز)

يحبّ ظلها، وكلما قال لها ذلك ضحكت منه وتجاهلت اطراءه، يحبّ رؤية هيئتها وهالة الضوء حولها، يحبّ أنه لا يراها بوضوح لكنه يعلم أنها هي، هنا منذ عشرين عاماً بعقيصة البندق فوق رأسها، يودّ لو أن الشمس لا تغيب، يودّ أن تبقى واقفة هكذا إلى الأبد.