ليلة استعدت رائحة جدّتي

١

استيقظت صباح اليوم وأنا أشعر بقرصة في قلبي. ظننت في البداية أنّ هذا تأثير متابعة نشرات الأخبار والتنقل بين نوافذ المنصات الرقمية لمتابعة أخبار فلسطين وأهلها، لكنّ الأمر كان مختلفًا. احتفظ بشريط كاسيت لأكثر من عشرين سنة فيه تسجيل لصوت أخي محمّد الذي غادرنا بعمر التاسعة. هذا الأثر الوحيد بالإضافة لبعض الصور اليتيمة لدى الأقارب هي كلّ ما تبقى من ذكرى «ماديّة» منه. في البدء كان يزورني في أحلامي أو يزورني أطفال آخرين يشبهونه، لكنّه يكبر في مكانٍ آخر وتتغير صورته في ذهني. أحيانًا أفكر كيف كان سيبدو شابًا في الثانية والثلاثين؟

استيقظت اليوم بقرصة في قلبي وبحثت عن الشريط في كل مكان ومخبأ في غرفتي ولم أجده. هل تخلصتُ منه؟ هل أضعته؟ لا، لا أعتقد. لقد حرصت على نقله من بيتٍ لآخر بحذر دون أن تمتدّ له يدي للاستماع، ثلاثة وعشرون عامًا بلا استماع. لم أشعر بفضول لفعل ذلك، لكن الاطمئنان يغمرني لأني أحمله معي. توقفت عن البحث بعد عدة ساعات وقررت أن الهدوء ومضيّ الوقت سيساعدانني في إيجاده. كلما فقدت أحد أفراد عائلتي أبدأ قائمة ذهنية لما أذكره عنهم: صفاتهم الجسدية، وعلاماتهم الفارقة، وأصواتهم وروائحهم.  أكتب عنهم حتى لا أنسى وأعيد قائمتي كلما مرّ وقت على غيابهم لأتحقق من وجودهم الثابت.

٢

إذا كنت سأضيف أوقات اليوم للقائمة الذهنية المرتبطة بأحبتي سيكون الصباح لجدتي لأبي: حمدة. لقد تعلّمت منها معنى الهدوء في الصباح الباكر، والتأمل، والجلوس للاستمتاع بالنّعم. وإذا أردت استعادة ذكرياتي معها ستكون دائمًا صباحية. والذاكرة مخادعة أحيانًا، فما ظننته شهورًا وأسابيع من عطلات سعيدة، سيصبح ثلاثة أيام أو يومين أخذت صورها ومددتها ليطول أثرها في نفسي. ربما كنت في السابعة أو الثامنة، لا أذكر ولم أبذل جهد للربط والتحقق. الجو ربيع أو بداية الشتاء، أذكر ذلك من ملابسي، الكنزة الخفيفة، والجوارب البيضاء، وشعري المشدود. تسمح لنا والدتي بالنزول للطابق السفلي في بيت جدي القديم. نتبع صوت تغيير قنوات الراديو ويقودنا للحديقة بأحواضها البيضاء. تجلس جدتي على قطعة سجاد مع مسندين للظهر وثالث للاتكاء. في صينية أمامها إبريق حليب دافئ وأكواب زجاجية صغيرة يُشرب فيها الشاي عادة. تسكب لنا وتبدأ بتبريد الحليب بنقله من كوب لآخر. ثم يبقى للحظات أمامنا، وتأتي اللحظة الأحبّ: إزاحة قشرة الحليب الباردة وتركها على حافة الكوب. نشرب ونضحك ونتساءل عن طعم الحليب الذي لا يشبه ما اعتدنا عليه. كنت أكره إضافة الزنجبيل للكوب ولم اكتشف إلا لاحقًا روعة هذه الإضافة وأهميتها للدفء. في صباحات جدتي تعرّفت على القطط للمرة الأولى. وركضت خلف قطة زيتونية اسمها زيتونة وجرسها الصغير يرنّ بين أشجار الفل والريحان. في صباحات جدّتي تبعت وشم وجهها الأخضر بأصابعي، وأدرت خواتمها الفيروزية حول تجاعيد أصابعها. حدّثتني عن أمها، وبكتها وكأنها توفيت بالأمس. لقد شرحت لي معنى كلمة يتيم قبل أن تشرحها الأستاذة.

