هذه ليست إجازة!

خلال فترة سكني الأولى في الرياض بين ٢٠٠٨ و٢٠١٠ كانت خالتي تقترح علي أنا وابنتها في بعض الليالي الخروج والمشي في مراكز التسوق حتى نؤجل موعد نومنا. كانت لدينا مشكلة في النوم المبكر جدًا والاستيقاظ في منتصف الليل. كانت تقنية ناجحة لدرجة أننا نوشك على البكاء في طريق العودة ونحمل أنفسنا متثاقلين للدور الثاني. أفكر في هذه التقنية هذه الأيام مع مصارعة الجت-لاق أو اضطراب الرحلات الجويّة الطويلة. لكنني الليلة أحارب النوم المبكر بكتابة هذه التدوينة ولا أعلم متى سأنتهي منها وأنشرها. عنوان التدوينة جاء من عبارة رددها صوتي الداخلي عليّ خلال الأسبوعين الماضية.

هذه الرحلة مزيج من عطلة منتظرة، وتجربة سفر في ظل الجائحة المستعرة حول العالم، ومحاولة لتقديم الدعم المعنوي والعضلي لأختي التي انهت رحلة دراسية عمرها عشر سنوات في أميركا وشارفت على العودة. بدأت الفكرة كمزحة خلال مكالمة فيستايم مع منى: هل تريدين أن آتي لمساعدتك؟ يمكنني ذلك! ترددت قليلا ثم أجابتني: لا أظن أن ذلك ضروري.

لم نعد للحديث في الموضوع مدة شهر ثم عدت لسؤالها مرة ثانية بعد أن حسمت أمري وراجعت حساباتي واتفقت مبدئيا مع جهة عملي للحصول على إجازة. آخر مرة التقيت بمنى في يونيو ٢٠١٩، جمعتنا نيويورك وقضينا أول أيام الصيف في التجول والتهام الحياة دفعة واحدة.  تحدثت عن مشاعري في التدوينة السابقة والتي كتبتها بانتظار رحلتي.

نيويورك أولًا

كانت الخطة أن أقضي عدة أيام في نيويورك عند وصولي والخيار الثاني كان واشنطن لكنني لم أزرها منذ سنوات ولم أكن مستعدة لاكتشافها وحدي. كانت أيام معدودة وغرائبية بدأت بمشكلة في بطاقتي الائتمانية التي غفلت موظفة الفندق عن طريقة استخدامها الصحيح وسحبت المبلغ أربع مرات لتقفلها ويُسحب منها ويبقى معلقا في غيمة رقميّة. لم تعد النقود لرصيدي إلا بعد مغادرتي لنيويورك واضطررت حينها لاستنفاذ مدخراتي لدفع رسوم السكن. قصة مجنونة كانت ستقتل فرحتي فورًا لكنني اخترت التركيز على اللحظة والخروج للمدينة والاستمتاع بها. تحدثت عن زيارة المدينة في هذه المقالة التي نشرت على موقع ثمانية.

وضعتني الإجراءات الاحترازية في مشكلة الحجز المسبق والدفع ومن ثمّ تعطلي عن الذهاب إما بسبب الاعياء والجو الحارّ أو بسبب الخطط البديلة التي ظهرت فجأة. وإذا كنت سأسجل قائمة لسلبيات السفر في ظل هذه الأوضاع ستكون المدفوعات المسبقة غير المستردة -حتى وإن كانت بسيطة- إحداها.

لم تكن كثير من التجارب متاحة خلال زيارتي في هذه الزيارة فقد اخترت المشي وسيلة تنقل أولى ثم سيارات الأجرة وأخيرًا أوبر، وتحاشيت تمامًا المترو. لا سيما بعد المقتطفات المرعبة لفيضانات شبكة الأنفاق في نيويورك بعد هطول المطر الغزير على المدينة. فقد شاهدت الناس يخوضون في الماء وقد غمر أجسادهم، وخشيت على نفسي من موقف كهذا. فأنا أولًا لا أجيد السباحة، وثانيًا ليست هذه الطريقة التي أود أن أغادر بها الحياة.

أما سيارات الأجرة فقد سمعت دائمًا عن حربهم الضروس مع سائقي أوبر، وكيف اختطفت الخدمة الأكثر تنظيمًا البساط من تحت أقدامهم. صحيح مع سائقي الأجرة لا يمكنني توقع جودة السياقة أو طريقة الوصول، لكنني أضمن رسوم مناسبة لميزانيتي المحدودة، وبعض الأحاديث الممتعة التي لن أجدها في مكانٍ آخر.

في إحدى المرات بدأت حديثًا مع سائق سيارة أجرة صمَّم طريقة مبتكرة لتبريد المقعد الخلفي من السيارة بعد وضع حاجز بلاستيكي محكم بينه وبيني. وذلك عن طريق أنابيب معدنية موصلة من فتحة التكييف يعبر الهواء النظيف منها دون المرور بمقصورته والمخاطرة بالعدوى.

إذا كنت سأجمع هدايا رحلة نيويورك في صندوق واحتفظ بها سيكون ضمنها: زيارة معرض التصوير المخصص لأكثر من ١٧٠ مصورة أمريكية وعالمية والذي مكننا من رؤية الحياة عبر عدسة نسائية في فترة لم تشجعهن على حمل الكاميرا. والهدية الأخرى ستكون زيارة معرض رسومات سيزان وخطوطه الأولى ومسودّاته. وأخيرًا حصولي على نسخة من الكتاب الذي طبعه أصدقاء مايكل سايدنبرغ صديقي المكتباتي الراحل واحتفظ لي صديقي بنسخة منه مع إهداء دافئ.

