أين كنّا؟

كنت أفكر قبل عدة أيام أن التدوينة الأخيرة هنا كانت في أغسطس، وفورًا شعرت بأنّ الوقت مناسب لكتابة تدوينة. لكن التدوينة الأخيرة كانت في يوليو! أشعر بحاجة ملحة للتساؤل: أين كنت وأين أصبحت؟ أنهيت شهري الأول في وظيفتي الجديدة. عرفت شعور يشبه الاستقرار عندما حفظت أسماء الفريق كاملًا بلا خلط. وأصبح لدي كوب، وقرطاسية على المكتب.

سأشارككم حقيقة مهمة: هذه المرة الأولى التي أشعر فيها بالرعب والتوتر. أتعلم مئات الأشياء يوميًا. أتعلم من الجميع وأذهب للمنزل نهاية اليوم وفي يدي سلّة افتراضية من قصاصات الأفكار وأنماط العمل والمهارات. أفككها وأعيد ترتيبها وأدوّن ما أجده ضروري.

هذه الأجواء عزلتني بالكامل عن أصواتي الداخلية، هواجسي، وترددي. ليس هناك وقت للأسف! هناك حركة دائمة وإذا ترددت خطوتك قليلًا سيتعطل الفريق بأكمله. أقول إن هناك وقت سيأتي للتأمل والتحسين والعمل الإبداعي الحقيقي، لكن لنبدأ أولًا بالتعلّم والمراقبة.

أراقب الموظفين كيف يعملون ويتفاعلون مع بعضهم، أبحث عن طريقة للمشاركة والدعم بدون أحكام مسبقة. أظن أن شهر فترة قليلة لأحدد استنتاجاتي. ربما لأن فترة التجربة تمتدّ لتسعين يومًا، هناك فكرة في الموضوع وهذه المرة الأولى التي اتنبه لها. ٩٠ يوم لنفسي وللآخرين.

في منتصف يوليو بدأت ترتيب وقتي حتى لا تصيبني تحولات العمل الجديد بانعدام التوازن. كما توقعت كانت النتيجة جيدة! أن تقتحم منطقة مجهولة مستعدًا بأيام منتظمة، وصحة وهدوء وتركيز أفضل بمئات المرات من الوصول هناك منهكًا متأهبًا للانهيار.

ماذا تعلمتِ يا هيفا؟

كجزء من المراجعة الأسبوعية أكتب مجموعة دروس تنبهت لها -ليست جديدة بالضرورة- وهذه الدروس بالذات أثرت في أسبوعي على مستوى مهنيّ أو شخصي. نسخت هذه النقاط من مذكرتي الشخصية وصياغتها متلعثمة وغير مرتبطة بسياق وهذا ما ستلاحظونه عند قراءتها.  

حصيلة أغسطس وبداية سبتمبر:

  • إعادة البحث في قوائم الحياة المؤجلة وعمل شيء منها أو الاستمتاع بنشاط مهجور.
  • كلّ مرة توشك المحادثة على الانتهاء ابحث عن مدخل إضافي لتحفيزها.
  • الآلام تمضي سريعًا بعد النشاط البدني، لذلك يمكنني دفع نفسي أكثر.
  • اخرجي من قوقعتك قليلًا.
  • الانتباه لكل شيء حولي وإن لم يكن الوقت المناسب لاستخدامه الآن.
  • الحدود جميلة عندما تكون واضحة ومحددة.
  • الحياة تنقلب خلال لحظات.. للأفضل أحيانًا.
  • بناء الجسور عملية طويلة وتحتاج تركيز.
  • تأتي اللحظة المناسبة لتكون مرشدًا أو معلما – استفد منها عندما تحدث.
  • لا تؤجلي متعة أو رواية جميلة.
  • خاصية تأجير الأفلام على Apple  والمكتبة الضخمة للأفلام المستقلة.
  • النوم الكافي سلاحك لمواجهة الأيام السيئة.
  • الثقل الذي يواجهك قبل الخروج من المنزل أو لقاء أحدهم ليس حقيقي بالضرورة. مشاعرك ستكون أوضح بالرفض عندما تأتي اللحظة الحقيقية.
  • لا تستصغر أي مساعدة.
  • التوقف عن انتظار الأشياء يأتي بفائدة أحيانا.
  • يحتاج الآخرون مسرحًا يؤدون فيه مشاهدهم الخاصّة ولك الخيار في أن تبقى ممسكًا بالإضاءة أو لا.
  • الصمت جميل.
  • انعدام الصبر يصنع فوضى غير محببة، اتأمله في نفسي وفي غيري وأركز على الاحتفاظ به وقتًا أطول.
  • أسابيع القمم والقيعان هي بالضرورة أسابيع للتعلم.
  • الراحة مقدمة على كلّ متع الحياة.
  • تمتع برزقك وانظر له بعين الحبّ واطلب من الله البركة وستجدها.
  • «تفكيك المصيبة» إلى تحديات أصغر والتعامل معها بالتدريج خير ما تفعله لنفسك.

