ثلاثة أيام مع غابو: اليوم الثاني \ الثالث.

vcm_s_kf_repr_722x721

الثلاثاء، 9 أبريل 1996م

التاسعة صباحاً

أضاع غابو آلته الكاتبة الأولى قبل خمسين عاما من اليوم. الآلة التي كتب عليها قصته “الإذعان الثالث” وهي أول قصة نشرت له. كان طالب قانون تعيس، يسكن في نزل للشباب بأجر زهيد في بوغوتا. كان يشتاق لحرارة ساحل الكاريبي ونادراً ما كان يذهب لمحاضراته. القانون تخصصّ لم ينجح في جذب انتباهه كما كانت عائلته تتوقع. خلال وقت الغداء، في التاسع من أبريل 1948م وبينما كان غابو يستعد للجلوس وتناول طعامه وصله خبر اطلاق النار على الناشط السياسي والمرشح الرئاسي خورخي غايتان. كان غايتان المرشح الذي هز التركيبة السياسية التقليدية لكولومبيا. يخبرنا غابو باللحظة التي وصل فيها إلى الشارع ليجد الناس وقد تلوثت مناديلهم بدمائه. احترقت شوارع بوغوتا وضاعت آلته الكاتبة في الأحداث. شُلّت كولومبيا وتعطلت الجامعات. وبعد عدة أشهر في قرطاجنة وعندما كان غابو بعمر التاسعة عشرة بدأ حياته الصحفية بكتابة الافتتاحيات.

“كنت أمشي في أحد الأيام وقابلت زافالا، محرر جريدة الاونيفرسال جالسا أمام آلته الكاتبة خارج الميدان ثم قال لي: أعرفك، أنت الشاب الذي يكتب القصص القصيرة في الاسبكتادور، لماذا لا تجلس معي هنا وتساعدني في هذه الافتتاحية؟

كتبتُ شيئاً ثم أخرج قلمه الرصاص وشطب الكثير من الأجزاء. كتبت مرة ثانية ولم يشطب سوى بعض المقاطع. في اليوم الثالث من هذه المهمة أصبحت أكتب بلا تعديل. لقد أصبحت صحفياً”

لم يجلس غابو بجانبي اليوم. ولم يرتدي قميص الغوايابيرا الأبيض. لكنه يرتدي اليوم قميصاً فيروزياً بأكمام قصيرة. ما زال حذاؤه أبيض. تواصلنا بعيد لكنني ما زلت معلقة بقصصه.

“بدأتُ أكتب لكسب المال بعمر الثالثة والأربعين” يخبرنا غابو ويتابع “اشتريت منزلي الأول بكويرنافاكا المكسيكية في 1970م، بعد نشر قصتي الأولى بخمسة وعشرين عاماً. كانت حساباتي كالتالي: إذا أردت أخذ الأولاد للسينما عليّ كتابة اثني عشر صفحة، وإذا أردت أخذ الأولاد إلى السينما ثم تناول البوظة سأحتاج إلى كتابة عشرين صفحة.

عندما كنت في باريس لم التزم بجدول كتابة معيّن، كتبت غالبا في الليل. وفي النهار كنت أقلق بشأن طعامي. الآن أعرف أنه من الأفضل الكتابة خلال النهار، على جهاز كمبيوتر، وبمعدة ممتلئة وفي برودة جهاز التكييف”

gabo_y_fidel

الواحدة بعد الظهر

لم يكن بالإمكان مقاومة ذلك. أعني بدء الحديث عن فيدل كاسترو. كنا –أو بدقة أكبر كنت انتظر ذلك- ننتظر اللحظة المناسبة. أراد غابو الحديث عن الأخلاقيات الصحفية: هل يقرأ الصحفي مستنداً مهمل يحمل إمكانيات خبطة صحفية؟ كان سؤاله فرصة مناسبة. وأجبته.

“لقد حدث معي موقف مشابه. في العام 1991م كنت في الاحتفالية الأولى لمؤتمر الدول الايبرو-أمريكية في غوادالاهارا. قيل لكاسترو أنّ عليه تحديد كلمته بسبع دقائق، هو وغيره من الرؤساء. انتظر الجميع على أحرّ من الجمر موعد كلمته، فهو معروف بكلماته المرتجلة الطويلة – في اليوم التالي لانتصار ثورة 1959م القى في الجموع كلمة امتدت لسبع ساعات – لكنّ كاسترو التزم بالوقت، وتحدث لسبع دقائق بالضبط. بينما تحدث رئيس جمهورية الدومينيكان لخمسة وأربعين دقيقة. خلال الاستراحة تدافع الصحفيون وأنا معهم حول فيدل كاسترو. كان أكبر من الحياة نفسها بحضوره اللامع. زيّه العسكري حائل اللون وياقته مهترئة. سار للخارج والحشد يتبعه. بدت عليه علامات السعادة والإعجاب، لقد أحبّ ذلك بالتأكيد.