أرض الخضرة الغامرة

بعد عدة أيام في نيويورك ودعتها بمشاعر متضاربة فلا أنا استمتعت بزيارتها تمامًا ولا أنا التي شعرت بالحزن والباص الضخم يبتعد عنها. لكنني أذكر بوضوح اللحظة التي استدرنا باتجاه نفق لينكولن وموجة البكاء التي غرقت بها حينما تأكدت من وجهتي التالية: منى! لم اهتم لنظرات الركاب المتباعدين ولا الكمامة التي غرقت بدموعي كلّ ما فكرت به هو كيف ستمرّ الساعات الأربعة التالية أو كيف سأمررها بلطف.

التقينا في مواقف سيارات متجر والمارت الكبير هناك تقف باصات الرحلات ويجر الركاب حقائبهم ولكل وجهته. شعرت بالمدينة كلها تحتفل بلقائنا الأشجار والطيور والغيوم المكتنزة التي ظللتنا. في الليلة الأولى غفوت بصعوبة وأعرف لماذا، فسور منزل أختي منخفض جدًا وأنا أنام على فرشة أرضية واتخيل بأنني نائمة على الرصيف وأن أي متسلل للحديقة سينقض علي! هذا الكابوس الغريب لم يتمكن مني في الليلة التالية فقط قررت ببساطة النوم في الجهة المعاكسة حتى لا ألمح الباب القصير وإنارة الشارع.

أحبّ بنسلفانيا. أحببتها منذ زيارتي الأولى لأميركا في ٢٠١٣ وأصبحت وجهتي المفضلة لا لأن اخوتي يسكنونها بل لأنها تذكرني بالمروج والتلال والغابات التي حلمت بزيارتها منذ الطفولة. ثم زرت اسكتلندا وشعرت أنها امتداد طبيعي لبنسلفانيا لولا المحيط والولايات التي تفصلهما. وأضيف على ذلك ذاكرتي المصورة التي تظهر أنواع النباتات والمسطحات المائية التي تعزز هذا الارتباط في ذهني.

احتفلت بعيد الأضحى مع منى وأخذتني في جولة مكوكية حول مدينتها وزواياها المفضلة. قضينا نزهة بجوار بحيرة مع إحدى صديقاتها. وعدة أيام في زيارة للمزرعة حيث تمارس ركوب الخيل منذ سنوات. وفي إحدى تلك الزيارات قررت تجربة ما يسمى بالــEquus Coaching والذي سأتحدث عنه بالتفصيل في تدوينة لاحقة لكن ما يُقصد به باختصار هو تدريب شخصي تساعد في التعرف على جوانب مختلفة من الحياة والتواصل مع الآخرين وتقوم أساسًا على التفاعل مع الخيول.

نعم الخيول! فهي كائنات حساسة جدًا ومن خلالها يمكننا التعرف على سماتنا الشخصية فيما يتعلق بالمبادرة والملاحظة والتفاعل. تتم هذه التجربة عادة مع ميسرة أو ميسر متمكن في التدريب والإرشاد الشخصي والتعامل مع الخيول طبعا. وخلال ساعة أو أكثر بقليل يتم التركيز على نقاط قوتك وأي مشاكل أو صعوبات قد تعكسها طريقة تفاعلك مع ما حولك. كانت التجربة مميزة وقريبة من نفسي ومؤثرة بشكل عميق لعدة أسباب أحدها وأهمّها أن مرشدتي التي تواصلت معها لأكثر من سنة عبر فيستايم كانت هي الميسرة لهذه التجربة. والسبب الثاني أنّ هذا النوع من التدريب أو الإرشاد لا يتطلب ركوب الخيل. المزيد من التفاصيل سأشاركها معكم مستقبلًا!

إنقاذ الجندي «منى»

خلال زيارتي لمدينة ستيت كولج في بنسلفانيا الأمريكية اكتملت سعادتي بالتعرف على صديقات منى والدائرة التي كانت تتحرك داخلها خلال سنوات دراستها. صديقة العائلة -ومرشدتي- دعتنا للعشاء في بيتها والتقينا بابنها وزوجها. كانت الأحاديث ممتعة وملونة، وجاء الحديث على عطلتي الأولى بعد الجائحة والتي قررت قضاءها في أميركا مع تعدد الخيارات المتاحة لي. قلت ضاحكة أنها ليست عطلة. هل تعرفون فيلم إنقاذ الجندي رايان؟ يمكنكم تسمية هذه الرحلة بــ «إنقاذ الجندي منى». أنا هنا لمدّ يد العون لها كي تعود بأقل ضغوطات ممكنة -حاولت في الحقيقة لكن الضغوط كانت أكبر من طاقتنا.

ومنذ تلك الليلة المقمرة بدأ العدّ التنازلي لإفراغ المنزل، بيع ما تيسر، والتبرع بجزء آخر، وعندما دقت ساعة الصفر بدأت رحلات رمي القمامة تزداد وجزء آخر من المتروكات على الرصيف المقابل -وهذا تقليد عرفت عنه من منى فساكني البيوت يتركون قطع الأثاث والممتلكات التي يرغبون بتقديمها مجانًا على الرصيف المقابل للبيت على ألا تشلّ حركة السيارات أو البشر واحتفلنا فعليًا بالقطع التي وجدت لها منزلًا جديدًا.  

كانت الأيام في بنسلفانيا الخضراء هادئة نسبيًا، استعدت معها شهيتي للأكل ووازنت مديونية النوم استعدادا لرحلة العودة الطويلة. أردت حضن الأشجار والركض تحت المطر والتمدد على العشب ولو كان ذلك ممكنًا لحملت قطعة من الأرض في جيبي. أقول أنا ابنة الصحراء التي اشتاقت لهذه المناظر وكأنني طفل لا يهدأ يلصق وجهه بنافذة المنزل والسيارة متتبعًا الأغصان والورق.

معنا قطّ!