Photo via Unsplash

.

.

.

ما الذي يمكن حدوثه في ستة أشهر؟

كل شيء ولا شيء.

أهلا!

نسيت كيف أبدأ تدوينة جديدة، لكن أهلًا تبدو مناسبة ومطمئنة لي لبدء الحديث. حوالي ستة أشهر مرّت على آخر مرة كتبت فيها هنا. هذه هي الفترة الأطول التي أتوقف فيها عن التدوين في قصاصات، لكنّها كانت الأجمل بالنسبة لي. كانت الرغبة في الحصول على الوقت المستقطع واضحة لديّ. شعرت بها في كل مرة دفعت نفسي للكتابة والمشاركة دفعًا. شيء آخر لطيف في هذه التجربة: لم أعلنها ولم أكتب مودعة. وهذا خفف عني أيضا ضغط الفكرة: متى تكتبين مجددًا؟ وما هي فكرة التدوينة الأولى بعد الانقطاع؟ هل من خطة تدوينية؟ سلسلة مثلا؟ إعادة هيكلة للمدونة؟ إعادة تصميم الهوية؟ أسئلة كثيرة لم تكن ببالي. مرت الأسابيع ومن ثمّ الشهور ولم انتبه للعداد الذهني. تلاشى أي أثر للكتابة في المدونة من مرآتي وركزت على الطريق أمامي. أصبحت أنظر للأشياء بعين مختلفة، عندما أقرأ وفي ذهني تدوين الفوائد لنفسي أفعلها بشكل مختلف، أدون كلمات متفرقة، مشاعر أو اقتباسات تعكس شعوري اللحظي حينها وليس ما أودّ قوله وشرحه في تدوينة بعد أسبوع من الآن. لكن حتى لا استرسل في مديح التوقف عن الكتابة أرى أنّه من الضروري الحديث عن اشتياقي لها في نفس الوقت. قضيت الشهور الماضية في الكتابة الشخصية، تدوين اليوميات، والكتابة العلاجية كما أحبّ تسميتها. كتبت في مشاريع مستقلة، وعملت بوظيفة جزئية مع شركة أحبّها. كل ذلك ساعدني على البقاء قريبة من الكتابة، حتى لو تعمدت الابتعاد عنها.

كيف قضيت الوقت بين ديسمبر ويونيو؟

تعويض اللحظات الفائتة

بعد أن استقرت حياتنا بعودة اخوتي للرياض حرصت على تعويض لحظاتنا الفائتة. في رمضان الماضي مثلًا غمرتنا لحظة الاكتشاف: هذه المرة الأولى التي نصوم فيها الشهر معًا بعد عشر سنوات. لم يكن الأمر سهلا في البدء، وأعني بذلك ضبط جدولنا معًا. لدى كلّ منا عمله واهتماماته ودوائره الاجتماعية. والأهم من ذلك تعلمنا إعادة رسم علاقتنا من جديد وكأننا نلتقي بصديق من الطفولة أو قريب مسافر. استدعت مع اكتمال العائلة أمسيات الطهي والذهاب للسينما واستكشاف المدينة.

البحث عن عمل من جديد!

