هذه ليست إجازة!

خلال فترة سكني الأولى في الرياض بين ٢٠٠٨ و٢٠١٠ كانت خالتي تقترح علي أنا وابنتها في بعض الليالي الخروج والمشي في مراكز التسوق حتى نؤجل موعد نومنا. كانت لدينا مشكلة في النوم المبكر جدًا والاستيقاظ في منتصف الليل. كانت تقنية ناجحة لدرجة أننا نوشك على البكاء في طريق العودة ونحمل أنفسنا متثاقلين للدور الثاني. أفكر في هذه التقنية هذه الأيام مع مصارعة الجت-لاق أو اضطراب الرحلات الجويّة الطويلة. لكنني الليلة أحارب النوم المبكر بكتابة هذه التدوينة ولا أعلم متى سأنتهي منها وأنشرها. عنوان التدوينة جاء من عبارة رددها صوتي الداخلي عليّ خلال الأسبوعين الماضية.

هذه الرحلة مزيج من عطلة منتظرة، وتجربة سفر في ظل الجائحة المستعرة حول العالم، ومحاولة لتقديم الدعم المعنوي والعضلي لأختي التي انهت رحلة دراسية عمرها عشر سنوات في أميركا وشارفت على العودة. بدأت الفكرة كمزحة خلال مكالمة فيستايم مع منى: هل تريدين أن آتي لمساعدتك؟ يمكنني ذلك! ترددت قليلا ثم أجابتني: لا أظن أن ذلك ضروري.

لم نعد للحديث في الموضوع مدة شهر ثم عدت لسؤالها مرة ثانية بعد أن حسمت أمري وراجعت حساباتي واتفقت مبدئيا مع جهة عملي للحصول على إجازة. آخر مرة التقيت بمنى في يونيو ٢٠١٩، جمعتنا نيويورك وقضينا أول أيام الصيف في التجول والتهام الحياة دفعة واحدة.  تحدثت عن مشاعري في التدوينة السابقة والتي كتبتها بانتظار رحلتي.

نيويورك أولًا

كانت الخطة أن أقضي عدة أيام في نيويورك عند وصولي والخيار الثاني كان واشنطن لكنني لم أزرها منذ سنوات ولم أكن مستعدة لاكتشافها وحدي. كانت أيام معدودة وغرائبية بدأت بمشكلة في بطاقتي الائتمانية التي غفلت موظفة الفندق عن طريقة استخدامها الصحيح وسحبت المبلغ أربع مرات لتقفلها ويُسحب منها ويبقى معلقا في غيمة رقميّة. لم تعد النقود لرصيدي إلا بعد مغادرتي لنيويورك واضطررت حينها لاستنفاذ مدخراتي لدفع رسوم السكن. قصة مجنونة كانت ستقتل فرحتي فورًا لكنني اخترت التركيز على اللحظة والخروج للمدينة والاستمتاع بها. تحدثت عن زيارة المدينة في هذه المقالة التي نشرت على موقع ثمانية.

وضعتني الإجراءات الاحترازية في مشكلة الحجز المسبق والدفع ومن ثمّ تعطلي عن الذهاب إما بسبب الاعياء والجو الحارّ أو بسبب الخطط البديلة التي ظهرت فجأة. وإذا كنت سأسجل قائمة لسلبيات السفر في ظل هذه الأوضاع ستكون المدفوعات المسبقة غير المستردة -حتى وإن كانت بسيطة- إحداها.

لم تكن كثير من التجارب متاحة خلال زيارتي في هذه الزيارة فقد اخترت المشي وسيلة تنقل أولى ثم سيارات الأجرة وأخيرًا أوبر، وتحاشيت تمامًا المترو. لا سيما بعد المقتطفات المرعبة لفيضانات شبكة الأنفاق في نيويورك بعد هطول المطر الغزير على المدينة. فقد شاهدت الناس يخوضون في الماء وقد غمر أجسادهم، وخشيت على نفسي من موقف كهذا. فأنا أولًا لا أجيد السباحة، وثانيًا ليست هذه الطريقة التي أود أن أغادر بها الحياة.

أما سيارات الأجرة فقد سمعت دائمًا عن حربهم الضروس مع سائقي أوبر، وكيف اختطفت الخدمة الأكثر تنظيمًا البساط من تحت أقدامهم. صحيح مع سائقي الأجرة لا يمكنني توقع جودة السياقة أو طريقة الوصول، لكنني أضمن رسوم مناسبة لميزانيتي المحدودة، وبعض الأحاديث الممتعة التي لن أجدها في مكانٍ آخر.

