بدا صوت العنوان في رأسي مناسبًا. اعتدت كتابة التدوينة أولًا والعنوان لاحقًا قبل النشر. لكن مشاعري تجاه المكان والغياب الطويل عنه دفعني للتفكير بـ استهلال. العودة للبدء من جديد. موسم جديد في الحياة. والمصادفة الطريفة أنّ المدارس تبدأ غدًا في المملكة.
استعيد حماسي ليوم الدراسة الأول وجدّة الأشياء والأماكن. كلّ شيء حولي يهيئني لانطلاقة مختلفة.
قضيت عطلات صيفية طويلة في العقدين الأولى من حياتي وأقول طويلة لأننا نترك المنزل وننتقل إلى نجد حيث العائلة الممتدة. لا تترك والدتي المنزل في حالة من الفوضى، الغرف نظيفة ومرتبة بعد حزم الحقائب وثلاجة المطبخ خالية من أي أطعمة قد تفسد خلال الأسابيع التي نغيبها. الأرضيات نظيفة والتكييف على درجة موزونة تبقي المنزل في حالة مناسبة للوصول المرهق والنوم فورًا! كان لمنزلنا رائحة مميزة أظنها رائحة خلو المكان منّا؟ اللحظة التي يفتح فيها والدي الباب ونندفع راكضين وأقف للحظات لتأمل غزل السجاد المنتفش، الستائر الغافية، وسريري البارد.
مرّت السنوات وتغير شكل العطلة الصيفية تمامًا. لم أحظ بالكثير من الفواصل المنعشة منذ انتقلت للعيش في الرياض والتزمت بالعمل في وظائف بدوامٍ كامل بدلًا من العمل المستقل. تشتدّ حرارة الجو وأقضي أيامي في الركض بين المهام وتأمل المسافرين عبر منصات التواصل ومعارض الصور والفيديو المشاركة. صيف مختلف لهذا العام فقد حصلت على عطلتي المنتظرة وأقنعت أخواتي بزيارة اسكتلندا -أدنبره تحديدا- بعد خمس سنوات من زيارتي لها. وانجلترا بشهادة نشرات الطقس والسكّان شهدت يوليو الأبرد منذ العام ١٩٧٠م. كلّ هذا ساهم في رحلة مدهشة استمتعت بكلّ لحظاتها. لم يمتلئ الجدول بالخطط فقط ساعات طويلة من الأنشطة البطيئة، الطعام اللذيذ والكثير من الفنّ.
وكلّ مرة نسافر سوية نجلس للحديث في رحلة العودة عن الأشياء التي أحببناها واللحظات والتجارب التي علمتنا درس جديد أو جانب خفيّ في أنفسنا.
قائمتي العشوائية كانت:
- زيارة معرض البورتريه الوطني في لندن بعد اغلاقه للصيانة ثلاث سنوات.
- تصوير الرحلة على فيلم بدلا من كاميرا رقمية.
- حضور مسرحية Phantom of the Opera بعد مقاومة طويلة.
- تجربة التسوق الرقمي لشراء الكتب من مكتبة Waterstones وزيارة الفرع القريب لاستلامها. هكذا استبعدت التسوق الفوضوي واخترت فقط ما احتاجه.
- المحافظة على مسافة كافية بيني وبين الأقلام والدفاتر، قطعت وعد لنفسي ألا اشتري المزيد منها.
- رحلة بالسيارة ليوم كامل في المرتفعات الأسكتلندية كانت خيار ممتاز للانغماس في الطبيعة.
- النهارات الطويلة كانت هدية مضاعفة.