قبل السفر إلى أميركا بدأت أنا ومنى سلسلة إجراءات إلزامية لتتمكن من اصطحاب قطّها إلى الوطن. وددت لو كنت بحثت بشكل أكبر في الموضوع فكل همي أن ما تحتاجه هو رقاقة تحمل معلوماته وتزرع تحت فرائه الكثيف ومجموعة أوراق رسمية تعرف بعمره وحالته الصحية واللقاحات التي تلقاها. صُدمنا بأن الإجراءات ليست بهذه البساطة –مقارنة بالوقت المتاح لنا للعمل وهو ١٠ أيام تقريبا. البداية تكون بجمع أوراقه الرسمية وجوازه الصحي ثمّ توثيقها لدى عيادة بيطرية رسمية أمريكية ومن ثم ختمها ونسخها رقميًا. الخطوة التالية هي رفع الطلب من موقع وزارة البيئة والمياه والزراعة عبر خدمة استيراد حيوان أليف وتزويد الوزارة بمعلومات الحيوان الموثقة. بعد أن تتم الموافقة تطبع كافة الأوراق التي يجب تصديقها من سفارة سعودية أو خليجية في البلد الذي ترغب بالاستيراد منه.

لم نتمكن من تصديق أوراق السفارة حتى اللحظة الأخيرة وكانت إضافة درامية لسلسة من الأمور التي احتجنا إنجازها قبل السفر.

أما عن العودة، فقد اختارت منى قيادة السيارة عبر طرق ريفية خلفية وكانت أجمل لحظة وداع لأميركا التي قضت فيها ثلث عمرها تقريبًا. الجو الممطر والغيم الكثيف والطرق الملتفة بين بنسلفانيا وفرجينيا ومدينة واشنطن كانت مثل حلم. ودودو القطّ يجلس في المقعد الخلفي يقاطعنا بموائه أحيانا، ويقتحم المرتبة الأمامية هاربًا من حقيبته في عقدة صعبة من الطريق.

وصلنا للفندق الذي قضينا فيه عدة أيام قبل الرحلة، وكان استثنائي في مساحة الغرفة ومستوى الراحة التي حصلنا عليها. تقول منى أن شخيري كان مكثفا وهذه إشارة جيدة أنني استطعت النوم بعمق أخيرًا. صدقت منى الأوراق لدى السفارة في زيارة واحدة. وذهبنا بعدها لمدينة مجاورة لإيقاف السيارة والمكتبة الضخمة التي وضبت بداخلها بانتظار الشحن.

في المطار رددنا عبارة «معنا قطّ» لتصبح شعار نهاية يوليو وعودتنا لبيتنا ولمدينتنا واجتماعنا العائلي المنتظر. معنا قطّ كان عبارة لطيفة صرفت انتباهنا عن حزن المطارات وقلق طوابير التفتيش. هنا موظفة تلاطفه وتنهي اجراءاته وهناك طفلة تقترب منه مترددة وتشجعها أمها على تحيته. وفي الطائرة مضيفة تخاف القطط وتتجاوز رعبها قدر المستطاع.

في الطريق إلى المنزل انقسمنا أنا واخوتي على سيارتين تنقلنا وتنقل الحقائب ولوهلة شعرت بحاجتي للالتفات والنظر إليهم عبر النافذة الكبيرة هذه المرة الأولى التي نجتمع فيها سوية منذ خمسة أعوام.

الحمد لله!

هذه ليست إجازة هذه رحلة لمّ شمل انتظرتها طويلًا.

.

.

.

حلم ليلة صيف

على الطاولة المجاورة للسرير نسخة من ملاحق الأحد لنيويورك تايمز بتاريخ ١٧ يونيو. في الزاوية قبعة احتفالات فيها ريش وألوان، فهمت من شكلها إنها قبعة عيد ميلاد لكنّها لا تخصني ولا أعلم كيف وصلت هنا. أزواج من الأقراط، قمصان متراكمة على الكرسي، وحقيبة العمل مرتبة جيدًا، يتدلى منها شريط بطاقتي الوظيفية. هناك العشرات من الرسائل التي لم أجد الوقت للردّ عليها، ثلاثة كتب تُقرأ دفعة واحدة، والكثير من الرفوف التي انهارت في رأسي خلال الشهرين الماضية.

يونيو كان شهر المرّات الأولى بامتياز!

ليلة عيد الفطر وبينما كنت أرتّب حقيبتي للسفر، على الرف القريب كتاب ثلاثية نيويورك لبول أوستر، وضعت الكتاب في الحقيبة ونظرت إليه وقلت: سيوقّع بول أوستر هذه النسخة. كنت قد اشتريت تذكرة لحضور حوار سيدور بينه وبين فيليب بيتي، المخاطر العظيم الذي قد يعرفه الكثير منكم من فيلم Man on Wire The Walk. أعترف بأنّ الهدف الأساسي من حضور هذا الحوار هو فرصة الحديث السريع مع أوستر، لكنّ فيليب بيتي أذهلني. أذهلني التزامه، واهتمامه بحرفته التي مهما بدت مجنونة لي وللكثير ممن يعانون من رهاب المرتفعات وأوستر منهمإلا أنها تقع في إطار العمل الإبداعي. لكنها قصة أخرى ولا أعلم لما أشعر بأن هذه التدوينة ستكون حفلة من الاستطرادات.

وقبل المضي للأمام في الحديث عن رحلة نيويورك، أحبّ أن أخبركم بأن أوستر وقع النسخة العربية من روايته، وسأل عن جهة النشر وهل هي لبنان؟ وأجبت نعم. التقطت أختي صورة ليست مثالية لأنني كنت أقرفص بجوار الطاولة حتى أظهر وهو على نفس الارتفاع. في وقتٍ ما لاحقًا قد أطبعها وأشعر بالزهو تجاه هذه اللحظة السعيدة.