في إحدى المرات بدأت حديثًا مع سائق سيارة أجرة صمَّم طريقة مبتكرة لتبريد المقعد الخلفي من السيارة بعد وضع حاجز بلاستيكي محكم بينه وبيني. وذلك عن طريق أنابيب معدنية موصلة من فتحة التكييف يعبر الهواء النظيف منها دون المرور بمقصورته والمخاطرة بالعدوى.

إذا كنت سأجمع هدايا رحلة نيويورك في صندوق واحتفظ بها سيكون ضمنها: زيارة معرض التصوير المخصص لأكثر من ١٧٠ مصورة أمريكية وعالمية والذي مكننا من رؤية الحياة عبر عدسة نسائية في فترة لم تشجعهن على حمل الكاميرا. والهدية الأخرى ستكون زيارة معرض رسومات سيزان وخطوطه الأولى ومسودّاته. وأخيرًا حصولي على نسخة من الكتاب الذي طبعه أصدقاء مايكل سايدنبرغ صديقي المكتباتي الراحل واحتفظ لي صديقي بنسخة منه مع إهداء دافئ.

أرض الخضرة الغامرة

بعد عدة أيام في نيويورك ودعتها بمشاعر متضاربة فلا أنا استمتعت بزيارتها تمامًا ولا أنا التي شعرت بالحزن والباص الضخم يبتعد عنها. لكنني أذكر بوضوح اللحظة التي استدرنا باتجاه نفق لينكولن وموجة البكاء التي غرقت بها حينما تأكدت من وجهتي التالية: منى! لم اهتم لنظرات الركاب المتباعدين ولا الكمامة التي غرقت بدموعي كلّ ما فكرت به هو كيف ستمرّ الساعات الأربعة التالية أو كيف سأمررها بلطف.

التقينا في مواقف سيارات متجر والمارت الكبير هناك تقف باصات الرحلات ويجر الركاب حقائبهم ولكل وجهته. شعرت بالمدينة كلها تحتفل بلقائنا الأشجار والطيور والغيوم المكتنزة التي ظللتنا. في الليلة الأولى غفوت بصعوبة وأعرف لماذا، فسور منزل أختي منخفض جدًا وأنا أنام على فرشة أرضية واتخيل بأنني نائمة على الرصيف وأن أي متسلل للحديقة سينقض علي! هذا الكابوس الغريب لم يتمكن مني في الليلة التالية فقط قررت ببساطة النوم في الجهة المعاكسة حتى لا ألمح الباب القصير وإنارة الشارع.

أحبّ بنسلفانيا. أحببتها منذ زيارتي الأولى لأميركا في ٢٠١٣ وأصبحت وجهتي المفضلة لا لأن اخوتي يسكنونها بل لأنها تذكرني بالمروج والتلال والغابات التي حلمت بزيارتها منذ الطفولة. ثم زرت اسكتلندا وشعرت أنها امتداد طبيعي لبنسلفانيا لولا المحيط والولايات التي تفصلهما. وأضيف على ذلك ذاكرتي المصورة التي تظهر أنواع النباتات والمسطحات المائية التي تعزز هذا الارتباط في ذهني.

احتفلت بعيد الأضحى مع منى وأخذتني في جولة مكوكية حول مدينتها وزواياها المفضلة. قضينا نزهة بجوار بحيرة مع إحدى صديقاتها. وعدة أيام في زيارة للمزرعة حيث تمارس ركوب الخيل منذ سنوات. وفي إحدى تلك الزيارات قررت تجربة ما يسمى بالــEquus Coaching والذي سأتحدث عنه بالتفصيل في تدوينة لاحقة لكن ما يُقصد به باختصار هو تدريب شخصي تساعد في التعرف على جوانب مختلفة من الحياة والتواصل مع الآخرين وتقوم أساسًا على التفاعل مع الخيول.