والآن عودة للموضوع المهمّ، التدوينة هذه ليست للحديث عن عطلتي، بل عن المشاعر التي تتبع العطلات من هذا النوع. العودة للموضوع الرئيسي في حياتي والمشاريع المؤجلة والروتين الذي غادرته لسبب أو آخر. منذ فتحت الباب وعبرت للسنة الحالية وأنا في حالة من الترتيب الدائم وإعادة التهيئة. بدأت بصحتي -وهذا موضوع سأكتب عنه قريبًا بإذن الله- وانتقلت لمساحتي التي أعيش بها بعد أن قررت ألا أؤجل أي شيء بسبب العيش في منزل مؤجر. وانتقلت من المساحة للدوائر الاجتماعية ومنها إلى العمل.
اشتاق كلّ يوم للكتابة والعمل الإبداعي وأبحث عنه في داخلي ولا أجده. استهلك الكثير من المعلومات والصور والمشاعر وأنا مستمتعة جدًا بالتأكيد، ولكن أين يذهب كلّ هذا؟ أريد أن اكتب تأملاتي الطويلة واستكشف الأثر في روحي. اقرأ كثيرًا هذه الأيام، وانتقل من كتاب لآخر بعد عدة صفحات من الملل والانزعاج. أحرك جسدي بشكل أفضل بعد أن تحررت من أثر الإصابات. وكلما صنعت شيئًا يستحق الاحتفاء اكتبه حتى لا أنسى.
وفي هذا الترتيب والبحث الدائم تعلمت تعديل توقعاتي وأولوياتي، وأصبحت تفاصيل محدودة لضمان أثر أكبر. ثمان ساعات من النوم؟ شرب الماء الكافي؟ البقاء في المنزل خلال نهاية الأسبوع مهما كان الخروج مغريًا؟ احتفظت بهذه القائمة القصيرة وأعدتها مرات ومرات فهي ضمان انضباط مزاجي وطاقتي الأفضل لأداء العمل والتواجد في دوائري الهامة.
تخففت كثيرًا، الأثاث والملابس والكتب وكثير من الأشياء التي عندما رأيتها بعد سنوات من الغياب استغربت لم أنفقت مالي فيها؟ وبذكر التخفف عطلت حسابي في تويتر بشكل نهائي الشهر الماضي -أو الذي قبل نسيت- لم أحفظ أرشيف ولم أفكر مرتين قبل تعطيله. لقد توقعت ذلك سابقًا واتخذت قرار عدم العودة إليه وعدت بعد مضي أشهر. هذه المرة خروج نهائي وسأكتفي بالكتابة في مدونتي والحضور المصوّر في التطبيق الأحبّ لدي Instagram.
حضرت الأسبوع الماضي دورة تدريبية في معهد مسك للفنون بعنوان «مقدمة في إدارة المشاريع الفنية». كانت الدورة لطيفة وخفيفة وجمعتني بشخصيات واهتمامات مختلفة. القصة ليست هنا، القصة في الأسئلة العميقة التي ظهرت أمامي خلال الأسبوع وأعادتني للنقطة الأولى: لماذا أكتب؟ ولماذا اشتاق واحتاج للإنتاج الإبداعي؟ السؤال الذي يجيبه حرصي الدائم على إبقاء هذه المدونة حاضرة. صيانتها وسداد رسوم الاستضافة والاطلاع على أرشيفها كلما أضعت بوصلتي. وفي كلّ مرة أقول بصوت مسموع حان الوقت للتوقف واختيار مشروع آخر أو الالتزام بالصمت وإيجاد هواية أخرى، أعود هنا. أرتّب المكان واتأمل رائحته الجديدة الخالية من الأثر، وأفكر في مشروع لطيف سيبقيني في حالة الحماس لنهاية العام. لكلّ أسبوع باقٍ في ٢٠٢٣ سأكتب تدوينة جديدة بلا تصنيف أو فكرة محددة. ما يمكنني التفكير فيه والكتابة عنه سيظهر وهكذا يستيقظ الحبر النائم وتعود الحياة هنا من جديد.
شكرًا لكم، لرسائلكم وتفقدكم وحماسكم للتدوينات التي لم تولد بعد.
.
.
.