قررت مع بداية العام استكشاف حياتي المهنية وتطوير مساري إن استطعت. كانت تجربة مربكة فقد مضى وقت طويل على تحديث سيرتي الذاتية وصارعت قليلا لإبقائها كما هي بلا تفاصيل أو تعديل. احتجت ليوم كامل من تتبع مهاراتي وإعادة الصياغة وكانت النسخة المحدثة منعشة. بدأت بعدها رحلة التواصل مع الأصدقاء ودائرة معارفي وحتى دائرتي المهنية السابقة. شاركتهم وضعي الوظيفي الحالي، والصعوبات والتطلعات، وما أريد أن أعمل عليه، وطبيعة الجهات التي أودّ الوصول إليها. اكتشفت قوائم الوظائف في مواقع التوظيف وقدمت على كل وظيفة شعرت بأنها تتطابق ومهاراتي. ثلاثة أشهر من البحث والاكتشاف المتواصل بلا تفاعل حقيقي، أو تفاعل ناقص من جهات تجري مقابلة رسمية وتأخذ وثائقي ولا تكلف نفسها بتقديم اعتذار صريح أو رفض.

هذه التجربة وإن لم تكن نهايتها تغيير وظيفتي أو الانتقال لمكان جديد إلا أنها أنعشت معلوماتي حول سوق العمل الحالي بعد سنتين من التوقف عن البحث. تعرفت على المهارات التي تنقصني، والتفاصيل التي يمكنني التخلي عنها في وظيفة مقابل اكتشاف مجال جديد، وأيضا وهذا الأهم: قيمتي الحقيقية والمنافع التي استحقها وهذا يأتي مع المفاوضات والتواصل.

ورشة إعادة اختراع

قدّمت خلال الفترة الماضية ورشة استمتعت كثيرًا ببنائها وسعدت بالحضور والأفكار التي خرجنا بها بعد عدة ساعات. الفكرة الأساسية كانت: إعادة بناء الهوية الشخصية. وجاء وقت تقديمها في فترة مهمة من حياتي. كنت أجمع تجارب التحولات السابقة وأنظر بحماس للقادم وأشاركه مع الحضور لنعمل عليه سوية.

لكن ما الذي قد يدفعك لإعادة بناء هويتك الشخصية؟

تحتاج لإعادة البناء أو الاختراع كما يسميه البعض عندما تجد نفسك في مكان يشبه الحالات التالية:

  • لم يعد بإمكانك تحديد التعرّف على نفسك وما هي رؤيتك المستقبلية وأين ستذهب خلال خمس سنوات مثلا.
  • تعيش مرحلة جديدة من حياتك وتريد أن تُعرف بشكل مختلف.
  • تركت وظيفة وتودّ إعادة بناء سيرتك المهنية ومهاراتك لتحصل على وظيفة جديدة.
  • تحاول الحصول على ترقية أو تحسن من ظروفك المهنية.
  • انتقلت لمدينة جديدة وترغب في بناء شبكة علاقات اجتماعية ومهنية متنوعة.
  • تخرجت حديثا وتشعر أن هويتك المرتبطة بحياة الدراسة لا تناسب وجهتك التالية.
  • تفكر في الانتقال من مجال مهني إلى آخر لا يتفق معه ولا يشارك مؤهلاتك الأكاديمية وترغب في إثبات نفسك هناك.

أفكر في زيارة محتوى الورشة مجددًا وتلخيصه ونشره هنا في المدونة، سأطلعكم على النتيجة بالتأكيد.

الآباء يكبرون أيضا

تعرض والدي لوعكة صحية خلال مارس الماضي، كان يعاني من أعراض خفيفة، ولكنه فعل ما يفعله الآباء دائمًا: تحامل على ألمه وأصرّ على أنها وعكات صغيرة عابرة. من تشخيص لآخر استسلم في نهاية الأمر وأقر بحاجته للإنقاذ. بقي لمدة أسبوعين تحت الملاحظة والفحوصات والاكتشافات. وخلال هذه الأيام التي طالت أكثر من احتمالي أدركت أمرًا أهرب منه كل يوم. هربت منه عندما بدأت علب الأدوية بالظهور، وأجهزة قياس الضغط، والاحترازات والتنبه للتغذية والنوم وأي علامات حيوية أخرى.