في نوڤمبر الماضي حضرت فعالية نظمها فندق حياة ريجنسي في الرياض، بحضور ممثلي التسويق والإدارة من بارك حياة نيويورك. كان الهدف من الفعالية عرض الغرف الفخمة بعد إعادة تأهيلها، وإطلاق خدمات مميزة للزوار من الخليج والعالم العربي عموما. مع مجموعة أخرى من الحضور حصلت على قسيمة تمنحني خمس أيام/ست ليالي من السكن المجاني في الفندق.

كانت لحظة غير متوقعة بالنسبة لي، فلم يسبق وجرّبت السكن في نيويورك بهذه الميزانية (ألف دولار تقريبًا لليلة). كانت الفكرة مجنونة إلى حدّ استحالتها، لكنها كانت دافع جيد لعطلة قصيرة للاستفادة من أيام مجانية واتمامها في سكن منخفض التكلفة لاحقًا. اشترط الفندق استخدام القسيمة قبل ديسمبر ٢٠١٩م. كنت انتظر وقت مستقطع وبدت إجازة العيد مناسبة للعزلة وإعادة ترتيب نفسي.

وصلت للفندق يوم العيد وكان الاستقبال رائع، والغرفة مجهزة بلذائد متنوعة من نيويورك، مع بطاقة وقعها مدير الفندق شخصيًا. تذكرت حينها حلقة توم وجيري عندما ربح المليون، وسكن في غرفة على بارك آفنيو. مشهد الإفطار والبيض والستيك، والغرفة الفاخرة. كنت أضحك واستعيد المشاهد بالترتيب كلما مررت بزاوية في الغرفة.

الغرفة مجهزة بأثاث صُمم خصيصا للفندق. من الخزانة التي تشبه صندوق كنز إلى ركن القهوة والمشروبات والمكتب. وصولًا إلى السرير الذي ودعته بالأحضان. لم يسبق لي تجربة فراش مثله وعندما قرأت المراجعات والتعليقات التي كتبها من جربوا السكن في الفندق وجدت أننا نتشارك الفكرة نفسها.

تحدثت خلال إقامتي مع مسؤولة التسويق في الفندق وأخبرتني عن توجههم الجديد وخدماتهم المخصصة للزوار من الخليج والعالم العربي. كما يشير الشعار العامّ للفندق الرفاهية شخصيةكل شيء تحتاجه سيتمّ توفيره لك وسيتم تطويع الغرفة لتخدم احتياجاتك. طلبت منهم خلال إقامتي محول للتيار الكهربائي، وطلبات أخرى لم أتوقع توفرها في وقت قياسي وتم توفيرها. أيضًا سيتم تحديد القبلة في الغرفة بملصق على الجدار، وسيوفرون سجادة ومصحف عند الطلب. أبلغت المسؤولة بأننا نحدد القبلة اليوم بالجوالات الذكية والمصحف كذلك، ونحمل معنا السجادة الخفيفة والمناسبة للسفر. لكنها لفتة جميلة ومهمة لمن يحتاجها. أيضا خُصصت قائمة بالأطعمة الحلال التي لا تحمل فقط الاسم، بل إن كافة اللحوم المقدمة على هذه القائمة ستكون مذبوحة وفق الطريقة الإسلامية وستحضر عند الطلب. قالت المسؤولة أيضا بفخر: نستطيع تركيب شطاف في دورة المياه في حال رغبة الساكنين. حسنًا هذه فكرة جيدة الآن. تحدثنا في الاستراتيجية التسويقية وأظن أنني تحولت حينها إلى ساكن يثير الضجر، فكلما اقترحوا تجربة شيء أو فكرة رددت عليها. الحق يقال أن الفندق رائع وفرصة لمن يبحث عن مساحة فاخرة للسكن في نيويورك. شخصيًا وكما بدأت هذه القصة استبعد فكرة السكن بهذه الميزانية لليلة، وأفضل دائما الفنادق الأصغر، الأقرب لحياة المدينة الملونة والمتنوعة.

في الجزء الثاني من الرحلة جربت السكن في Welive  وإذا كان الاسم يذكركم بـ Wework مساحة العمل المشتركة الأشهر في العالم، نعم هذه هي النسخة السكنية من الشركة والآن موجودة مبدئيا في نيويورك وواشنطن العاصمة.

في البناية وحدات سكنية متنوعة تتاح لفترات قصيرة أو طويلة (ستة أشهر وأكثر) وأسعارها مناسبة لمن يزور المدينة للعمل والتعلم. في كل دور شقق واستديوهات، وغرف صغيرة. ومطبخ مشترك مجهز بالكامل بالإضافة للمطبخ في وحدتكم الخاصة إذا حجزتوا شقة أو استديو+

في البناية مطابخ مشتركة كبيرة، وقهوة طازجة طوال اليوم، وماء، وألعاب وكتب ومساحات للعمل بالإضافة لفرع ضخم من Wework يمكن للأعضاء الوصول إليه من داخل الاستقبال. لا أعرف ماذا أسمي هذا المكان، هل هو فندق؟ سكن تشاركي؟ هو في مكان أعلى من بيوت الشباب لكنكم لن تفقدوا فرصة الاستمتاع بالتعرف على المسافرين والساكنين. في إحدى الأدوار مثلا، هناك غسالات ونشافات لغسيل ملابسكم وتجفيفها وبينما تنتظرون الغسيل، هناك ألعاب متنوعة إلكترونية وتقليدية وفرصة للحديث مع الآخرين.

في الدور الأرضي مطعم ومقهى يقصده العمال والموظفين خلال ساعات النهار فالبناية تقع على وول ستريت. يقدمون خيارات كثيرة من السندويتشات والسلطات والمشروبات المنعشة. سيكون خيار جيد لو أحببتم تناول وجبة قبل الانطلاق لاسكتشاف المدينة.

