تنانير تفصيل ..وأشياء أخرى.

via Tumblr

أبحث دائماً عن أفضل مدخل للتدوينة الجديدة. كلّ مرة أقول هذه أفضل، أو تلك. لكن الرضا العميق لديّ لا يتحقق. وأعرف تحفز القراءة الذي يسكنني كلما قرأت عنوان مقالة جديدة أو حتى بداية كتاب. لا أريد مقدمات! أريد المحتوى وأريده الآن.

إبريل شهر مناسب لبدء التخطيط للصيف، والتخطيط للصيف لا يعني السفر فقط! خططوا صيفكم كما تريدون ولكل ما ترغبون بفعله. هذا العام أذهب في رحلة استجمام ومغامرة قصيرة الفرق بينها وبين رحلة العام الماضي لأمريكا أنّ الدعم المادي لها والتخطيط سيكون شخصي بامتياز، عندما ترغب بشدة في السفر وتخبرك أسرتك وبصراحة: لا يمكننا تحمّل التكاليف وعليك إيجاد طريقة لجمع المال.

الخطوة الأولى لتحقيق ذلك أولاً: إيجاد عمل! وبما أنني مشغولة بكتابة بحثي وأعمال أخرى أتنقل بين المدن لأجلها ولا استقر، فإنني أبحث عن عمل مرن، عمل يقدم لي مصدر دخل جيّد ويمكنني القفز من العربة وهي تسير وكلما أردت ذلك دون خسارة الكثير ودون التسبب بالمشاكل للمؤسسة. كانت فكرة العمل مع والدتي أعظم فكرة مضيت فيها منذ سنوات، بيئة عمل سعيدة وبرّ والدين، وإجازات اضطرارية والعمل عن بعد.

لا أريد الحديث الآن عن تجربة العمل –تدوينة مستقبلية وكثير من التسويف- لكن سأقول: بعد الراتب يأتي التوفير، والتوفير المقصود لا أعني به طبعاً التقتير الشديد وانتظار الصيف والحرمان حتى ذلك الحين، كلّ شيء رائع بالاعتدال. احتسب قيمة المصروفات الأساسية التي لا تستطيع الانتظار واقتسمها مع أختي: اشتراك قنوات التلفزيون، قهوتنا المفضلة، مشتريات السوبرماركت التي لا تدخل في ميزانية العائلة، رحلات التسوق الصغيرة، زيارات الصديقات وهدايا المواليد وأعياد الميلاد وغيرها. أما المشتريات المجنونة والتي بلا سبب تنتظر، تنتظر طويلاً.

من الأشياء التي قمت بتجربتها تغيير أماكن اقتناء الملابس، شراء أدوات تجميل بجودة عالية وسعر أقلّ، التوقف عن الأكل خارج المنزل والطبخ أكثر، تفصيل الملابس بدلا من شراءها-مثلا- أحبّ ارتداء التنانير الملونة وكلما وجدت قصة أحبّها أو لون مفضل تفاجئني الأسعار السعر عادة يبدأ من 250 ريال إذا كان نوع القماش ممتاز. الفكرة الحلّ: اقتنيت مجموعة أقمشة قطنية بجودة عالية – كلّفت حوالي 200 ريال – وأخذتها لخياط نسائي انجز العمل على خمسة منها بـ 400 ريال، بحسبة سريعة لو كنت سأقتني تنانير مماثلة سأصرف 1000 ريال أو أكثر، لكن التفصيل وبمقاس وفكرة مناسبة لم يكلف أكثر من 600 ريال. وهذا مثال بسيط. توقفت عن شراء الكتب بعد صراع عنيف مع نفسي! أصبحت أذهب لمجمعات التسوق للفرجة وأقاوم ويبدأ الحساب الذهني ليصبح كلّ شيء أمامي قابل للانتظار.

بذكر السفر والتخطيط، هناك شيء آخر أقوم به، في نهاية الأسبوع ابحث عن مواقع سياحية واقرأ آراء الزوار وتقييمهم لكلّ شيء وأدوّن، القائمة كبيرة جداً وقد لا تكفي للرحلة المنتظرة لكنّني وقبل السفر بقليل سأقوم بفلترتها بحسب الأهمية. هذا موقع رائع يساعدكم في التخطيط وصنع رحلة افتراضية قبل سفركم الفعلي، يسجل لكم المواقع والاهتمامات ويحسب لكم يومياً المسافات بين الأماكن والوقت اللازم لزيارتها وساعات عملها. هناك أيضاً فرصة الاطلاع على خطط الآخرين والحصول على أفكار إضافية لكم.

غير السفر يمكن التخطيط لتعلّم شيء جديد، أي شيء خلال إجازة الصيف. شيء تأجلونه من سنوات أو شهور. شيء لم يتوفر لكم تعلمه قبل هذه السنة وبسبب العمل أو الدراسة سيكون الصيف الوقت المناسب لفعل ذلك. في الانتظار ابحثوا عن مصادر تعلم، أو أماكن تعلم وابحثوا عن التكاليف والمعلم الأفضل. يمكن التخطيط لهواية جديدة مثلاً، أو نشاط عائلي. وكلّ هذه الاهداف ضمن خططي وأسعى لتنفيذها إن استطعت.