لكن الهروب الطويل لم يكن في صالحي عندما أدركت الحقيقة وهو يتكلم بهدوء: ما الذي تظنينه؟ أنا رجل في السبعين! هذه التغيرات متوقعة ويستقبلها هو بإيمان واستسلام يربكني أحيانًا. لكنني دائمًا أرجو أن يبقى بصورته الأولى وهو يحملني على كتفيه، أو يهددني بالخروج عند باب المنزل لتراه زميلات المدرسة بعد أن حلق رأسه وأرجوه ألا يفعل!

ترك والدي المستشفى بصحة أفضل وفي وقت مناسب لنحتفل بالشهر الكريم سوية. لقد كانت لحظة فاصلة لتعلمني درس جديد، أن استعد للزمن في نفسي، أن اتعامل معه كرحلة طويلة تتوقف عند معالم مختلفة وأقبله بتسليم كامل.

إجازة مستحقة

احتفلت بفاصل ممتع مع بداية شهر مايو الماضي. وذهبت في رحلة قصيرة إلى لندن مع أخواتي. الرحلة كانت خاصة لعدة أسباب أولها أن المرة الأخيرة التي سافرنا فيها سوية كانت في ٢٠١٦، لا رحلات داخلية أو خارجية. وكلما بدأنا تخطيط هذه الاجازة يحدث ما يؤجلها. والسبب الثاني أن حصة دخلت عامها العشرين قبل عدة أشهر. احتفال بانضمامها لدائرة الكبار! لدي الكثير لمشاركته حول هذه الرحلة لذلك أنوي التدوين عنها قريبًا.

قررت شيئين أساسيين لاستمتع بها: أريد أن أنام جيدًا لأعوض أرق الفترة الماضية، وأريد أن استمتع بالطعام بكل أصنافه. تركت التخطيط بالكامل لموضي التي بنت تقويمها الخاصّ وشاركته معي. شعور ترك القيادة للآخرين شعور لطيف ما زلت اتعلم قبوله والاستمتاع به. عدت من الاجازة التي امتدت لشهر (مع أيام العيد) منتعشة وسعيدة ومستعدة. شعرت بذلك بوضوح عندما عدت لمهامي التي لم تتغير، ولكن النظر إليها بعين جديدة يهوّن صعوباتها.  

كانت فترة تنفس جميلة.

ستة أشهر من اكتشاف هوايات جديدة والتعرف على أصدقاء جدد وزيارة أماكن مختلفة.

تشافيت من إصابة ركبتي التي لازمتني منذ أبريل الماضي، اليوم اتحسس مكان الألم ولا أجده وهذا جيد!

شكرًا لكل الرسائل اللطيفة التي وصلتني، والسؤال المستمر عن قصاصات.

عدت لنفض الغبار عن بيتي الأحبّ وكلي حماس للقادم والقصص التي سأعود لمشاركتها معكم.

.

.

.

ليلة استعدت رائحة جدّتي

١

استيقظت صباح اليوم وأنا أشعر بقرصة في قلبي. ظننت في البداية أنّ هذا تأثير متابعة نشرات الأخبار والتنقل بين نوافذ المنصات الرقمية لمتابعة أخبار فلسطين وأهلها، لكنّ الأمر كان مختلفًا. احتفظ بشريط كاسيت لأكثر من عشرين سنة فيه تسجيل لصوت أخي محمّد الذي غادرنا بعمر التاسعة. هذا الأثر الوحيد بالإضافة لبعض الصور اليتيمة لدى الأقارب هي كلّ ما تبقى من ذكرى «ماديّة» منه. في البدء كان يزورني في أحلامي أو يزورني أطفال آخرين يشبهونه، لكنّه يكبر في مكانٍ آخر وتتغير صورته في ذهني. أحيانًا أفكر كيف كان سيبدو شابًا في الثانية والثلاثين؟

استيقظت اليوم بقرصة في قلبي وبحثت عن الشريط في كل مكان ومخبأ في غرفتي ولم أجده. هل تخلصتُ منه؟ هل أضعته؟ لا، لا أعتقد. لقد حرصت على نقله من بيتٍ لآخر بحذر دون أن تمتدّ له يدي للاستماع، ثلاثة وعشرون عامًا بلا استماع. لم أشعر بفضول لفعل ذلك، لكن الاطمئنان يغمرني لأني أحمله معي. توقفت عن البحث بعد عدة ساعات وقررت أن الهدوء ومضيّ الوقت سيساعدانني في إيجاده. كلما فقدت أحد أفراد عائلتي أبدأ قائمة ذهنية لما أذكره عنهم: صفاتهم الجسدية، وعلاماتهم الفارقة، وأصواتهم وروائحهم.  أكتب عنهم حتى لا أنسى وأعيد قائمتي كلما مرّ وقت على غيابهم لأتحقق من وجودهم الثابت.