أحببت أن محطة وول ستريت وخط١ من المترو قريبة جدًا، لذلك كان الخروج والعودة حتى في أوقات متأخرة غير مفزع بالنسبة لي. سكنت وأختي استديو+ الذي يتوفر به سرير لشخصين تقريبا داخل جدار وله أرفف وستارة تحجب الضوء، بالاضافة لأريكة في الصالة يخرج من خلفها سرير آخر لشخصين. في الغرفة انترنت عالي السرعة، تلفزيون وتكييف ومطبخ مجهز مع أواني مناسبة لطبخ وجبات خفيفة وميكرويف.

من المهمّ الإشارة إلى أن الفندق لن يقدم لكم خدمة الغرف، وحتى المناشف والشراشف لو فكرتوا في تنظيفها فستفعلون ذلك بأنفسكم في دور الغسيل.

أحببت على أنه فندق بمساحات مشتركة كثيرة إلا أن العبور بين الأدوار والدخول إلى الغرف لا يتمّ إلا باستخدام بطاقة، ولا يمكنك التجول بدونها.

إذا كان للرحلة ثلاث مشاهد رئيسية فإن المشهد الثالث سيكون درس أساسيات الخبز الذي حضرته في Le Pain Quotidien وهي سلسلة مخابز ومقاهي شهيرة تأسست في بروكسل البلجيكية في بداية تسعينات القرن الماضي. حضرت درس مدته حوالي أربع ساعات. قضيتها وستة مشاركين وقوفًا لنصنع رغيف حياتنا الجديدة! كلنا جئنا من مناطق مختلفة، وكلنا متحمسون لإتقان خبز الباغيت الفرنسي، أو فطيرة الشوكولا، أو رغيف الخبز بالزبيب. عجينة واحدة جهزناها وعجناها بيدينا، وخمرناها وخبزناها. لتخرج بأشكال مختلفة. لم نصدق اللحظة التي خرجت فيها الأرغفة من الفرن، واستقبلناها بالزبدة المملحة والمربى. كان يوم مدهش، حملت معي الخبز هدية لصديقة، ومجموعة أوراق تلخص الدرس لأعود إليها لاحقًا في الرياض.

في هذه الرحلة لم أشتري كتب، ولم أزر متاحف باستثناء المركز الدولي للتصوير الفوتوغرافي-. كانت الرحلة للمشي، للأحاديث الطويلة، واكتشاف أبعاد جديدة في نفسي، وأكثر.

لو لخصتها في قائمة لذيذة (لأنني أحبّ القوائم) ستكون كالتالي:

جولة طويلة على الأقدام في هارلم.

حضور مهرجان أفلام بروكلين.

فستان أصفر سأعيش فيه حتى نهاية الصيف.

لفائف اللوبستر من Lukes Lobster, The Dutch, The Smith.

مطاعم مكسيكية El Encanto De Lola 2, Tacombi.

أقراط لؤلؤ.

دجاج مقلي حتى الشبع في Sweet Chick.

مسرحية Burn This لآدم درايفر وكيري رسل.

دونت بالكريمة بعد العاشرة ليلًا في The Donut Pub الذي يعمل لـ٢٤ ساعة بالمناسبة.

مطعم إسباني بعروض فلامنكو حيّة Nai Tapas.

الكتاب الذي رافقني في الرحلة The Sound of Paper لجوليا كاميرون.

المشي حتى ساعات الصباح الأولى في تشيلسي.

اللقاءات التي لم يُخطط لها.

علّمت منى أختي نظام المترو وخطوطه والاختصارات وقررت أنّ نيويورك لم تعد مدينة مكروهة بالنسبة لها.

السالمون المدخن والبيض كل صباح.

ميلاد الصيف وقت جميل من السنة لم أجربه من قبل.

عطر صيفي سيعيش معي طويلا واسمه رائع مثله تحت أشجار الليمون“.

المطاعم والمقاهي المفتوحة على الشارع.

قضت هذه التدوينة وقت طويل في مسودة، وكلما حاولت إضافة المزيد من التفاصيل إليها شعرت بصعوبة المهمّة. قررت نشرها هذه الليلة لأتخفف من انتظار آخر.

.

.

.

البحث عن توم ميلر

في نهاية ٢٠١٣م وبينما كنت أبحث عن فنادق جديدة ومناسبة للسكن في نيويورك، وصلت لفندق الهايلاين The Highline Hotel فندق صغير وهادئ لا تزيد غرفه عن ستين غرفة. لكن ما شدّني بالإضافة لموقعه وجمال تصميمه، الجانب التاريخي وراءه. مبنى الفندق يعود لبداية القرن التاسع عشر، وكان في الأصل سكن طلاب معهد لاهوتي. الغرف واسعة ولها مظهر سكن فعلا. الأقواس والقرميد وتفاصيل البناء القوطية الحديثة واضحة. لستُ متخصصة في المعمار طبعًا، لكنني بحثت لأتعلم أكثر. ووصلت خلال بحثي إلى مدونة توم ميلر – دايتونيّ في منهاتن، ووجدت معلومات مفصّلة عن المكان.

حجزت للسكن في الفندق لكن علاقتي بالمدونة لم تقف هناك. أصبحت اقرأ فيها عن مباني وتماثيل، وحدائق حول نيويورك. بعضها شاهدته فعلًا، والبعض الآخر لشدة حماسي له وضعته في قائمة للزيارة.

لم يكن توم يكتب عن الأماكن بطريقة عادية، كان يصف المبنى، ثم يحكي قصة بناءه، من صممه؟ من موّل البناء؟ ويسرد الأحداث الهامة التي مرّت على المنزل ويختم بحالته اليوم، هل ما زال موجودًا؟ من يسكنه؟ وغيرها من التفاصيل التي تبهج الفضوليين أمثالي.

في ٢٠١٥م زرت نيويورك وخلال تصفح مجموعة كتب عن منهاتن وجدته، كتاب البحث عن نيويوركوتنبهت لاسم المؤلف الذي اكتشفت إنه المدون توم ميلر. الكتاب بمثابة دليل مصور للجيب، مكتوب على نمط التدوينات الممتعة ومقسم على ضواحي منهاتن ليسهل عليكم اكتشافها.رافقني الكتاب في رحلاتي الثلاث التالية وقبل رحلة أكتوبر فكرت: حان الوقت للقاء توم ميلر!