مدّت له سيدة صورة بالأبيض والأسود مطالبه بتوقيعه. وسأله شخص آخر “هل كان التحدث لسبع دقائق صعباً؟” “لقد خُدِعت!” قال كاسترو “قيل لي أنني إن واصلت الحديث لمدة أطول فإن أجراس غوادالاهارا ستُقرع”.

لاحظتُ ورقة صغيرة مجعدة إلى جانب كراسة صفراء حيث كان فيدل كاسترو جالساً. عندما غادر الحشد وراءه، عدت إلى مكانه والتقطت الورقة وفتحتها لأجد عبارة كُتبت بخطه الصغير والمتراكم ” كم كانت مدة حديثي؟” وعلى الكراسة الصفراء كتب كاسترو قائمة بأسماء الرؤساء ومدة حديث كلّ منهم بالثانية. تركت الورقة ورائي وندمت على ذلك للأبد”

قال غابو “كنت سألتقطها بالتأكيد! صدقيني لو كان يعتقد بأنها مهمة لن يتركها وراءه. كنتُ سأحتفظ بها كتذكار”

وكما تمنيت بدأ غابو بالحديث عن كاسترو. تحدث عن كوبا بصراحة، باهتمام وشغف. تحدث كطالب جامعي علق على جداره صورة تشي غيفارا. لكنّه عندما تحدث عن كاسترو لم يتحدث عنه بسوء، ولم يفش شيئاً. قال إنه يتحدث عنه بعاطفة ولا يصدر عليه أحكاماً. وأخبرنا بأنه من أحبّ الأشخاص إليه في العالم أجمع.

“إنه دكتاتور” علق أحد الحاضرين.

“أن تكون لديك انتخابات ليست الطريقة الوحيدة للديمقراطية” علّق غابو.

لكن الصحفي الأمريكي في المجموعة تابع استفزازه لغابو فاضطرّ للإجابة. تحول صوته للصرامة وقال له “هذه ليست مقابلة صحفية. إذا أردتُ التعبير عن رأيي في كاسترو سأكتب ذلك بنفسي وصدّقني سأفعل ذلك بشكل أفضل”.

يبدو أن شعر بالذنب بعد انفعاله. وصف لنا غابو تقريراً كتبه عن فيدل كاسترو “أعطيته إياه ليقرأ. كان تقريراً ناقداً. تحدثت فيه عن وضع حرية الصحافة الكوبية. لكنه لم يعلق على ذلك. ما أثار انزعاجه حقاً حديثي عن تناوله لثمانية عشر ملعقة بوظة بعد وجبة غداء في أحد الأيام. هل تناولت هذه الكمية فعلا؟ سألني بصورة متكررة.”

العشاء

تناول العشاء معنا في “لا فيترولا” أكثر مطاعم قرطاجنة كوزموبوليتانية. ديكور المكان كولونيالي إنجليزي أكثر منه إسبانياً. مجموعة من العازفين الكوبيين يعزفون أغنيات تقليدية بملابسهم البيضاء. في ذلك المكان يجتمع أفراد الطبقة العليا في كولومبيا ويتناولون طعامهم في العطلات. قد يمر الرئيس الكولومبي لتناول شراب. وممثلي المسلسلات التلفزيونية الشعبية، تجار المخدرات، ويحظى أبناء كولومبيا الأرستقراطيون بمواعيدهم الغرامية الأولى. يأتي بعض المترفين المحليين إلى المكان أيضاً. لائحة الطعام هنا تشبه التي تقدم في مطعم نيويوركيّ. صلصة السلطة أعدت بخل البلسميك وجبن الموزاريلا هنا طازج والنبيذ كذلك. هذا جيد بالنسبة لكولومبيا. جلسنا للانتظار في غرفة صغيرة. نحتسي شراب البنش –عصير فاكهة وبهارات يضاف له شراب كحولي عادة – وصل غابو مرتدياً بزة كاملة Jumpsuit بلون أزرق داكن، اقفل سحابها من سرته وحتى صدره. كاريبي في النهار، أما في الليل فيبدو وكأنه قفز من البوم موسيقي للديسكو أو الفنك Funk.

لحذائه المسائي نفس تصميم الذي يرتديه في النهار إلا أنه رمادي في هذه المرة. طلب الويسكي. ثم صحبنا لغرفة خاصة عند المدخل. جلس بيني وبين آندريا.

اللائحة ثابتة “كوسة مقلية يتبعها اختيارك بين الربيان المطهو في صلصة جوز الهند، أو السمك الأحمر المطهو في الكريمة”

“هذا ثقيل علي” قال غابو متبرماً.

اقترب المضيف منه وسأله “يمكنني تقديم السمك الأحمر مشوياً وبلا صلصة أو مع الباستا.”

“أي نوع من الباستا؟” سأل غابو

“كيف تريدها؟” رد المضيف.

“بسيطة” قال غابو.

“ما رأيك بالباستا في المرق؟” سأل المضيف.