٢

إذا كنت سأضيف أوقات اليوم للقائمة الذهنية المرتبطة بأحبتي سيكون الصباح لجدتي لأبي: حمدة. لقد تعلّمت منها معنى الهدوء في الصباح الباكر، والتأمل، والجلوس للاستمتاع بالنّعم. وإذا أردت استعادة ذكرياتي معها ستكون دائمًا صباحية. والذاكرة مخادعة أحيانًا، فما ظننته شهورًا وأسابيع من عطلات سعيدة، سيصبح ثلاثة أيام أو يومين أخذت صورها ومددتها ليطول أثرها في نفسي. ربما كنت في السابعة أو الثامنة، لا أذكر ولم أبذل جهد للربط والتحقق. الجو ربيع أو بداية الشتاء، أذكر ذلك من ملابسي، الكنزة الخفيفة، والجوارب البيضاء، وشعري المشدود. تسمح لنا والدتي بالنزول للطابق السفلي في بيت جدي القديم. نتبع صوت تغيير قنوات الراديو ويقودنا للحديقة بأحواضها البيضاء. تجلس جدتي على قطعة سجاد مع مسندين للظهر وثالث للاتكاء. في صينية أمامها إبريق حليب دافئ وأكواب زجاجية صغيرة يُشرب فيها الشاي عادة. تسكب لنا وتبدأ بتبريد الحليب بنقله من كوب لآخر. ثم يبقى للحظات أمامنا، وتأتي اللحظة الأحبّ: إزاحة قشرة الحليب الباردة وتركها على حافة الكوب. نشرب ونضحك ونتساءل عن طعم الحليب الذي لا يشبه ما اعتدنا عليه. كنت أكره إضافة الزنجبيل للكوب ولم اكتشف إلا لاحقًا روعة هذه الإضافة وأهميتها للدفء. في صباحات جدتي تعرّفت على القطط للمرة الأولى. وركضت خلف قطة زيتونية اسمها زيتونة وجرسها الصغير يرنّ بين أشجار الفل والريحان. في صباحات جدّتي تبعت وشم وجهها الأخضر بأصابعي، وأدرت خواتمها الفيروزية حول تجاعيد أصابعها. حدّثتني عن أمها، وبكتها وكأنها توفيت بالأمس. لقد شرحت لي معنى كلمة يتيم قبل أن تشرحها الأستاذة.

توفيت جدتي في ١٩٩٧ بعد معاناة مع مرض الألزهايمر، وبدأت في الليلة الأولى من العزاء صياغة قائمتي الذهنية عن جدتي: كيف تشد غطاء رأسها على فمها وهي تضحك كي تغطي أسنانها المفقودة، التجويف تحت كتفها الأيمن بعد إزالة عدد من أضلاعها، ضفائرها النحيلة، كيف تغفو وهي تستند على يدها أمام التلفزيون وعندما ننبهها تقول لم أنم، قصات ثيابها الثابتة، سوارها الذهبي العريض وقفله الخاصّ، آثار الكيّ على مفصل معصمها، بياضها، ولهجتها وكلماتها المحببة. ولكنني فقدت رائحتها دفعة واحدة ولم استطع القبض عليها حتى اقتنيت زجاجة عطر في سبتمبر الماضي.

٣

القصة بدأت في أكتوبر ٢٠١٩. كنت في متجر ضخم في لندن البريطانية وقررت استكشاف أكشاك العطور الموزعة حول المكان. اخترت عطرًا بالورد الدمشقي وأساسه الماء. أحببت رائحته لكنني كنت في أيام رحلتي الأخيرة وميزانيتي محدودة حتى على زجاجة عطر متوسطة السعر. عدت ومرّ عام كامل قبل تذكر العطر من جديد وطلبه عبر متجرهم الإلكتروني. منذ الأيام الأولى لاستخدامه شعرت بألفة شديدة تجاهه كأنه رائحة ذكرى قديمة. مرت سنة كاملة ولما اقتربت لنهاية الزجاجة وصلت للإجابة: رائحة جدتي!