توقعت إنه شخص مشغول، وقد لا يمكنه الجلوس للحديث مع أحد متابعيه.كتبت الرسالة الطويلة، وأخبرته بقصتي مع مدونته وكتابه، وأنني سأكون في المدينة بعد عدة أسابيع. لم يطل الوقت، وصلني الرد اللطيف على رسالتي واتفقنا على اللقاء يوم العاشر من أكتوبر.

كنت أريد أن أتعرف أكثر على هذا الانسان الذي يدون يوميًا بلا توقف، ويشغله موضوع واحد لا يخفت معه حماسه.

جلسنا وبيننا القهوة والفضول وحدثني بشغف عن أيامه، عن المحاضرات التي يعدها حول الوجه المعماري لنيويورك، وتاريخها من خلال الأبنية. ومشاريعه المستقبلية في كتب عن شيكاغو، ومنازل منهاتن المنسية التي هُدمت وضاعت معها قصصها.

لاحقًا أرسلت له مجموعة أسئلة ليجيب عنها أشاركها معكم في هذه التدوينة.

.

.

من هو توم ميلر؟

توم ميلر انتقل من دايتون أوهايو في ١٩٧٩م وحمل معه شغف البحث عن القصص والحيوات الشخصية وراء المباني. عمل كمدير مكتب في حي صناعة الملبوسات Garment District بمنهاتن، نيويورك. ليعمل لاحقًا في سلك الشرطة النيويوركية. وفي العام ٢٠٠٩م بدأ التدوين في مدونته دايتونيّ في منهاتنوالتي روى من خلالها قصة ٢٥٠٠ مبنى، وتمثال، ونقطة هامة في مدينة نيويورك. وفي العام ٢٠١٥م أصدر كتابه البحث عن نيويوركليصبح دليلًا هامًا لمكتشفي عمارة المدينة.

كيف بدأت هذه التجربة؟

كما أخبرتك خلال لقاءنا، عندما كان عمري ١١ سنة تقريبا كنت مع أحد الأصدقاء نستكشف عدة منازل مهجورة تركها أصحابها بسبب إنشاء طريق سريع مكانها. في تلك المنازل تأملت المتعلقات الشخصية والأثاث المنسي، والكتب. واكتشفت أنّ تلك المنازل كانت أكثر من مكان للسكن، كانت قصصًا تروى. لقد أثارت القصص التي قرأتها من تأمل هذه الأماكن فضولي. وأشعلت شرارة اهتمامي الأولى.

ما الذي يبقي اهتمامك بالتدوين مشتعلًا؟

تحفزني معرفة أن الكثير من الأشخاص يقرأون كتاباتي، وتلهمهم وتغير من الطريقة التي ينظرون بها إلى المباني من حولهم. يفكرون بتاريخها، ويرفعون أبصارهم لرؤية ما حولها.

هل تعتبر ما تقوم به مشروعًا إبداعيًا؟

نعم، ويأتي الجانب الإبداعي فيه من إحياء التاريخ؛ وهو أيضًا ما يلهمني.

هل تحصل على دعم من الجهات الثقافية والفنية في ما تبحث وتكتب عنه؟ (ما مدى سهولة البحث في المكتبات والوثائق الرسمية)

على الرغم من امتلاكي لمكتبة شخصية تحوي مجموعة لا بأس بها من الكتب المتخصصة في مواضيع البحث، إلا أنني أبدأ العمل على الانترنت. من خلال مكتبة الكونجرس، الصحف مثل النيويورك تايمز، وغيرها. بالإضافة إلى المراجع التي أصل إليها في المكتبات الرقمية العامة وتسهل علي البحث.

هل تعمل وحدك؟ وكيف كانت التجربة ستتغير لو استعنت على سبيل المثال بمحررين وباحثين متخصصين؟

نعم أعمل وحدي. في الحقيقة أتقن العمل وأنا وحدي. أما بالنسبة للمحرر فيعمل معي ومع الناشرين للتحقق من سلامة النصوص والصياغة ويعطي رأيًا ثانيا لما اكتبه قبل النشر.

هل تصلك رسائل من المتابعين يصححون لك معلومة أو يضيفون للتدوينات؟

طبعا! تصلني رسائل تصحيح أخطاء إملائية أحيانا، وأحيان أخرى تصحيح لمعلومة أو تفصيل غفلت عنه. يسعدني ذلك بالتأكيد لأنني أكتب عن التاريخ، ومن الضروري التحقق دائما من صحة التدوينات التاريخية.

سبق وتواصل معك شخص سكن تلك المباني، أو أحد أحفاد الساكنين القدامى أو ورثتهم؟

نعم، وأحب عندما يتواصل معي أقارب أو معارف من سكنوا في تلك المباني أو المنازل. ويصدف أن تكون هذه معلومة جديدة عليهم فلم يعرفوا من قبل أن قريبهم سكن هنا أو هناك، أو لم يسمعوا بالقصص والأحداث التي أحاطت بهم.

(هنا أتذكر قصة رواها لي توم عن بيت في شمال نيويورك سكن به الكاتب إدغار آلان بو وزوجته في استضافة إحدى الأسر. تواصل معه أحد الأحفاد بالصورة التي توارثتها العائلة وتجمع الكاتب بأجداده)

ما الذي تهدف إليه من التدوين حول هذا الموضوع؟ ما الذي تودّ تحقيقه؟

أهدافي بسيطة جدًا: أريد مساعدة الناس في تقدير المباني، والأماكن من حولهم. أريد أن يستيقظ اهتمامهم بتاريخهم الخاصّ.