بالنسبة لي الصيف والنهار الطويل يرتبط بالقراءة، مضى وقت طويل على انهاء الكتب بحماس وسرعة. آنا كاريننا تحدق بي في زاوية المدونة كل مرة أزورها. لم انتهي من الاستماع للكتاب مع أنه ممتع وتولستوي لا غبار عليه. لكنّ المزاج السماعي لا يساعدني كثيراً. استمعت لكتب وبرامج أخرى، قرأت كتب الكترونية واغرق في مذكرات تشايكوفسكي على مهل. كتاب جديد اقرأ فيه الآن ببطء: قطط همنغواي. كتاب بتفاصيل حميمة وهادئة. ستتعرفون من خلاله على همنغواي وذكرني بتدوينة كتبتها عن قططه ذات الأصابع الستة. لكنني أفشل في التخلص من شعوري بالذنب مهما حاولت، أقول الشهية القرائية موجودة وهذا الأهم. للصيف كنت كل سنة أصنع قائمة قراءة، ربما لأنني مشغولة خلال العام الدراسي وأتوقف عن كل شيء مع الإجازة، والآن لا مجال فالعمل على مدار السنة. لكن سأشارككم بنصائح سريعة لصنع قائمة قراءة للصيف:

– راجعوا قوائم سابقة. كتب كنتم تريدون قراءتها أو توصيات أصدقاء تنتظر، زوروا مفضلة متصفح الإنترنت أو مفضلة تويتر أو قائمة To Read الخاصة بكم في موقع Goodreads. ستجدون عناوين واقتباسات تنعش ذاكرتكم بعيداً عن الانشغالات اليومية. ويمكن أنّ الكتب التي كانت تشعركم بالذنب لهجرها ستكون مناسبة.

– اختاروا كتب تناسب الوقت. الصيف يتخلله أوقات انشغال وأوقات فراغ (شهر رمضان مثلاً مناسب جداً للقراءة) قسموا الكتب على الصيف بحسب حجمها ونوعها. كتب للرحلات البرية، كتب للرحلات الجوية الطويلة، كتب للانتظار في المحطات. والقائمة تطول.

– ماذا أقرأ؟ حسناً هذا لمن لديه كمية كتب هائلة ويبدأ بالغرق فيها تدريجياً. أو سيقتني كتب للصيف مبنية على كتب قرأها سابقاً. أحبّ هذا الموقع وأتوقع أنكم تعرفونه What to read next? موقع تضعون فيه كتاب انتهيتم منه ويختار لكم كتب أخرى لتتبعه، أو هذا الموقع Your next read وفيه شبكة اجتماعية تابعة ومراجعات ويرتبط بـ Goodreads وأيضاً تبحثون فيه عن قراءتكم التالية باستخدام عنوان كتاب انتهيتم منه.

أحاول جاهدة ألا أفقد تسلسل أفكاري وأنا أدوّن الآن.

شاهدت وثائقيات كثيرة خلال الفترة الماضية وأعدكم بأنني سأكتب عنها بإذن الله، هناك بعض التدوينات التاريخية والأدبية، وقراءات في كتب وصور وترجمات. كان رأسي يدور من يناير الماضي وقد أتمكن من تثبيته أخيراً. في حلقة البودكاست السابعة والتي أنشرها يوم السبت القادم سأتحدث عن الفنادق، بعض الأفكار المرتبطة بالفنادق والسكن فيها واختيارها بمناسبة التخطيط للصيف، هذا استطلاع رأي سيسعدني مشاركتكم فيه. سريع وخفيف ونتائجه سأطلعكم عليها يوم السبت.

“a portrait of my children, once a week, every week, in 2014.”

أحبّ المشاريع السنوية على الرغم من أنني فشلت في بعضها، لكنّني أتابعها بحماس وأشجع من يقوم بها في أي مجال. مررت صباح اليوم بهذه المدونة اللطيفة والمنوعة. صاحبة المدونة اختارت مشروع صور (52 أسبوع) للسنة الحالية، ستكون الصور التي تلتقطها مجموعة بورتريهات لأسرتها –أطفالها بشكل خاصّ- وبدأت فعليا تسجيل هذه الصور ونشرها في المدونة، كمية الحبّ والسعادة فيها لفت انتباهي، في إحدى الصور التقطت صورة لبطنها وهي تحمل صورة لأشعة السونار الخاصة بالجنين في بطنها وأعلنت: “اليوم أخبرنا الطبيب بأنها بنت.” لم أتابع المدونة من بدء التجربة وجئت لأتعرف عليها بعد حين، أتصور اهتمام المتابعين من البداية ودهشتهم معها وفرحهم بالخبر السعيد. يمكنكم أيضاً متابعتها هنا.