لا أعرف إذا كانت تستخدم العطور أو سبق وامتلكت زجاجة عطر فرنسي بالورد، لكن ذاكرتي قررت في ليلة من ليالي الشهر الكريم – العشر الأواخر تحديدًا – أن هذه رائحة جدتي المفقودة. وحتى أتحقق من أنني لا أتوهم هذا الرابط «العجيب» سألت أختي: ما الذي تذكرك به هذه الرائحة؟ وأجابت بلا تردد: شيء في بيت جدّي! لقد وصلت إذًا. توفيت جدتي ليلة السابع والعشرين من رمضان قبل أربعة وعشرين عامًا. سبقت محمّد بسنة واحدة، وكأن رحيلها يجهزنا لفقد أكبر. وخلال السنوات الأربعة التالية فقدنا المزيد من أفراد العائلة وما زلت حتى اليوم أعدّ لكل منهم قائمة ذهنية خاصة أكتبها أحيانا.

أجزم بأنّ كل أفراد العائلة الأحياء يحتفظون بقوائمهم الخاصة ولكلّ قصته. يتذكرون كلّ شيء بصورة مختلفة ما إن نجلس سوية ونبدأ بالحديث. ما احتفظت به كتفاصيل سعيدة وجميلة قد تكون مزعجة للآخرين. وهذا هو الأمر الذي يدهشني في الذاكرة ويدفعني لأكتب بلا توقّف كي لا أنسى، كي لا ننسى.

.

.

٣٠ أبريل

مررت مؤخرًا باقتباس للكاتبة أليس ووكر تصف فيه الانزعاج المصاحب للنموّ. وتقول إن بعض فترات نموّنا مربكة للغاية لدرجة أننا لا ندرك أن النمو يحدث خلالها. نجد أنفسنا في حالة عدائية، يغمرنا الغضب والانزعاج ونستسلم للبكاء كثيرًا وقد ننزلق للاكتئاب. ولن نعلم أبدًا أنّ هذه هي أعباء النمو والتغيير حتى نمرّ بنصّ أو كتاب أو شخص يوضح لنا أن هذا طور من أطوار التغيير. تشبّهنا ووكر بالبذرة الصغيرة التي تشعر بثقل الأرض ومقاومتها وهي تسعى لكسر قشرتها ومد براعمها فوق السطح. شعور غير ممتع بالتأكيد ومليء بالتساؤلات والضبابية. إن أكثر ما يربكنا في هذه الفترات هو طولها، وكأننا ننتظر رحلة بعيدة، أو نحبس أنفسنا لعبور عاصفة دون التأكد من الخطوة القادمة. وقفت طويلا عند هذا الاقتباس واستعدت الفترة الماضية من حياتي وما دوّنته من هواجس وأفكار. أدرك الآن أن الحياة سلسلة من لحظات عنق الزجاجة التي ما أن نعبرها حتى نجد أنفسنا فيها من جديد. هذا التكرار يعلّمنا كيفية تغيير الطرق التي نعبرها ونجرّب مهما كان المستقبل مجهولًا. في المرة القادمة التي أكون في مواجهة مع موجة الانزعاج وعدم الجدوى سأذكر نفسي بهذا بدلا من رغبتي الدفينة في الوقوع على الأرض وركلها بقدميّ كالأطفال.

أبريل كان شهر لطيف ومتعب في نفس الوقت وضعت له خطط متفائلة قبل البدء وغيرتها أكثر من مرة حتى توصلت أخيرًا أن دخول رمضان يعني أن أهتم بنفسي أكثر واتجاهل القيود التي وضعتها. لم أقرأ الكتب التي انتظرت رمضان للبدء بها بعد، لكن قراءة المقالات أسهل مع عبء العمل والتفكير والبحث. أقف أحيانا أمام مكتبتي لدقائق في محاولة لاختيار كتاب وانتهي إلى التمدد على السرير المجاور لها وتأمل السقف بينما تتوسد هرّتي ذراعي وهذا يهدئ من قلقي ويعطيني استراحة مثالية قبل العودة من جديد لمكتبي وأعمالي.