لو كانت لديك نصيحة ذهبية تقدمها لمن يفكّر في بدء مشروع توثيق مشابه داخل مدينته، في أي مكان من العالم. ماذا ستكون؟

أقوى نصيحة أقدمها لمن يرغب بتدوين وتوثيق التاريخ. تحقق من المعلومات التي تكتب عنها. ابذل جهدا مضاعفًا في البحث ولا تعتمد على المصادر السريعة وطبعًا ويكيبيديا ليست خيار وحيد.

.

.

.

أهلا بصوتي الغائب

في طريق العودة للمنزل ولو ركزت قليلا من الشارع العام يمكنني تمييز نافذة غرفتي. الحارة التي نسكنها جديدة نسبيها والمنازل متباعدة وبين الشارع العام والشارع الفرعي أرض كبيرة لم يقرر صاحبها ما يفعل بها بعد. من هذه المسافة أرى نافذتي وزجاجها المثلّج. تسرقني فكرة غريبة –قد أصدّقها لو ركزت جهدي قليلًا – هل أنا هناك؟ ماذا تفعل الغرفة في غيابي؟

قضيت الأيام الماضية أحاول استعادة توازني وإيجاد صوتي الغائب. ذهبت في رحلة قصيرة لنيويورك، وأدهشت نفسي كثيرًا.

قليل من العمل، كثير من المشي، واللقاءات السعيدة. التقيت بالأصدقاء، وتحدثت مع شخصية رائعة سأحدثكم عنها في الأيام القادمة.

حضرت لقاء هاروكي موراكامي المقام على هامش مهرجان النيويوركر، كثير من الانقطاعات وصعوبة الاستماع وضياع في الترجمة، لكننا نحبّه دائما. واقتنيت كتابه طازجا من الرفّ والآن أركض بين فصوله على الرغم من حجمه ووزنه الثقيل.

في رحلتي الأخيرة لنيويورك لم أضع أيّ خطة، استيقظ أجلس على حافة السرير واسأل نفسي أسئلة بسيطة: ماذا تريدين؟ غالبا يقودني قلبي لوجبة فطور شهية، ثم اكتشفت شوارع المدينة التي لم تطأها أقدامي من قبل.

قبل السفر استعنت بهذا الكتاب لأقرر أي المذاقات سأكتشف، ووضعت قائمة كانت المخبوزات الملكة فيها. زرت عدة مطاعم القاسم المشترك بينها فكرة القائمة الموسمية أو ما يسمى بـ Farm to table تعتمد هذه المطاعم على توفر الخضروات والفواكه في مواسمها. يجهز الطهاة مجموعة من الأطباق ويوفرون مكوناتها من المزارع المحلية في نيويورك وضواحيها. ذات ليلة تناولت العشاء مع منى أختي في Black Barn وهو مطعم موسمي بامتياز. طبق لحم الغنم على الطريقة المغربية مع المشمش والمكسرات ومرقة دافئة. وفي The Smith تناولنا سلطة القرع، والتفاح والفيتا وتتبيله البالسميك. طبق آخر أحرص على تناوله في كل رحلة لنيويورك – وأي مدينة قرب المحيط بالضرورة – لفافات اللوبستر في خبز البريوش مع صلصة المايونيز الذي لا أحبه في أي ساندويتش أو طبق آخر. بارد مقرمش ومالح كالبحر.

قلت أن المخبوزات كانت ملكة الرحلة وتذكرت مشية صباحية إلى مكتبة ستراند، ووقفة سريعة في مخبز Breads، كل مخبوزات الحياة التي تخطر على بالك وتستعيدها ذاكرتك قصيرة المدى. دخلت مع الباب وغمرتني الحيرة، وقفت مثل طفل في محلّ للحلوى والتفت أحد الموظفين لحيرتي ليخرج من خلف الرفوف ويقف بجانبي: اليوم سأكون صديقك الوفي لنبدأ من الجهة المفضلة لديك. اليمين! قلت بحماس. نعبر بجانب الرفوف وفي كل رف مخبوزات طازجة وأوراق صغيرة لتحملها بها وتضعها في كيس ورقي تأخذه من الرف الأول وبعد ملء الكيس تذهب مباشرة للمحاسبة. فطائر محشوة بالمربى، بابكا، كروسون، كعك مكوّب، خبز بالزبيب والقرفة، فطائر محشوة بالجبن، ألوان من السمسم، وقطع من الشوكولا. حملت ما يمكنني حمله ومشيت لحديقة يونيون سكوير القريبة والتهمت الفطائر لتترك آثارها على وجهي وكنزتي – فقد احتفلت بالخريف أخيرًا – تركت الفتات للعصافير الجائعة واستعدت ترتيب هندامي فهذا بالتأكيد ليس مظهر مناسب للسادسة والثلاثين.

خلال الرحلة احتفلت بيوم ميلادي، واستعدت تدويناتي السنوية التي كتبتها في ذلك اليوم أو بعده بقليل. كيف كبُرت أحلامي وحملتني على أمواجها العالية. أحبّ نفسي وأكرهها وأعود واتصالح معها وأحبها. كيف كان شكل همومي؟ كيف هي دائرة الأصدقاء حولي؟ ما الذي انتظرته في الصباحات التالية لميلادي؟ اقرأ وأضحك، وتدمع عيناي قليلًا.

في الدور الثالث عشر من فندقي المفضل الجديد راقبت سماء نيويورك الماطرة ومبنى المكاتب المقابل. كل نافذة لها حكاية. ويوم السبت ظننت بأنني شاهدت الكراسي تتحرك، أو أنها آثار الحمّى التي هجمت علي دفعة واحدة؟

كلما سُئلت عن تفاصيل الرحلة في أيامها الأخيرة لا أذكر منها إلا أقدامي التي ابتكرت لها حياة منفصلة لتحركني بلا كلل، ورأسي الثقيل بعلاجات الانفلونزا، وعيناي التي تركض بين نشرات الأخبار.