توفيت جدتي في ١٩٩٧ بعد معاناة مع مرض الألزهايمر، وبدأت في الليلة الأولى من العزاء صياغة قائمتي الذهنية عن جدتي: كيف تشد غطاء رأسها على فمها وهي تضحك كي تغطي أسنانها المفقودة، التجويف تحت كتفها الأيمن بعد إزالة عدد من أضلاعها، ضفائرها النحيلة، كيف تغفو وهي تستند على يدها أمام التلفزيون وعندما ننبهها تقول لم أنم، قصات ثيابها الثابتة، سوارها الذهبي العريض وقفله الخاصّ، آثار الكيّ على مفصل معصمها، بياضها، ولهجتها وكلماتها المحببة. ولكنني فقدت رائحتها دفعة واحدة ولم استطع القبض عليها حتى اقتنيت زجاجة عطر في سبتمبر الماضي.

٣

القصة بدأت في أكتوبر ٢٠١٩. كنت في متجر ضخم في لندن البريطانية وقررت استكشاف أكشاك العطور الموزعة حول المكان. اخترت عطرًا بالورد الدمشقي وأساسه الماء. أحببت رائحته لكنني كنت في أيام رحلتي الأخيرة وميزانيتي محدودة حتى على زجاجة عطر متوسطة السعر. عدت ومرّ عام كامل قبل تذكر العطر من جديد وطلبه عبر متجرهم الإلكتروني. منذ الأيام الأولى لاستخدامه شعرت بألفة شديدة تجاهه كأنه رائحة ذكرى قديمة. مرت سنة كاملة ولما اقتربت لنهاية الزجاجة وصلت للإجابة: رائحة جدتي!

لا أعرف إذا كانت تستخدم العطور أو سبق وامتلكت زجاجة عطر فرنسي بالورد، لكن ذاكرتي قررت في ليلة من ليالي الشهر الكريم – العشر الأواخر تحديدًا – أن هذه رائحة جدتي المفقودة. وحتى أتحقق من أنني لا أتوهم هذا الرابط «العجيب» سألت أختي: ما الذي تذكرك به هذه الرائحة؟ وأجابت بلا تردد: شيء في بيت جدّي! لقد وصلت إذًا. توفيت جدتي ليلة السابع والعشرين من رمضان قبل أربعة وعشرين عامًا. سبقت محمّد بسنة واحدة، وكأن رحيلها يجهزنا لفقد أكبر. وخلال السنوات الأربعة التالية فقدنا المزيد من أفراد العائلة وما زلت حتى اليوم أعدّ لكل منهم قائمة ذهنية خاصة أكتبها أحيانا.

أجزم بأنّ كل أفراد العائلة الأحياء يحتفظون بقوائمهم الخاصة ولكلّ قصته. يتذكرون كلّ شيء بصورة مختلفة ما إن نجلس سوية ونبدأ بالحديث. ما احتفظت به كتفاصيل سعيدة وجميلة قد تكون مزعجة للآخرين. وهذا هو الأمر الذي يدهشني في الذاكرة ويدفعني لأكتب بلا توقّف كي لا أنسى، كي لا ننسى.

.

.

5 تعليقات على “ليلة استعدت رائحة جدّتي”

  1. شكرًا لك و لكل كتاباتك التي تقومين بنشرها ؛ أشعر بالمتعة في كل مرّة اقرأ لك نصّاً أو مقالة ..
    و بالمناسبة كتاباتك دائماً تلامس روحي و طريقة تفكيرك مبهرة تبارك الله.

  2. شكرًا لكلامك الذي يحفزني دائما ويشجعني شكرًا لانك تكتبين كي لاتنسي وانا اقرا لابتسم لا احس اني استطيع ترجمة مايدور في عقلي
    تحفيزيني للكتابه كثيرًا
    رحمهما الله وموتنا وموتى المسلمين

  3. مؤلمة جدا فكره أن يموت إنسان نحبه و المخيف أكثر أنك ممكن ننسى تفاصيل وجهه أو رائحته أو حتى صوته . نكتب و نكتب و قد تخونا الكتابة يوم ما ونصاب بالزهايمر كجدتك ؛ نشعر بالحنين و لا نستطيع التعبير عنه .

    الله يرحمهم جميعا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.