وعلى غرار تدوينات الصديقة مها البشر سأشارك معكم مباهج الأسابيع الماضية من أبريل:

  • متأخرة عشرين سنة! حضرتً مع أختي الصغرى الجزء الأول من ثلاثية ملك الخواتم Lord of the Rings في سينما Vox بالرياض. الفيلم ممتع جدًا وسعدت بأني أجلت مشاهدته أكثر من مرة حتى أحتفل بروعة الإنتاج على شاشة كبيرة وصوت غامر.
  • اكتشفت بودكاست Life Kit من NPR خلال الفترة الماضية والآن اختار المواضيع التي تهمني من حلقاته السابقة واستمع لها بشكل يومي. المواضيع متنوعة جدًا والبودكاست اسم على مسمّى فهو يقدم مواضيع ويستضيف مختصين لمناقشة مواضيع من الحياة. الأمر يشبه حقيبة الإسعافات الأولية التي تمدّ لها يدك كلما احتجت التعامل مع موقف جديد.
  • في مدونة جوانا غودارد التي أحبها كثيرًا قرأت عن تقليد عائلي تتبعه مع أسرتها في اجتماعاتهم وتسميه «وردة، شوكة، برعم». كل فرد من الأفراد المجتمعين يتحدث عن يومه مع الآخرين ويشاركهم وردة (شيء إيجابي حدث له في ذلك اليوم) وشوكة (شيء سلبي حدث في ذلك اليوم) وبرعم (شيء يتطلّع لحدوثه). تصف جوانا طلب المشاركة هذا بأنه طريقة أفضل للسؤال عن الحال وتفاصيل كلّ شخص دون الاعتماد على السؤال التقليدي الواسع: كيف حالك؟ أو كيف كان يومك؟
  • بدأت باستخدام موقع وتطبيق notion للدمج بين ملاحظاتي الورقية والالكترونية، أصبحت أرمي بكل ما يمر ببالي تجاه موضوع معين على شاشة الموقع، وأصنف وألون وأضيف الروابط والجداول. ما زلت استخدم النسخة المجانية منه ولا أفكر في الترقية فالنسخة الحالية تغطي احتياجاتي.

كيف كان الشهر الماضي؟ حدثوني عن وروردكم وأشواككم وبراعمكم؟

.

.

.

الصورة من موقع Unsplash

رقبة متيبّسة وحفلة فائتة

شاركت في تويتر تغريدة حول تدوينة قادمة عن كتابة اليوميات. غمرتني الحماسة واستعديت لإنجازها ونشرها ومشاركة أكثر من ٥٠ تجربة لمتابعين اعتمدوا تدوينات اليوميات في حياتهم كطريقة للتفكير، أو الاستشفاء، أو للاحتفاظ بالذكريات لمدة أطول. هذه التدوينة أيضًا ستضم تجربة شخصية حول الموضوع، وبعض الأفكار وترجمات لمقتطفات من كتّاب ومبدعين حول تدوين اليوميات. ما حدث أنّ هذه التدوينة لم تنضج في الوقت الذي توقعته، وصادفت منعطف متعب خلال الأيام الماضية. استيقظت صباح الخميس ولم أستطع التحرك من فراشي، شعرت وأنني في كابوس مرعب والألم كله متركز في رقبتي وكتفي الأيسر. أعدت شريط الليلة الماضية والفجر، ولم أجد أي حادثة قد تتسبب بذلك. المتهم الوحيد هو وضعية نومي الغرائبية التي تحولني إلى فطيرة قرفة ملتوية دون الالتفات لثقل أطرافي والساعات الطويلة التي أقضيها هكذا. بعد محاولات للنهوض جلست على حافة السرير وطلبت المساعدة من أخي الذي أحمد الله أنه كان في المنزل أو كنت سأبقى في هذه الوضعية حتى المساء. مع كلّ حركة آتي بها كان الألم يزداد ويتضاعف، قضيت ساعتين بين تدليك وكمادات حارة وباردة على التوالي وبعدما استعدت جزء من المرونة غيرت منامتي ومشطت شعري وغسلت وجهي وأسناني. المضحك في الأمر أنني كنت أغرق في نوبة بكاء غير مبررة، وأضحك وأعود للبكاء من جديد. أكتافي مبللة من الدموع وكريم العضلات العضوي ورائحته التي تشبه الفواكه الفاسدة. لماذا كنتُ أبكي؟ رقبتي متيبسة، ولدي أعمال كثيرة، ومساء الجمعة حفلة عائلية بمناسبة زواج ابنة عمي. تجمعت كلها. ولكن الحقيقة أنني كنت أبكي بسبب هذا الضعف المفاجئ، وفكرة احتياجي لمن يحركني ويسندني بعد شرح مستفيض لأماكن الألم الأشد. لم أذهب للمستشفى فأنا صديقة العلاجات المنزلية وطبابة غووغل. كريم هنا، لفافة مشدودة هناك، وكمادة دافئة كفاية وتمّ الأمر.