“رائع، أريد هذه”

ثم طلبتُ نفس الطبق، كنت محمومة طوال اليوم.

“اثنان من هذه” قال له غابو.

عندما قُدّم لنا النبيذ لم يشرب معنا، وواصل شرب الويسكي.

المطعم يمتلئ. طاولتنا في الواجهة والكلّ ينتبه لغابو. طلب إقفال الباب، وطلبتُ ذلك من النادل.

مراسل من نيوزويك يجلس بجانبي، جاء من بيونس آيريس ليقابل غابو. أتحدث معه قليلاً لكن ما أريده حقاً هو الحديث مع غابو وعدم اقتسامه مع زملائي. التفتّ إليه وتحدثنا في مواضيع شتّى. يريد أن يعرف لماذا وأين أسكن في نيويورك؟ أخبره بأنني أعيش في قرية غرينتش وأسأله هل يحبّ نيويورك؟ ويجيب: جداً. إنما ليس في الشتاء لأنه يحب المشي في شوارعها أكثر من أيّ شيء آخر. قلت له بأنني سأصحبه إلى قرية غرينتش ووعدني بالاتّصال. تحدثنا عن كوبا، وبارانكيا، وبيل كلينتون، مجلة النيويوركر ومجلات الأحد. يخبرني بالتفصيل عن قصة يريد كتابتها عن قميص حريري أصفر يرتديه عندما يشعر بالحبّ. كأسه فارغ فيشرب من كأسي. ويقول “أحب صحبة النساء. أعرفهم أكثر من معرفتي بالرجال. أشعر بالراحة حولهم. كبرتُ محاطاً بالنساء”

tumblr_m48kx6eRoS1qhby6so1_1280

الأربعاء، 10 أبريل 1996م

التاسعة والنصف صباحاً

غابو يجلس على رأس الطاولة من جديد، يقرأ في أوراق يبدو أنّها مسودة لشيء ما. ينتظر وصول الجميع. يعرف أنّ الطلاب خرجوا للتنزه بعد العشاء. ينظر بدهشة لآخر الواصلين، ربما بشيء من الحنين. آثار النعاس بادية على الجميع. لم نستحمّ. نقاوم صداعاً رهيباً. بينما يبدو غابو نظيفاً ولامعاً في لباسه الأبيض.

أجلس وانتظر رأيه وتعليقه على ما كتبته. الوقت يمرّ. بقيت ساعة على انتهاء الورشة. ينظر إليّ أخيرا ويقول “لسيلفانا ذائقة موسيقية جيدة. إنها مثلي تحبّ فان موريسن” كانت مقالتي عن الصعوبات التي يتعرض لها موسيقيو الروك الشباب في كوبا حيث يغيب الدعم الحكومي لفنّهم. قال غابو بأنني كتبت مقالة جيدة، ولم يكن بحاجة إلى تعديلها. لكنه اعترض على بعض التشبيهات التي استخدمتها واعترض على الحديث بشكل متكرر عن مشكلات اجتماعية وثقافية في كوبا قد تحدث في أيّ مكان في العالم. هل كنت سأكتب عنها لو لم تكن في كوبا؟ وبعد نقاشنا يعود غابو إلى كرسيه. قدماي لا تلمسان الأرض. أشعر بأنني ريميديوس الجميلة، إنني ارتفع في الهواء.

لدى غابو تعليق أخير “أراكم الآن، في خوفكم، في تصرفاتكم الخرقاء وتساؤلاتكم وأتذكر نفسي عندما كنت في عمركم. أخبركم عن تجاربي وأحظى بفرصة رؤية نفسي. لقد مضت خمسون عاماً على بدايتي بالكتابة في كلّ يوم من حياتي. إذا لم تحب عملك، اتركه. لا يقتلك شيء أكثر من عمل لا تحبّه. وإذا كنت تحبّ عملك فلديك طول العمر والسعادة الأكيدة”.

اصطففنا في طابور باتجاهه، نحمل نسخاً من كتبه. “مئة عام من العزلة” و “قصة موت معلن” و “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” وغيرها. نطلب منه توقيعها ويفعل ذلك ثمّ يصافحنا جميعاً. اطلب من روبن رؤية ما كتبه له غابو على نسخة “خريف البطريرك” خاصته وأقرأ “من بطريرك ورشة العمل” أما سيزار فيطلب منه توقيع الكتاب لطفله الجديد ويكتب له “إلى رودريغو، في بدايته”.

لم أحضر معي كتاباً ليوقعه. انتظرت بجانب الباب. نظر إليّ مبتسماً ابتسامته العابثة نفسها التي رأيتها أول مرة. قال لي “وأنتِ سيلفانا، ألستِ حزينة على نهاية الورشة؟ ألن تبكي؟” 

* لقراءة النصّ الأصلي لهذه المقالة تجدونها في كتاب “Latin American Writers At Home”

تعليق واحد على “ثلاثة أيام مع غابو: اليوم الثاني \ الثالث.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.