الإرشاد بصحبة الخيول

اليوم سأشارككم قصة تجربة ممتعة، وفريدة ومؤثرة. وددت لو حصلت على الوقت المناسب للكتابة عنها وهي طازجة! لكن الحمد لله على تدوين الملاحظات واليوميات والعودة إليها لاحقًا.

كنت قد شاركتكم تفاصيل رحلتي الأخيرة إلى بنسلفانيا الأمريكية والوقت الذي قضيته بين الريف والمدينة. كانت زيارة مزرعة الخيول إحدى أهم وقفات رحلتي. وسعدت بالجلسة الإرشادية التي قدمتها لي مرشدتي إريكا كجزء من سلسلة الجلسات الإرشادية التي بدأتها معها منذ سنة وأكثر.

كما حدثتكم ميزة هذا الإرشاد أو التدريب الميسر مع متخصص أنه لا يتطلب ركوب الخيل وهو شيء لا أجيده -بل أخشاه! فعلاقتي مع الخيول مضطربة منذ سنوات بعيدة وتخللتها محاولات بسيطة لركوبها أو الوقوف بالقرب منها. الأمر لا يقتصر عليها وحسب بل على الكثير من الكائنات الحية التي يفوق حجمها وطولها قياسات جسمي. لديّ هذا الهاجس المرعب أنها ستحطمني بحوافرها أو تنطحني برأسها. إن فكرة التواجد في محيطها الخاصّ تبث الرعب في جسدي ويبدو ذلك واضحًا ومقلقا لمن هم حولي.

قبل سنتين كنت في زيارة للمزرعة واكتفيت بالوقوف حول السياج والنظر للخيول من بعيد. إن رؤية منى أختي على ظهر حصانها المفضل تطلق فراشات رعب صغيرة بداخلي. وفي أحيانٍ أشاهدها وهي تقترب منه وتنظفه أو تطعمه تزيد سرعة نبضاتي، ماذا لو تعرضت للأذى؟ لم أدرك أن كلّ هذا جاء بالتدريب والممارسة. كانت تحمل بداخلها ذات المخاوف لكنها تخلصت منها برفقة الخيل. التي عرفت لاحقا أنها من أكثر الكائنات إحساسا لما يحيط بها، ويمكنها قراءتنا بوضوح حتى وإن لم نلمح ذلك.

لماذا التدريب بصحبة الخيول أو Equine Facilitated Learning؟

حصة التدريب أو الاكتشاف كما أحبّ تسميتها سبقها تعريف بسيط من مرشدتي إريكا وطلبت منها مشاركتي نبذة عن هذا النوع من الجلسات لأذكرها هنا:

  • يربط هذا النوع من الإرشاد بين الانسان والخيل ليتمكنوا من فهم طريقة تحركهم في العالم.
  • يطرح الميسر أو المرشد أسئلة حول ما يلاحظه من تفاعل الأفراد والخيول ويثير وعيهم وينبههم لأفكار معينة.
  • يمكن تسمية هذا التعلم بالتجريبي لأنه يتم بالتدريب العملي مع الخيول، ومن هنا يحصل الأفراد على دروس عميقة ومؤثرة.
  • نجد من الخيول ردات فعل نقية بلا حكم مسبق فهم لا يعلمون من نحن؟ ومن أين جئنا؟ وماذا نعمل؟ هم فقط يرون طريقة تواصلنا معهم ويقرؤون مشاعرنا.
  • الخيول كائنات حدسية وحساسة جدًا لدرجة تمكنهم من رؤيتنا بوضوح.
  • نادرًا ما نحصل على فرصة التواجد في مساحة لا تُطرح فيها الأحكام علينا، لذلك نجد في صحبة الخيل والتواصل معها فرصة جيدة للتعلم.

زرت المزرعة قبل موعد جلستنا مرتين قضيتها في المشي والتقاط الصور للخيول عن بعد ومحاولة الاقتراب منها بحضور منى وإريكا. شعرت بالأمان حقيقة بسبب وجودهم وكونهم إما يعتنون بها أو يمسكونها بإحكام أو يركبونها وفي كل هذه الحالات لن أخشى هجومها علي. أكتب هذه الكلمات الآن وأنا اضحك من نفسي فما حصل لاحقًا أدهشني.

في يوم الجلسة اقتربت من سياج المرج الذي اجتمعت به الخيول، كانت عددها ١٢ إذا لم تخني الذاكرة. وقفت قرب السياج واخبرتني إريكا أن التدريب يتطلب الدخول هناك والمشي عبر المرج والوصول للخيول وبدء الجلسة.

هذه المرة الأولى التي أعبر السياج وخلال الخطوات التالية التي مشيتها كنت أذكر نفسي: لن يصيبك شيء!