جاهدت مخاوف كثيرة في رأسي تنشط عندما أكون وحيدة. غيرت تفضيلاتي وقاومت رغبتي الشديدة في التكور على نفسي وإهدار ما تبقى من ساعات في المدينة التي أحبّها.

لقد استمتعت أكثر من أي وقتٍ مضى بالطعام، بالفنون، والمكتبات والمشي والأجواء المتقلبة، وتأمل الناس والمباني.

بينما اتجهت سيارة الأجرة للمطار والمدينة تتضاءل خلف المطر، أسندت رأسي على الكرسي واستعدت أيامي الماضية ببهجة رقص لها قلبي.

هذه التدوينة فوضى عارمة مثل كل مرة، لكنّها الملاحظات الصغيرة التي جمعتها في مفكرة صغيرة في جيبي ونثرتها هنا حتى لا أنساها.

في قائمة عشوائية كتبت أشياء أحببتها حتى لا أنسى:

  • مطعم Manhatta في الدور الستين واطلالته المدهشة
  • مكتبة مايكل السرية ووجهها الجديد كل مرّة
  • المشي في نيويورك
  • تشيز كيك الميلاد من جونيورز وحلبة التزلج التي راقبت الأجساد تدور فوقها وتدور وتدور
  • رفوف الكتب الطويلة في الستراند
  • محامص القهوة
  • كراسي المطاعم المرتفعة التي تخلصت من خوفي وجلست عليها
  • مطعم Tia Pol والتاباس الإسبانية في تشيلسي
  • البابكا العظيمة من Zabar
  • مهرجان القهوة في نيويورك
  • عطري الجديد Carnal Flower الذي حملت منه عيّنه في السفر وارتبط بمشاعر رائعة
  • كنزة بلون الخردل من انثروبولوجي
  • تفاحة سحرية أكلتها يوم حصادها
  • أغاني سميرة سعيد الثمانينات التي قست بها مسافات المدينة
  • شموع برائحة المتوسط
  • الفصول الأولى من رواية موراكامي Killing Commendatore
  • مسلسل The Romanoffs
  • مسلسل The Marvelous Mrs. Maisel
  • مسلسل The Haunting of Hill House
  • فيلم Beautiful Boy
  • وثائقي Salt, Fat, Acid, Heat
  • فيلم Tully – شاهدته على الطائرة وأنا لا أصمد لأكثر من عشر دقائق دون نوم
  • هاتفي وجهاز الكمبيوتر خاصتي يتعرفان على شبكة الفندق الذي سكنته في مايو أوتوماتيكا

.

.

.

.

غُرف دافئة نحبّها

مضى وقت طويل على آخر مرّة كتبت فيها هنا (شهرين ويوم بالتحديد)

إنّها أطول مدة لا تزورني فيها حتى أفكار للتدوين، ولا رغبة في الكتابة، أو الجلوس لها.

اقرأ كثيرًا هذه الأيام، اقضي ساعتين يوميًا في قراءة المقالات والأخبار والقصاصات التي جمعتها لسنوات. كأنني أحاول استعادة شيء هرب منّي على حيِن غفلة. في نهاية التدوينة الماضية قلت لنفسي: أريد أن أهدأ. وهدأت. وسمحت للآخرين بمساعدتي، وتوصلت لهدنة مع القلق، وسرت أيام وأيام بلا خطة.

لديّ أصدقاء جدد، ووجهات جديدة تنتظر. وشركة وليدة أحاول كل يوم تجهيزها للخروج للعلن. ولستُ أتحدث عن سجل تجاري أو عقود أو وجود فيزيائي، انتهيت من كلّ هذا. لكن الموقع، والمحتوى الرقمي الذي ستتحدث من خلاله للعملاء والمتابعين، في مسودة منسية على جهازي.

لا بأس.

كان عليّ أن أجازف بتأخر العمل في سبيل التحرر من القلق، وتقييمي المنخفض لقدراتي الإبداعية.

حبسة كاتب من نوع خاصّ لأن الكتابة في هذه الحالة هي تسويق، ودعم لشركة لن تتحرك خطوة إلى الأمام ما لم يكن وجودها الإلكتروني محفزًا لعملائها.

* * *

خلال ساعات العمل اليومية نسرق بعض الدقائق للحديث عن أي شيء، عن كلّ شيء في الحياة. وذات مرّة وصلنا للحديث عن أسرتي، عن أخواتي وعن حياتنا معًا.

علقت إحدى الزميلات بأنّها تشعر بقوة علاقتنا (أنا وموضي ومنى). كأننا أسسنا تحالف قديم، وبقية الأخوة لا ينتمون له أو ينتمون له بنسبة مختلفة.

نعم، أجبتها.

لقد قضينا عدة سنوات سوية دون مقاطعة، تعرفنا على الحياة والأشياء، تعرفنا على أنفسنا معًا.

الفارق العمري بين منى (أصغرنا) والأخ التالي حوالي ٥ سنوات. والفرق بيني (الكبرى) وأخي الأصغر تسع سنوات، و٢٠ سنة تفصلني عن حصة (الاخت الصغرى).

قلت أنّ الأخوة الذين يأتون لاحقًا مثل غرف إضافية في منزل اكتمل بناؤه، غرف تختلف في لونها وأثاثها وموقعها من المنزل. لكنّنا نحبها بالقدر ذاته، نحب دفء الشمس فيها. نحبّ جدّتها وغرابتها ونحب أنفسنا ونحن نتعرف عليها ونحاول الاندماج.

أحبّ اخوتي بلا حدّ، السابق واللاحق منهم، أحبّهم وأود لو أنني أخبئهم في قلبي، من ألم الأرض، وصعوبة الأيام، وكل أذى يلتهمني قبل التهامهم.

* * *

وبما أنني أتكلم عن الحبّ وحتى لا تطول هذه التدوينة كثيرًا، إليكم أشياء أحببتها خلال الشهرين الماضية:

.

.

.