بذكر المواليد والأطفال قرأت اليوم عن دراسة تجعل القلب يرقص، تتحدث عن رائحة المواليد الخاصة وتأثيرها على الأم والنساء عموماً. الباحثون راقبوا ثلاثين سيدة طُلب من كل واحدة منهنّ “شمّ” بيجامة طفل مولود. نصف السيدات أمهات فعلياً ونصفهنّ الآخر بلا أطفال. لكن في الحالتين وجد الباحثون أنّ رائحة المولود أثرت في دائرة المكافأة Reward System في الدماغ وهي الخلايا التي تخلق السعادة ومشاعر السرور. كأن السيدات تعاطين الكوكاين أو الشوكولا! لا يعرف الباحثين ما يجعل رائحة الأطفال تؤثر بهنّ بهذه الطريقة لكنّهم يعتقدون بأنّها مكونة من 250 عنصر كيميائي. يقول أحد الباحثين المشاركين في الدراسة بأنّ الرائحة تؤثر في الجميع لكنّها تؤثر في أمّ المولود بشكل مختلف. تخلق هذه الرائحة رابطة مشاعر بين الأمّ والطفل وهذه الرائحة تدفعها للاهتمام به.

لا تقرأ هذا الكتاب

grossmannovel

المرّة الأولى التي عرفت فيها قوة الترجمة والنقل كانت منذ سنوات بعيدة. كان أقاربي الصغار يسألون عن معنى كلمة أو عبارة في مشهد فيلم بلا ترجمة، وكنتُ ارتجل إذا لم أجد المعنى أو أحرّفه قليلاً حسب ما تقتضيه الفئة العمرية. الترجمة تأخذ أشكالا كثيرة في حياتي ولا ترتبط بنقل كلمة من معنى إلى آخر. هناك الصور، والمشاعر، والحكايات والقدرة على نقلها وتحويلها وإشباعها بالتفاصيل المناسبة.

علمتني والدتي القراءة بعمر الثالثة، بذلت جهداً جيداً لكنّها نسيت العملية الدقيقة التي نجحت بها. الترجمة بدأت مع القراءة – على الأقل بالنسبة لي- كان الأطفال في الروضة يقرأون القصص المصورة ويتجاوزون النصّ المكتوب لأنه لا يُفهم ولا يعني لهم شيئاً. في وقت قراءة القصة تجلس المعلمة في زاوية المكان وتترك لي القصة بصورها وكلماتها، أقرأ بلا تردد، كان الأمر بمثابة معجزة وربّما لعنة! لأنني لم أتوقف من ذلك الوقت عن قراءة كل شيء الورق، الصور، اللوحات، الرموز، الوجوه والسماء.

مع تعلم القراءة بدأ تعلم لغة ثانية –الإنجليزية- كانت الفكرة الطريفة في تعلم هذه اللغة هي محاولة والديّ إيجاد مساحة للحديث بعيداً عن فهمنا. وكلما كبر أحدنا انظم للفريق وأجاد لغته بدوره. ومع مرور السنوات وتمرين لغتنا بمشاهدة برامج تلفزيون للأطفال والكبار وأفلام بلا ترجمة وقراءات أصبحت عضلة اللغة الإنجليزية متينة. أكثرنا حظاً أختي الصغرى التي جاءت في عصر الإنترنت وبيت تستخدم فيه اللغة بموازاة اللغة الأم ولا تنقص من قيمتها. أصبحنا بحاجة لمساحة سرية جديدة: الإسبانية ربما؟

سأسّرع الوقت حفاظاً على تسلسل أفكاري ولأنني أعرف أن الاستطراد جينة وراثية. بدأت التدوين في 2005م تقريباً، تنقلت بين عدة شركات استضافة ومدونات، كتبت بالتزامن مع مدونتي في منتديات الكترونية ومجلات وصحف محلية ودولية. لم يتساءل أحد عن المعلومات التي ابني عليها مقالة؟ من أين جاءت الأفكار الفريدة والجديدة وقصص لأراضٍ لم تطأ بعد؟ كنتُ أترجم الأشياء الرائعة التي أجدها وأعلم بأنّ الكثير لا يجيدون اللغة الإنجليزية فأنقلها لهم بطريقة مختصرة ومحببة. كلّ تدوينة كانت بمثابة بحث صغير وجمع للمصادر وتلخيص وترجمة. أكثر من 80% من محتوى تدويناتي هنا والمعلومات التي انشرها على حساباتي في الشبكات الاجتماعية: محتوى مترجم عن الإنجليزية. ومع أنني أشير إلى مصادري واعرض مواقع ومجلات ووثائقيات بلغتها الأصلية لمن يريد تجاوز حديثي والوصول للمصدر مباشرة إلا أن الكثير من المتابعين يجهل عملية الترجمة والنقل التي تحدث.