خيول المزرعة

أطلس وسانتانا والبقية

كلّ شخص سيحظى بتجربة مختلفة بالتأكيد، مخاوفنا لا تتشابه وترددنا كذلك. لم يكن لدي أي توقعات مسبقة لما سيحدث. في البدء طلب مني الاقتراب من حصان ضخم وفي مقياسي الشخصي كان حجمه أقرب إلى سيارة نقل منه إلى كائن حيّ. خطوت باتجاهه واقترب فورا ودنا مني برأسه في تصرف يشبه التحية ثم تجاوزني وذهب وتبعه حصان آخر. لم اتحرك للحظات ونظرت باتجاهها لفهم ما مررت به. كانت مشدوهة. هذا الحصان اسمه أطلس وهو كبير الخيول على ما يبدو وآخر شخص توقعت أن يقترب لتحيتي. كان يقول بطريقته أهلا بك.

لا أخفي عنكم غمرتني مشاعر غريبة كان مجملها: أنني مرئية. ويصعب علي شرح هذا دائمًا لأن ما يعبر ذهني في كثير من الأوقات أنني شفافة ولا أحد يلحظ وجودي.

توالت لحظات التحية هذه، وكانت تمشي قربي وتطرح علي الأسئلة التي تدفعني للتفكير بعمق. ما هي مخاوفك؟ جربي لمس الحصان ماذا تشعرين؟ شعرتُ بنبضهم وثقل وجودهم. وفي جهة أخرى خفتهم وظرافتهم. مررت قرب بعض الخيول ولم تحرك ساكنًا وأشعرني ذلك بالإحباط لأعود للتجربة والعمل بنصيحتها والمحاولة مرة واثنتين حتى نجحت. كانت تسألني برأيك متى تنبهت الخيول لوجودك؟ وأخبرها بأن ذلك حدث عندما شددتها نحوي أو لمستها أو اقتربت منها كثيرًا. لكنها صححت هذه الفكرة وأشارت إلى مسافة بعيدة انتبهت الخيول فيها لتقدّمي. هناك إشارات أخرى يظهرونها منها حركة الاذنين أو التفاته سريعة لا تلتقطها عيني من بعيد.

كانت تشرح باستفاضة انعكاس هذه المفاهيم على التواصل بين البشر، وما تعنيه في حياتي الاجتماعية على وجه التحديد. أنتِ مرئية ومؤثرة بقدر ما تنتبهين لذلك.

توقفت كثيرًا على ذلك المرج لأمسح دموع انهمرت من الحماس أو الاكتشاف. واعتذرت لأكثر من مرة عندما فرغت جيوبي من المناديل وانتهى بس الأمر لأغرق قميصي بالبكاء.

صديقي سانتانا

أن نقتل خوفنا معًا

انتهينا من العمل في الخارج وطلبت منّي إريكا اختيار أحد الخيول لاصطحابه للمرحلة التالية من الجلسة، لم أطل التفكير واخترت الحصان سانتانا الذي تواصلت معه على مستوى أعمق.

في الجزء الثاني عملت وهو على مستوى قريب وفي مساحة تدريب أضيق من المرج. كان الهدف هو بناء مهارات التواصل المتنوعة، مرة باللمس، مرة بالتواصل البصري والكلام فقط ومرة باستخدام الرسن والحبل.

كان هذا الحصان مميز لأنه يخاف من نقطة معينة في ساحة التدريب واحتاج لاستخدام القوة لجذبه والمشي حولها. في الحظيرة المجاورة خنزير وهو يخاف منه على ما يبدو. كانت مهمتي تطمينه وأصبحت أفكر في نفسي بداية هذا اليوم وكيف كنت اخطو باتجاهه والرعب يسكنني. والآن أحاول إقناعه أن الخنزير لن يقتله وبإمكانه السير في الجهة الأقصى من الساحة.

كانت إريكا تراقبني بفخر، وفي جهة أخرى من المكان منى تلتقط الصور متأثرة لتقول لي لاحقًا: ما فعلته اليوم احتجت لأسبوعين لأقوم به.

ما يهمني اليوم من تلك التجربة ليس القرب من الخيل وحسب بل ما تعلمته عن نفسي ورغبتي في تحسين مهارات التواصل في حياتي. أن اقترب قليلًا لأشجع الآخرين لأخذ خطوة أو خطوات مماثلة. وانتبه لأثري وأرى وجودي أكثر من كونه شفاف ولا يُرى. واتخفف من مخاوفي والسيناريوهات التي أبنيها لمواقف لن تحدث – وهنا على سبيل المثال قصة الخيول التي ستقتلني. ما تعلمته خلال ساعات مع مرشدتي الماهرة وجّه الضوء لجوانب غفلت عنها في ركضي عبر الحياة. مشاعر وأفكار بديهية لم أجد اللحظة المناسبة لاكتشافها حتى ذلك النهار البعيد من يوليو.

.

.

.

تعليقان (2) على “الإرشاد بصحبة الخيول”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.