أهلا بصوتي الغائب

في طريق العودة للمنزل ولو ركزت قليلا من الشارع العام يمكنني تمييز نافذة غرفتي. الحارة التي نسكنها جديدة نسبيها والمنازل متباعدة وبين الشارع العام والشارع الفرعي أرض كبيرة لم يقرر صاحبها ما يفعل بها بعد. من هذه المسافة أرى نافذتي وزجاجها المثلّج. تسرقني فكرة غريبة –قد أصدّقها لو ركزت جهدي قليلًا – هل أنا هناك؟ ماذا تفعل الغرفة في غيابي؟

قضيت الأيام الماضية أحاول استعادة توازني وإيجاد صوتي الغائب. ذهبت في رحلة قصيرة لنيويورك، وأدهشت نفسي كثيرًا.

قليل من العمل، كثير من المشي، واللقاءات السعيدة. التقيت بالأصدقاء، وتحدثت مع شخصية رائعة سأحدثكم عنها في الأيام القادمة.

حضرت لقاء هاروكي موراكامي المقام على هامش مهرجان النيويوركر، كثير من الانقطاعات وصعوبة الاستماع وضياع في الترجمة، لكننا نحبّه دائما. واقتنيت كتابه طازجا من الرفّ والآن أركض بين فصوله على الرغم من حجمه ووزنه الثقيل.

في رحلتي الأخيرة لنيويورك لم أضع أيّ خطة، استيقظ أجلس على حافة السرير واسأل نفسي أسئلة بسيطة: ماذا تريدين؟ غالبا يقودني قلبي لوجبة فطور شهية، ثم اكتشفت شوارع المدينة التي لم تطأها أقدامي من قبل.

قبل السفر استعنت بهذا الكتاب لأقرر أي المذاقات سأكتشف، ووضعت قائمة كانت المخبوزات الملكة فيها. زرت عدة مطاعم القاسم المشترك بينها فكرة القائمة الموسمية أو ما يسمى بـ Farm to table تعتمد هذه المطاعم على توفر الخضروات والفواكه في مواسمها. يجهز الطهاة مجموعة من الأطباق ويوفرون مكوناتها من المزارع المحلية في نيويورك وضواحيها. ذات ليلة تناولت العشاء مع منى أختي في Black Barn وهو مطعم موسمي بامتياز. طبق لحم الغنم على الطريقة المغربية مع المشمش والمكسرات ومرقة دافئة. وفي The Smith تناولنا سلطة القرع، والتفاح والفيتا وتتبيله البالسميك. طبق آخر أحرص على تناوله في كل رحلة لنيويورك – وأي مدينة قرب المحيط بالضرورة – لفافات اللوبستر في خبز البريوش مع صلصة المايونيز الذي لا أحبه في أي ساندويتش أو طبق آخر. بارد مقرمش ومالح كالبحر.

قلت أن المخبوزات كانت ملكة الرحلة وتذكرت مشية صباحية إلى مكتبة ستراند، ووقفة سريعة في مخبز Breads، كل مخبوزات الحياة التي تخطر على بالك وتستعيدها ذاكرتك قصيرة المدى. دخلت مع الباب وغمرتني الحيرة، وقفت مثل طفل في محلّ للحلوى والتفت أحد الموظفين لحيرتي ليخرج من خلف الرفوف ويقف بجانبي: اليوم سأكون صديقك الوفي لنبدأ من الجهة المفضلة لديك. اليمين! قلت بحماس. نعبر بجانب الرفوف وفي كل رف مخبوزات طازجة وأوراق صغيرة لتحملها بها وتضعها في كيس ورقي تأخذه من الرف الأول وبعد ملء الكيس تذهب مباشرة للمحاسبة. فطائر محشوة بالمربى، بابكا، كروسون، كعك مكوّب، خبز بالزبيب والقرفة، فطائر محشوة بالجبن، ألوان من السمسم، وقطع من الشوكولا. حملت ما يمكنني حمله ومشيت لحديقة يونيون سكوير القريبة والتهمت الفطائر لتترك آثارها على وجهي وكنزتي – فقد احتفلت بالخريف أخيرًا – تركت الفتات للعصافير الجائعة واستعدت ترتيب هندامي فهذا بالتأكيد ليس مظهر مناسب للسادسة والثلاثين.

خلال الرحلة احتفلت بيوم ميلادي، واستعدت تدويناتي السنوية التي كتبتها في ذلك اليوم أو بعده بقليل. كيف كبُرت أحلامي وحملتني على أمواجها العالية. أحبّ نفسي وأكرهها وأعود واتصالح معها وأحبها. كيف كان شكل همومي؟ كيف هي دائرة الأصدقاء حولي؟ ما الذي انتظرته في الصباحات التالية لميلادي؟ اقرأ وأضحك، وتدمع عيناي قليلًا.