قبل شهر تقريباً صدرت رواية “كلّ شيء يمضي” للروسي فاسيلي غروسمان. ترجمتُ الرواية وصدرت عن دار أثر للنشر، كانت الفكرة مثل مغامرة مجنونة ترددت فيها كثيراً. لكنني كنت أقول لنفسي: أنتِ تترجمين بشكل يومي دون أن تشعري بذلك! حتى عندما أشاهد برنامج تلفزيوني واتصل بصديقة وأخبرها بتفاصيله، هذه التفاصيل ترجمة. استمرّت حالة الإقناع الداخلي بالإضافة للتشجيع الخارجي حتى قررت البدء بالعمل. لم أعرف فاسيلي غروسمان أبداً من قبل ولم يعبر اسمه ذاكرتي. لكن القراءة الأولية عنه وفي كتابه أثارت بي الحماسة. الرواية تستعرض الحياة السوفييتية تحت الحكم الشيوعي، شخصياتها قليلة مقارنة بروايات أخرى قرأتها. إيفان غريغوريفيتش معتقل لثلاثين عاماً يخرج ويعود لحياته. لم تكن العودة سهلة، وفيض الذكريات يزيدها صعوبة. الرواية تلقي الضوء على ستالين ولينين وعلى حصار ستالينغراد الشهير، تتحدث بتفصيل مرعب عن المجاعة الأوكرانية التي حصدت الملايين وشلّت غذاء أوروبا – كانت أوكرانيا آنذاك تلقّب بسلة خبز أوروبا- . لم تكن الترجمة سهلة، كانت الفكرة التي تحاصرني تقول: فكري في شخص لا يعرف الاتحاد السوفييتي، ولا الشيوعية، وليست لديه أي فكرة عن كثير من الأحداث التي نقلتها. وجدت في الهامش فكرة جيدة لكن حاولت كثيراً تجاوز الهوامش التي تشرح أكثر من اللازم، في ذهني دائما ماركيز وهو يتبرّم من المترجم الذي يعتقد بأنه يعرف كل شيء حتى أنه يفسر ما كتبه الروائي وكأنه له!

عزلت نفسي بعيدا عن أي عمل روائي آخر ما استطعت، وتابعت الأخبار المحلية الروسية، وبحثت عن قصاصات تاريخية تدخلني في حياة فاسيلي بشكل أفضل. ظننت أنني أعرف الكثير في التاريخ، لكن ما وجدته في صفحات الرواية والإشارات فيها اذهلني. استمعت للموسيقى الشعبية الأوكرانية –والروسية- في الخلفية، قد يبدو هذا التفصيل مبالغاً فيه لكنّني أحببته. استخدمت أقلام رصاص بلاكوينغ التي تحدثت عنها في تدوينة سابقة هنا، وكتبت الترجمة في دفتر مقسم بصفحات ملوّنة وكنت أقيس تقدمي في العمل بتغير لون الصفحات، فصل بعد آخر وأتوقف قليلا لطباعة ما كتبته. لماذا لم تكن الترجمة مباشرة على الكمبيوتر؟ لأنني لا أجيد البدء بالعمل الكترونيا ولأن الطباعة تتيح لي فرصة التعديل ووضع مفردة مناسبة مكان أخرى.

كانت والدتي تطلّ من حين لآخر وأنا منهمكة في العمل فأطرح عليها سؤالاً وتجيب بسرعة وتأكيد لتصبح المفردة التي بحثت عنها لساعات في يدي! أذكر أنني علقت بشكل مأساوي في تعريف لحذاء لتأتي وتقول “حذاء بعنق” ببساطة حذاء بعنق مناسبة جدا وكانت بالفعل الكلمة التي بحثت عنها وفشلت. أذكر أنّ قطتي لزمت المكان الذي عملت فيه ولم تتركه حتى ليلة الترجمة الأخيرة، مضت عدة أشهر مثل حلم وأنا أردد أسماء الشخصيات بيني وبين نفسي وأعرف بأنني لن أنساها. قد تكون هذه الرواية رواية عادية جداً، أو مذهلة. إنها مثل الروايات التي تجلس على الرفّ حتى تقرؤوا عنها في توصية صديق تثقون به. أو تمرّ في حديث أدبي على شاشة التلفزيون فتبحثون عنها في محرك البحث وتلتقطون أطرافها. لو لم أترجم “كل شيء يمضي” لما تعرفت أسرتي على أهوال مجاعة أوكرانيا، لقد شاهدوا ذلك في وجهي وأنا أكتب عن الجوع وطبقي ممتلئ. لما تعرفت صديقتي على فاسيلي غروسمان وبحثت عن كتبه الأخرى لتسبقني بالقراءة. ولما تباشر الجميع بالكتاب ووضعوه على رأس قوائم تسوقهم في معرض الكتاب.

ما يحزنني فعلاً، والآن سأخبركم بالهدف الذي كتبت بسببه هذه التدوينة: أن الكثير ممن ابتاعوا الكتاب أخبروني بطريقة أو بأخرى أنّ الهدف من شراءه ترجمتي له، واحتفوا به بشكل كبير أثار حسد مدونتي وكتاباتي السابقة وتغريداتي. كنت وسأبقى مترجمة بطريقة ما لكنني لا أحبّ ارتباط تجربتي بكتاب. فالاحتفاء والحرص الذي وجده الكتاب مرعب، خصوصاً عندما يقتنيه البعض بعيداً عن محتواه، عن القصة التي يرويها. قد تصدمكم الأحداث وقد تكون الرواية ثقيلة على قلوبكم، أو مملة فتتركوها. أنا لا أحبّ اقتناء الكتب قبل معرفة محتواها ولو بشكل مختصر. لذلك، أرجو أن تقرؤوا عن فاسيلي غروسمان، وعن التاريخ الذي عاشه. شاهدوا وثائقياً عن ذلك، أو برنامج اخباري. إذا وجدتم في أنفسكم الاستعداد والاهتمام لقراءة “كل شيء يمضي” افعلوها بلا ترددّ.