ومع كل هذا كان الخميس يوم منتج. أنهيت رواية رائعة لإيزابيل آييندي واستمعت لحلقة بودكاست، وشاهدت مسلسل مفضل جديد، وأجريت مكالمات بسماعات لاسلكية. تبقت الكتابة التي حاولت أن اتفاداها واتفادى ضغط البحلقة في الشاشة لساعات. تلك الليلة قرأت إرشادات النوم مع هذا العرض المؤلم ووجدت أن وضعيتي المفضلة لا تصلح إطلاقًا، بل يحذر منها على وجه التحديد. وتبقت وضعية الكوابيس “النوم على الظهر” والأخرى وضعية الجنين التي لا أحب استبعاد الوسائد فيها. استلقيت على ظهري وحاولت الذهاب في الغفوة بمساعدة هدهدة صراخ أطفال الجيران، وحبتيّ مسكن، والتأرجح يمنة ويسرة لمحاكاة سرير الطفولة. غفوت سريعًا ولكن استيقظت وسيل الألم يحكم قبضته على رقبتي وكتفي وصرخت وبكيت بكاء مكتوم كي لا أوقظ المنزل. مرّت الساعات، الثانية عشرة والنصف، الواحدة و٤٥، الثانية والربع، أذان الفجر، مواء لولو، الثامنة صباحًا! لم أتمكن من إتمام دورة نوم كاملة.

من جديد حاولت النهوض من فراشي ولم أستطع. أعرف أن الحائط يقع في الجهة اليسرى من السرير تحركت ببطء واستدرت حتى واجهته ثم ثبتت أقدامي عليه واستخدمته للنهوض! استمتعت بنهار الجمعة الغائم، ومن جديد كمادات متنوعة، واستسلمت للصقات العلاجية التي أنقذت الموقف. احتجت بعدها للراحة وبعض تمارين التمطيط، وفكرت أن الخروج في الأجواء الباردة ليلًا لن يساعدني. وعلى مضض، بقيت في المنزل وفاتتني الحفلة. مساء الجمعة كان فرصة للبقاء مع نفسي، شاهدت التلفزيون وحرصت على البقاء بزاوية ٩٠ درجة لتخفيف الضغط على رقبتي. تمططت مع قطّتي. تناولت النودلز كعشاء وشاهدت فيلم مبني على رواية لإيان مكيوان أجلته طويلًا On Chesil Beach وغفوت في وقتي اليومي برقبة تحررت أخيرًا من الألم.  لا أدري حقيقة إذا كنت سأعود لوضعية نومي المفضلة، فما زلت في رعب الإصابة.

صباح اليوم خرجت لرؤية المدينة وهي تغتسل بالمطر، حضرت جلسة عصف ذهني وبحث ممتعة، ثم تناولت الغداء في مطعم جديد مع أختي وصديقتنا ربى واقتنيت شمعة جديدة برائحة الورد هدية للشتاء. تغيير الخطة هذا رائع وبكائي صباح الخميس غير مبررّ. في المرة القادمة التي أبكي بسبب احتياجي للمساعدة سأذكر نفسي بأهمية الشكر والامتنان لوجود من يقدّمها لي، وسأقبلها بحبّ.

اللوحة في الصورة للرسام Odilon Redon

.

.

.