في الدور الثالث عشر من فندقي المفضل الجديد راقبت سماء نيويورك الماطرة ومبنى المكاتب المقابل. كل نافذة لها حكاية. ويوم السبت ظننت بأنني شاهدت الكراسي تتحرك، أو أنها آثار الحمّى التي هجمت علي دفعة واحدة؟

كلما سُئلت عن تفاصيل الرحلة في أيامها الأخيرة لا أذكر منها إلا أقدامي التي ابتكرت لها حياة منفصلة لتحركني بلا كلل، ورأسي الثقيل بعلاجات الانفلونزا، وعيناي التي تركض بين نشرات الأخبار.

جاهدت مخاوف كثيرة في رأسي تنشط عندما أكون وحيدة. غيرت تفضيلاتي وقاومت رغبتي الشديدة في التكور على نفسي وإهدار ما تبقى من ساعات في المدينة التي أحبّها.

لقد استمتعت أكثر من أي وقتٍ مضى بالطعام، بالفنون، والمكتبات والمشي والأجواء المتقلبة، وتأمل الناس والمباني.

بينما اتجهت سيارة الأجرة للمطار والمدينة تتضاءل خلف المطر، أسندت رأسي على الكرسي واستعدت أيامي الماضية ببهجة رقص لها قلبي.

هذه التدوينة فوضى عارمة مثل كل مرة، لكنّها الملاحظات الصغيرة التي جمعتها في مفكرة صغيرة في جيبي ونثرتها هنا حتى لا أنساها.

في قائمة عشوائية كتبت أشياء أحببتها حتى لا أنسى:

  • مطعم Manhatta في الدور الستين واطلالته المدهشة
  • مكتبة مايكل السرية ووجهها الجديد كل مرّة
  • المشي في نيويورك
  • تشيز كيك الميلاد من جونيورز وحلبة التزلج التي راقبت الأجساد تدور فوقها وتدور وتدور
  • رفوف الكتب الطويلة في الستراند
  • محامص القهوة
  • كراسي المطاعم المرتفعة التي تخلصت من خوفي وجلست عليها
  • مطعم Tia Pol والتاباس الإسبانية في تشيلسي
  • البابكا العظيمة من Zabar
  • مهرجان القهوة في نيويورك
  • عطري الجديد Carnal Flower الذي حملت منه عيّنه في السفر وارتبط بمشاعر رائعة
  • كنزة بلون الخردل من انثروبولوجي
  • تفاحة سحرية أكلتها يوم حصادها
  • أغاني سميرة سعيد الثمانينات التي قست بها مسافات المدينة
  • شموع برائحة المتوسط
  • الفصول الأولى من رواية موراكامي Killing Commendatore
  • مسلسل The Romanoffs
  • مسلسل The Marvelous Mrs. Maisel
  • مسلسل The Haunting of Hill House
  • فيلم Beautiful Boy
  • وثائقي Salt, Fat, Acid, Heat
  • فيلم Tully – شاهدته على الطائرة وأنا لا أصمد لأكثر من عشر دقائق دون نوم
  • هاتفي وجهاز الكمبيوتر خاصتي يتعرفان على شبكة الفندق الذي سكنته في مايو أوتوماتيكا

.

.

.

.

4 تعليقات على “أهلا بصوتي الغائب”

  1. تدوينة لذيذة ينبعث منها دفء المخبوزات وكأني اشتمّ رائحة القرفة بين طياتها 😍
    لا تُطيلي تغييب صوتك عنّا ونحب دوماً فوضى مفكرتك الصغيرة 💜

  2. أخيراً هيفاء ونيويورك… كل ما احب اجتمع بكلماتك من روائح المخبوزات وحتى معطف انثروبولوجي لا أعلم اهي صدفة ام ذوق مشترك ولكن عموما احب ذوقك في كل شيء صادف أن أقرأ بدايه الشهر كافكا على الشاطئ وان أشاهد وثائقي نتفليكس اللذيذ.. حتى لا أنسى كل سنه وانتي ملهمة
    وبخير دائما ♥️

  3. مرحبا هيفا❤️
    ما أخفيك إني فعليًا صرت أحب نيويورك بسبب رحلاتك لها وكلامك عنها. الأماكن الّي ذكرتيها موجودة في أي منطقة بالتحديد؟ + ايش نصائحك لأول زيارة لبروكلين؟
    شكرًا جزيلًا❤️

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.