حتى ذلك الحين نصيحتي لكم ستبقى: لا تقرأ هذا الكتاب، حتى تعرف ما بداخله!

تولستوي باكياً.

.
.

“…لقد عبّر تولستوي عن رغبته في لقائي. إنّه شديد الاهتمام بالموسيقى. وبالطبع قمت بمحاولة ضعيفة لإخفاء نفسي لكن من دون نجاح. جاء إلى معهد الموسيقى وأخبر روبنشتاين بأنه لن يغادر إلا إذا هبطت للقائه. إن موهبة تولستوي الهائلة موهبة أجد نفسي في انسجام تام معها. إن معظم القوم سيعتبرون مقابلته إطراءً وتناغماً، ولم يكن ثمة طريقة لتفاديها. وحين قدم أحدنا إلى الآخر شعرت، بالطبع، بأنني موضع إطراء وسرور، لذا قلت إنني مبتهج، وإنني شاكر، في الحقيقة، كل الهراء المحتوم وليس فيه ما هو حقيقي. أريد أن أعرفك بشكل أفضل –قال لي-: أريد أن أتحدث معك عن الموسيقى. واستنادا له، فإن بيتهوفن يفتقر إلى الموهبة. وكانت تلك هي نقطة انطلاقه. هكذا بدأ، هذا الكاتب العظيم، هذا الدارس الألمعي للطبيعة البشرية، بنبرة قناعة قصوى، بأن تفوه بملاحظة كانت بلهاء وعدائية لكل موسيقي. ما الذي يفعله المرء في ظروف كهذه؟ يحاجج؟ طيب، لقد بدأت المحاججة فعلا، لكن أيمكن للمرء أن يواصلها جديا؟ ففي نهاية الأمر، كان الشيء الملائم الواجب عمله هو أن ألقي عليه محاضرة. لربما فعل هذا بالضبط شخص آخر. لكنني كتمت عذابي وواصلت التمثيل، أعني تظاهرت بأنني مجامل جدا وودّي. لقد زارني عدة مرات منذ ذلك الحين. ورغم أن معرفتي لتولستوي أقنعتني بأنه متناقض ظاهرياً، لكنه رجل طيب ومستقيم، بل إنه بطريقته الخاصة، حساس للموسيقى، مع ذلك فإن معرفتي به، كما هي مع أي شخص آخر، لم تجلب لي شيئاً سوى القلق والعذاب.

حين التقيت تولستوي تملكني الرعب والإحساس بالخرق. بدا لي أن أعظم دارسي الطبيعة هذا سيخترقني، بنظرة مفردة، إلى المواطن الأعمق في روحي. إنني لم أستطع، كما ظننت، النجاح في أن أخفي عنه كل الهراء الذي يقع في قعر روحي وأن لا أريه سوى الجانب المشرق من الأشياء. إذا كان عطوفاً كما فكرت، كما ينبغي له أن يكون وبالطبع كما هو عليه، كطبيب يفحص جرحاً ويعرف كل المناطق المؤلمة، فإنه سيتجنب برقة ورهافة لمسها وإشارتها، لكنه بتلك الحقيقة –بالذات- سيجعلني أعرف أنه من غير الممكن إخفاء شيء عنه، وإن لم يكن ودياً على الأخص فإنه سيطعن بإصبعه مصدر الألم تماماً. كنت خائفاً إلى حد مروع من كلا الاحتمالين. لكن لا الأول ولا الثاني حدث فعلاً.

في أعماله يظهر هذا الدارس الأكثر تعمقاً في الطبيعة البشرية، في تعاملاته الاعتيادية مع الناس بصفته رجل البساطة، والتماسك والإخلاص، لا يكشف إلا عن القليل حقاً من تلك القدرة الكلية التي كنت أخشاها كثيراً. إنه لم يتجنب اللمس لكنه لم يسبب الألم المقصود. كان من الواضح أنه لا يعتبرني موضوعاً لأبحاثه بل أراد ببساطة أن يتحدث عن الموسيقى، التي كانت تهمه في ذلك الوقت. لكنني ربما لم أكن في حياتي قط موضع إطراء وتأثر في غروري كمؤلف موسيقي كما حدث حين وجدت تولستوي وهو يجلس بالقرب مني ويصغي إلى الحركة المعتدلة البطء في رباعيتي الأولى، يتفجر باكياً.