نعم الخيول! فهي كائنات حساسة جدًا ومن خلالها يمكننا التعرف على سماتنا الشخصية فيما يتعلق بالمبادرة والملاحظة والتفاعل. تتم هذه التجربة عادة مع ميسرة أو ميسر متمكن في التدريب والإرشاد الشخصي والتعامل مع الخيول طبعا. وخلال ساعة أو أكثر بقليل يتم التركيز على نقاط قوتك وأي مشاكل أو صعوبات قد تعكسها طريقة تفاعلك مع ما حولك. كانت التجربة مميزة وقريبة من نفسي ومؤثرة بشكل عميق لعدة أسباب أحدها وأهمّها أن مرشدتي التي تواصلت معها لأكثر من سنة عبر فيستايم كانت هي الميسرة لهذه التجربة. والسبب الثاني أنّ هذا النوع من التدريب أو الإرشاد لا يتطلب ركوب الخيل. المزيد من التفاصيل سأشاركها معكم مستقبلًا!

إنقاذ الجندي «منى»

خلال زيارتي لمدينة ستيت كولج في بنسلفانيا الأمريكية اكتملت سعادتي بالتعرف على صديقات منى والدائرة التي كانت تتحرك داخلها خلال سنوات دراستها. صديقة العائلة -ومرشدتي- دعتنا للعشاء في بيتها والتقينا بابنها وزوجها. كانت الأحاديث ممتعة وملونة، وجاء الحديث على عطلتي الأولى بعد الجائحة والتي قررت قضاءها في أميركا مع تعدد الخيارات المتاحة لي. قلت ضاحكة أنها ليست عطلة. هل تعرفون فيلم إنقاذ الجندي رايان؟ يمكنكم تسمية هذه الرحلة بــ «إنقاذ الجندي منى». أنا هنا لمدّ يد العون لها كي تعود بأقل ضغوطات ممكنة -حاولت في الحقيقة لكن الضغوط كانت أكبر من طاقتنا.

ومنذ تلك الليلة المقمرة بدأ العدّ التنازلي لإفراغ المنزل، بيع ما تيسر، والتبرع بجزء آخر، وعندما دقت ساعة الصفر بدأت رحلات رمي القمامة تزداد وجزء آخر من المتروكات على الرصيف المقابل -وهذا تقليد عرفت عنه من منى فساكني البيوت يتركون قطع الأثاث والممتلكات التي يرغبون بتقديمها مجانًا على الرصيف المقابل للبيت على ألا تشلّ حركة السيارات أو البشر واحتفلنا فعليًا بالقطع التي وجدت لها منزلًا جديدًا.  

كانت الأيام في بنسلفانيا الخضراء هادئة نسبيًا، استعدت معها شهيتي للأكل ووازنت مديونية النوم استعدادا لرحلة العودة الطويلة. أردت حضن الأشجار والركض تحت المطر والتمدد على العشب ولو كان ذلك ممكنًا لحملت قطعة من الأرض في جيبي. أقول أنا ابنة الصحراء التي اشتاقت لهذه المناظر وكأنني طفل لا يهدأ يلصق وجهه بنافذة المنزل والسيارة متتبعًا الأغصان والورق.

معنا قطّ!

قبل السفر إلى أميركا بدأت أنا ومنى سلسلة إجراءات إلزامية لتتمكن من اصطحاب قطّها إلى الوطن. وددت لو كنت بحثت بشكل أكبر في الموضوع فكل همي أن ما تحتاجه هو رقاقة تحمل معلوماته وتزرع تحت فرائه الكثيف ومجموعة أوراق رسمية تعرف بعمره وحالته الصحية واللقاحات التي تلقاها. صُدمنا بأن الإجراءات ليست بهذه البساطة –مقارنة بالوقت المتاح لنا للعمل وهو ١٠ أيام تقريبا. البداية تكون بجمع أوراقه الرسمية وجوازه الصحي ثمّ توثيقها لدى عيادة بيطرية رسمية أمريكية ومن ثم ختمها ونسخها رقميًا. الخطوة التالية هي رفع الطلب من موقع وزارة البيئة والمياه والزراعة عبر خدمة استيراد حيوان أليف وتزويد الوزارة بمعلومات الحيوان الموثقة. بعد أن تتم الموافقة تطبع كافة الأوراق التي يجب تصديقها من سفارة سعودية أو خليجية في البلد الذي ترغب بالاستيراد منه.

لم نتمكن من تصديق أوراق السفارة حتى اللحظة الأخيرة وكانت إضافة درامية لسلسة من الأمور التي احتجنا إنجازها قبل السفر.