في الشتاء كان لدي العديد من الأحاديث المثيرة مع الكاتب الكونت تولستوي، لقد كشفت لي الكثير وأوضحت الكثير. لقد أقنعني بأن الفنان الذي يعمل ليس باستجابة إلى دافع داخلي بل بحساب حريص للتأثير الذي سيحققه، الذي يقسو على موهبته بهدف الإرضاء، والذي يجبر نفسه على إشباع الجمهور، أن رجلا كهذا ليس بفنان حقيقي، وأن أعماله لن تدوم وأنّ نجاحه وقتي. لقد تحولت بالكامل إلى حقيقة هذا الرأي…”

– من كتاب سيرة تشايكوفسكي الذاتية لـ ألكسندرا أورلوفا.

ثلاثة أيام مع غابو: اليوم الثاني \ الثالث.

vcm_s_kf_repr_722x721

الثلاثاء، 9 أبريل 1996م

التاسعة صباحاً

أضاع غابو آلته الكاتبة الأولى قبل خمسين عاما من اليوم. الآلة التي كتب عليها قصته “الإذعان الثالث” وهي أول قصة نشرت له. كان طالب قانون تعيس، يسكن في نزل للشباب بأجر زهيد في بوغوتا. كان يشتاق لحرارة ساحل الكاريبي ونادراً ما كان يذهب لمحاضراته. القانون تخصصّ لم ينجح في جذب انتباهه كما كانت عائلته تتوقع. خلال وقت الغداء، في التاسع من أبريل 1948م وبينما كان غابو يستعد للجلوس وتناول طعامه وصله خبر اطلاق النار على الناشط السياسي والمرشح الرئاسي خورخي غايتان. كان غايتان المرشح الذي هز التركيبة السياسية التقليدية لكولومبيا. يخبرنا غابو باللحظة التي وصل فيها إلى الشارع ليجد الناس وقد تلوثت مناديلهم بدمائه. احترقت شوارع بوغوتا وضاعت آلته الكاتبة في الأحداث. شُلّت كولومبيا وتعطلت الجامعات. وبعد عدة أشهر في قرطاجنة وعندما كان غابو بعمر التاسعة عشرة بدأ حياته الصحفية بكتابة الافتتاحيات.

“كنت أمشي في أحد الأيام وقابلت زافالا، محرر جريدة الاونيفرسال جالسا أمام آلته الكاتبة خارج الميدان ثم قال لي: أعرفك، أنت الشاب الذي يكتب القصص القصيرة في الاسبكتادور، لماذا لا تجلس معي هنا وتساعدني في هذه الافتتاحية؟

كتبتُ شيئاً ثم أخرج قلمه الرصاص وشطب الكثير من الأجزاء. كتبت مرة ثانية ولم يشطب سوى بعض المقاطع. في اليوم الثالث من هذه المهمة أصبحت أكتب بلا تعديل. لقد أصبحت صحفياً”

لم يجلس غابو بجانبي اليوم. ولم يرتدي قميص الغوايابيرا الأبيض. لكنه يرتدي اليوم قميصاً فيروزياً بأكمام قصيرة. ما زال حذاؤه أبيض. تواصلنا بعيد لكنني ما زلت معلقة بقصصه.

“بدأتُ أكتب لكسب المال بعمر الثالثة والأربعين” يخبرنا غابو ويتابع “اشتريت منزلي الأول بكويرنافاكا المكسيكية في 1970م، بعد نشر قصتي الأولى بخمسة وعشرين عاماً. كانت حساباتي كالتالي: إذا أردت أخذ الأولاد للسينما عليّ كتابة اثني عشر صفحة، وإذا أردت أخذ الأولاد إلى السينما ثم تناول البوظة سأحتاج إلى كتابة عشرين صفحة.

عندما كنت في باريس لم التزم بجدول كتابة معيّن، كتبت غالبا في الليل. وفي النهار كنت أقلق بشأن طعامي. الآن أعرف أنه من الأفضل الكتابة خلال النهار، على جهاز كمبيوتر، وبمعدة ممتلئة وفي برودة جهاز التكييف”

gabo_y_fidel

الواحدة بعد الظهر

لم يكن بالإمكان مقاومة ذلك. أعني بدء الحديث عن فيدل كاسترو. كنا –أو بدقة أكبر كنت انتظر ذلك- ننتظر اللحظة المناسبة. أراد غابو الحديث عن الأخلاقيات الصحفية: هل يقرأ الصحفي مستنداً مهمل يحمل إمكانيات خبطة صحفية؟ كان سؤاله فرصة مناسبة. وأجبته.

“لقد حدث معي موقف مشابه. في العام 1991م كنت في الاحتفالية الأولى لمؤتمر الدول الايبرو-أمريكية في غوادالاهارا. قيل لكاسترو أنّ عليه تحديد كلمته بسبع دقائق، هو وغيره من الرؤساء. انتظر الجميع على أحرّ من الجمر موعد كلمته، فهو معروف بكلماته المرتجلة الطويلة – في اليوم التالي لانتصار ثورة 1959م القى في الجموع كلمة امتدت لسبع ساعات – لكنّ كاسترو التزم بالوقت، وتحدث لسبع دقائق بالضبط. بينما تحدث رئيس جمهورية الدومينيكان لخمسة وأربعين دقيقة. خلال الاستراحة تدافع الصحفيون وأنا معهم حول فيدل كاسترو. كان أكبر من الحياة نفسها بحضوره اللامع. زيّه العسكري حائل اللون وياقته مهترئة. سار للخارج والحشد يتبعه. بدت عليه علامات السعادة والإعجاب، لقد أحبّ ذلك بالتأكيد.

مدّت له سيدة صورة بالأبيض والأسود مطالبه بتوقيعه. وسأله شخص آخر “هل كان التحدث لسبع دقائق صعباً؟” “لقد خُدِعت!” قال كاسترو “قيل لي أنني إن واصلت الحديث لمدة أطول فإن أجراس غوادالاهارا ستُقرع”.

لاحظتُ ورقة صغيرة مجعدة إلى جانب كراسة صفراء حيث كان فيدل كاسترو جالساً. عندما غادر الحشد وراءه، عدت إلى مكانه والتقطت الورقة وفتحتها لأجد عبارة كُتبت بخطه الصغير والمتراكم ” كم كانت مدة حديثي؟” وعلى الكراسة الصفراء كتب كاسترو قائمة بأسماء الرؤساء ومدة حديث كلّ منهم بالثانية. تركت الورقة ورائي وندمت على ذلك للأبد”

قال غابو “كنت سألتقطها بالتأكيد! صدقيني لو كان يعتقد بأنها مهمة لن يتركها وراءه. كنتُ سأحتفظ بها كتذكار”

وكما تمنيت بدأ غابو بالحديث عن كاسترو. تحدث عن كوبا بصراحة، باهتمام وشغف. تحدث كطالب جامعي علق على جداره صورة تشي غيفارا. لكنّه عندما تحدث عن كاسترو لم يتحدث عنه بسوء، ولم يفش شيئاً. قال إنه يتحدث عنه بعاطفة ولا يصدر عليه أحكاماً. وأخبرنا بأنه من أحبّ الأشخاص إليه في العالم أجمع.

“إنه دكتاتور” علق أحد الحاضرين.

“أن تكون لديك انتخابات ليست الطريقة الوحيدة للديمقراطية” علّق غابو.

لكن الصحفي الأمريكي في المجموعة تابع استفزازه لغابو فاضطرّ للإجابة. تحول صوته للصرامة وقال له “هذه ليست مقابلة صحفية. إذا أردتُ التعبير عن رأيي في كاسترو سأكتب ذلك بنفسي وصدّقني سأفعل ذلك بشكل أفضل”.

يبدو أن شعر بالذنب بعد انفعاله. وصف لنا غابو تقريراً كتبه عن فيدل كاسترو “أعطيته إياه ليقرأ. كان تقريراً ناقداً. تحدثت فيه عن وضع حرية الصحافة الكوبية. لكنه لم يعلق على ذلك. ما أثار انزعاجه حقاً حديثي عن تناوله لثمانية عشر ملعقة بوظة بعد وجبة غداء في أحد الأيام. هل تناولت هذه الكمية فعلا؟ سألني بصورة متكررة.”

العشاء

تناول العشاء معنا في “لا فيترولا” أكثر مطاعم قرطاجنة كوزموبوليتانية. ديكور المكان كولونيالي إنجليزي أكثر منه إسبانياً. مجموعة من العازفين الكوبيين يعزفون أغنيات تقليدية بملابسهم البيضاء. في ذلك المكان يجتمع أفراد الطبقة العليا في كولومبيا ويتناولون طعامهم في العطلات. قد يمر الرئيس الكولومبي لتناول شراب. وممثلي المسلسلات التلفزيونية الشعبية، تجار المخدرات، ويحظى أبناء كولومبيا الأرستقراطيون بمواعيدهم الغرامية الأولى. يأتي بعض المترفين المحليين إلى المكان أيضاً. لائحة الطعام هنا تشبه التي تقدم في مطعم نيويوركيّ. صلصة السلطة أعدت بخل البلسميك وجبن الموزاريلا هنا طازج والنبيذ كذلك. هذا جيد بالنسبة لكولومبيا. جلسنا للانتظار في غرفة صغيرة. نحتسي شراب البنش –عصير فاكهة وبهارات يضاف له شراب كحولي عادة – وصل غابو مرتدياً بزة كاملة Jumpsuit بلون أزرق داكن، اقفل سحابها من سرته وحتى صدره. كاريبي في النهار، أما في الليل فيبدو وكأنه قفز من البوم موسيقي للديسكو أو الفنك Funk.

لحذائه المسائي نفس تصميم الذي يرتديه في النهار إلا أنه رمادي في هذه المرة. طلب الويسكي. ثم صحبنا لغرفة خاصة عند المدخل. جلس بيني وبين آندريا.

اللائحة ثابتة “كوسة مقلية يتبعها اختيارك بين الربيان المطهو في صلصة جوز الهند، أو السمك الأحمر المطهو في الكريمة”

“هذا ثقيل علي” قال غابو متبرماً.

اقترب المضيف منه وسأله “يمكنني تقديم السمك الأحمر مشوياً وبلا صلصة أو مع الباستا.”