أما عن العودة، فقد اختارت منى قيادة السيارة عبر طرق ريفية خلفية وكانت أجمل لحظة وداع لأميركا التي قضت فيها ثلث عمرها تقريبًا. الجو الممطر والغيم الكثيف والطرق الملتفة بين بنسلفانيا وفرجينيا ومدينة واشنطن كانت مثل حلم. ودودو القطّ يجلس في المقعد الخلفي يقاطعنا بموائه أحيانا، ويقتحم المرتبة الأمامية هاربًا من حقيبته في عقدة صعبة من الطريق.

وصلنا للفندق الذي قضينا فيه عدة أيام قبل الرحلة، وكان استثنائي في مساحة الغرفة ومستوى الراحة التي حصلنا عليها. تقول منى أن شخيري كان مكثفا وهذه إشارة جيدة أنني استطعت النوم بعمق أخيرًا. صدقت منى الأوراق لدى السفارة في زيارة واحدة. وذهبنا بعدها لمدينة مجاورة لإيقاف السيارة والمكتبة الضخمة التي وضبت بداخلها بانتظار الشحن.

في المطار رددنا عبارة «معنا قطّ» لتصبح شعار نهاية يوليو وعودتنا لبيتنا ولمدينتنا واجتماعنا العائلي المنتظر. معنا قطّ كان عبارة لطيفة صرفت انتباهنا عن حزن المطارات وقلق طوابير التفتيش. هنا موظفة تلاطفه وتنهي اجراءاته وهناك طفلة تقترب منه مترددة وتشجعها أمها على تحيته. وفي الطائرة مضيفة تخاف القطط وتتجاوز رعبها قدر المستطاع.

في الطريق إلى المنزل انقسمنا أنا واخوتي على سيارتين تنقلنا وتنقل الحقائب ولوهلة شعرت بحاجتي للالتفات والنظر إليهم عبر النافذة الكبيرة هذه المرة الأولى التي نجتمع فيها سوية منذ خمسة أعوام.

الحمد لله!

هذه ليست إجازة هذه رحلة لمّ شمل انتظرتها طويلًا.

.

.

.

24 تعليقا على “هذه ليست إجازة!”

  1. الله يحفظكم لبعض ولا يفرقكم آمين. استمتعت جداً بقراءة المقال وحسيت بالأحداث وخصوصا أزمة البطاقة الئتمانية

  2. الله لا يفرق لكم شمل
    ويجمعكم دائماً على خير
    حافظوا على الحب الذي بينكم وارعوه جيداً ♥️
    أحبكم ♥️

  3. الله يحفظكم لبعض، أحبك ومن كثر ماأحبك حسيت ان عائلتك عائلتي.. أهلًا بك منى في حياتك الجديدة وهنيئًا لك هيفاء على هذه الرحلة الممتعة باختلافها 💖

  4. أسأل الله أن يحفظكم ويجمع شملكم
    كان يدور بخدلي دوما سؤال عن ميزانية السفر لنيويورك، (تذاكر طيران، إقامة تنقلات، طعام)
    كم أحتاج مثلا لأبقى لا أعرف المدة التي بقيتها

    1. أهلا درة،
      الموضوع واسع جدًا ولا يمكنني تحديده. انصحك أولا بتحديد الميزانية التي تستطيعين تحمل كلفتها واعتمادها كبوصلة للتخطيط

  5. جميلة وممتعة التدوينة، مرت عليّ كأنها نسمة هواء .. خصوصاً حكاية القط دودو 😻 سبحان من جعل الحيوانات رفقاء لنا لتخفيف ثقل الحياة 🌿

    حفظكم الله لبعض وقُرت عينكم بـمنى ✨

  6. ما أجمل سردك و أمتع لغتك.
    لا شك أن الحديث لم ينته بعد رحلة كهذه. كل يوم منها يحتمل تدوينة وأكثر.
    أشكرك على رصانة اللغة و تعريب المصطلحات. هناك راحة لغوية جمة في قراءة نصك السليم الفصيح بخفة.
    كم نفتقد هذا هذه الأيام.
    بالتوفيق هيفاء.
    و أرجو لك اجتماعاً عائلياً زاهراً

  7. تدوينة لطيفة كلطافة صاحبتها، الأجواء التفاصيل المشاعر والكثير من الحب.. دمتِ بحب مع من تحبّين هيفاء!
    وشكرًا على هذه الجولة الرائعة..شكرًا 3>

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.