“أي نوع من الباستا؟” سأل غابو

“كيف تريدها؟” رد المضيف.

“بسيطة” قال غابو.

“ما رأيك بالباستا في المرق؟” سأل المضيف.

“رائع، أريد هذه”

ثم طلبتُ نفس الطبق، كنت محمومة طوال اليوم.

“اثنان من هذه” قال له غابو.

عندما قُدّم لنا النبيذ لم يشرب معنا، وواصل شرب الويسكي.

المطعم يمتلئ. طاولتنا في الواجهة والكلّ ينتبه لغابو. طلب إقفال الباب، وطلبتُ ذلك من النادل.

مراسل من نيوزويك يجلس بجانبي، جاء من بيونس آيريس ليقابل غابو. أتحدث معه قليلاً لكن ما أريده حقاً هو الحديث مع غابو وعدم اقتسامه مع زملائي. التفتّ إليه وتحدثنا في مواضيع شتّى. يريد أن يعرف لماذا وأين أسكن في نيويورك؟ أخبره بأنني أعيش في قرية غرينتش وأسأله هل يحبّ نيويورك؟ ويجيب: جداً. إنما ليس في الشتاء لأنه يحب المشي في شوارعها أكثر من أيّ شيء آخر. قلت له بأنني سأصحبه إلى قرية غرينتش ووعدني بالاتّصال. تحدثنا عن كوبا، وبارانكيا، وبيل كلينتون، مجلة النيويوركر ومجلات الأحد. يخبرني بالتفصيل عن قصة يريد كتابتها عن قميص حريري أصفر يرتديه عندما يشعر بالحبّ. كأسه فارغ فيشرب من كأسي. ويقول “أحب صحبة النساء. أعرفهم أكثر من معرفتي بالرجال. أشعر بالراحة حولهم. كبرتُ محاطاً بالنساء”

tumblr_m48kx6eRoS1qhby6so1_1280

الأربعاء، 10 أبريل 1996م

التاسعة والنصف صباحاً

غابو يجلس على رأس الطاولة من جديد، يقرأ في أوراق يبدو أنّها مسودة لشيء ما. ينتظر وصول الجميع. يعرف أنّ الطلاب خرجوا للتنزه بعد العشاء. ينظر بدهشة لآخر الواصلين، ربما بشيء من الحنين. آثار النعاس بادية على الجميع. لم نستحمّ. نقاوم صداعاً رهيباً. بينما يبدو غابو نظيفاً ولامعاً في لباسه الأبيض.

أجلس وانتظر رأيه وتعليقه على ما كتبته. الوقت يمرّ. بقيت ساعة على انتهاء الورشة. ينظر إليّ أخيرا ويقول “لسيلفانا ذائقة موسيقية جيدة. إنها مثلي تحبّ فان موريسن” كانت مقالتي عن الصعوبات التي يتعرض لها موسيقيو الروك الشباب في كوبا حيث يغيب الدعم الحكومي لفنّهم. قال غابو بأنني كتبت مقالة جيدة، ولم يكن بحاجة إلى تعديلها. لكنه اعترض على بعض التشبيهات التي استخدمتها واعترض على الحديث بشكل متكرر عن مشكلات اجتماعية وثقافية في كوبا قد تحدث في أيّ مكان في العالم. هل كنت سأكتب عنها لو لم تكن في كوبا؟ وبعد نقاشنا يعود غابو إلى كرسيه. قدماي لا تلمسان الأرض. أشعر بأنني ريميديوس الجميلة، إنني ارتفع في الهواء.

لدى غابو تعليق أخير “أراكم الآن، في خوفكم، في تصرفاتكم الخرقاء وتساؤلاتكم وأتذكر نفسي عندما كنت في عمركم. أخبركم عن تجاربي وأحظى بفرصة رؤية نفسي. لقد مضت خمسون عاماً على بدايتي بالكتابة في كلّ يوم من حياتي. إذا لم تحب عملك، اتركه. لا يقتلك شيء أكثر من عمل لا تحبّه. وإذا كنت تحبّ عملك فلديك طول العمر والسعادة الأكيدة”.

اصطففنا في طابور باتجاهه، نحمل نسخاً من كتبه. “مئة عام من العزلة” و “قصة موت معلن” و “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” وغيرها. نطلب منه توقيعها ويفعل ذلك ثمّ يصافحنا جميعاً. اطلب من روبن رؤية ما كتبه له غابو على نسخة “خريف البطريرك” خاصته وأقرأ “من بطريرك ورشة العمل” أما سيزار فيطلب منه توقيع الكتاب لطفله الجديد ويكتب له “إلى رودريغو، في بدايته”.

لم أحضر معي كتاباً ليوقعه. انتظرت بجانب الباب. نظر إليّ مبتسماً ابتسامته العابثة نفسها التي رأيتها أول مرة. قال لي “وأنتِ سيلفانا، ألستِ حزينة على نهاية الورشة؟ ألن تبكي؟” 

* لقراءة النصّ الأصلي لهذه المقالة تجدونها في كتاب “Latin American Writers At Home”